أفادت منظمة الصحة العالمية قبل أيام بأن أكثر من 15 مليون شخص في سوريا يحتاجون إلى الرعاية الصحية العاجلة، على رأسهم ملايين النازحين داخليًا. وأضافت المتحدثة باسم المنظمة، مارغريت هاريس، الخميس 2 يناير/كانون الثاني أن نظام الرعاية الصحية في سوريا “يتدهور منذ فترة طويلة”، فيما تعاني كل المرافق الصحية من فجوة كبيرة في التمويل الإنساني.
في ذات السياق، حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في مايو/أيار 2024، من توقف 160 منشأة صحية عن العمل في شمال غرب سوريا، بما في ذلك 46 مستشفى كان سيضطر إلى تعليق عملياته بحلول منتصف العام، لعدم وجوده على قوائم أولويات التمويل الإغاثي من قبل المنظمات الإنسانية.
هذا التدهور الشامل في القطاع الصحي السوري قبل سقوط النظام، لا يعكس فقط حجم المأساة التي عانى منها السوريون منذ عام 2011 نتيجة تأثير النزاع السياسي والانهيار الاقتصادي، بل أيضًا نتيجة عقود من إعادة إنتاج الفساد المؤسسي والمحسوبيات وسرقة الموارد وانعدام الخطط التطويرية، كجزء متأصل في بنية النظام الصحي تحت حكم آل الأسد.
فيما تلقى هذه المسؤولية الضخمة اليوم على عاتق الحكومة الانتقالية لإنعاش هذا القطاع، وتجهيزه استعدادًا لتغييرات جذرية، بدءًا من تحسين ظروف العاملين فيه من أطباء وممرضين وفنيين، وصولًا إلى تهيئة المستوصفات والمستشفيات بما يتناسب مع معايير الصحة العالمية. إلى جانب توجيه الجهود نحو بناء نظام صحي يعزز العدالة في توزيع الخدمات الصحية بين مختلف المناطق، ما يتطلب إرادة سياسية وإدارة رشيدة.
سنوات الانهيار الطويلة
تغيب الإحصائيات الدقيقة والرسمية عن حالة القطاع الصحي السوري منذ عام 2011، لكن التقارير الأممية في السنوات الخمس الأخيرة تشير إلى أن الوضع تفاقم لدرجة لم يعد وصفه بـ”متدهور” كافيًا لنقل ما يحدث على أرض الواقع. حيث أصبحت مراكز الطبابة بطريقة ما انعكاسًا لانهيار الدولة بكل مؤسساتها، بنقص الأجهزة الطبية واحتكار الأدوية من قبل الإداريين، وانعدام المعدات الأساسية وأيضًا تردي البنى التحتية للمشافي عدا عن المحسوبيات والأخطاء الطبية.
وعلى الرغم من أن العدد الأكبر من مشافي سوريا هو من النوع الحكومي، فإن الخدمات التي تقدمها هذه المشافي لم تعد مجانية منذ سنوات، إذ بات يتوجب على المرضى الحصول على المعدات الطبية والأدوية وتقديمها للمستشفى لتلقي العلاج اللازم، عدا عن نقص عدد الأسرة الذي يشكل عائقًا أمام استقبال عدد أكبر من المرضى، حيث يتراوح عدد الأسرة في كل المستشفيات الحكومية في سوريا، بين 450 و470 سريرًا، بعضها خارج عن الخدمة لقدمها. وحتى في المشافي الخاصة لا يتجاوز عدد الأسرة أكثر من 300 سرير في حالة “جيدة”.
وكشفت تقارير عدة -على قلتها- عن مستويات غير مسبوقة من انعدام النظافة داخل مراكز الاستشفاء، حيث أصبحت بيئة العمل غير صحية إلى حد كبير. وتنتشر الحشرات داخل أروقة المباني، بما فيها غرف العمليات الجراحية، ما زاد بمستويات مهولة من مخاطر العدوى وانتقال الأمراض بين المرضى. حتى بات مشهد الجدران الملطخة بالدماء والبقع عاديًا بالنسبة للمرضى.
وأفادت الطبيبة هبة شمسي باشا، وهي مقيمة داخلية في مستشفى مدينة حماة، لـ”نون بوست”، أن ضعف الإمدادات وغياب الرقابة أدى إلى آلاف الانتهاكات الصحية والطبية في القطاع الصحي السوري على مدى السنوات الماضية حتى لم يعد الأمر مستغربًا. مضيفة أن إعادة استخدام الأدوات الطبية المستعملة، مثل القفازات والإبر والقساطر، حوّل المستشفيات من أماكن للعلاج إلى بؤر للعدوى.
فضلًا عن تخلي الكوادر الطبية عن المهنة بما يقارب 10 أطباء يوميًا يتقدمون بطلبات رسمية للحصول على وثائق سفر لمغادرة البلاد. ووفقًا لنقيب أطباء دمشق فإن السبب الرئيسي يعود لتدني الرواتب، إذ يبلغ متوسط راتب الطبيب حوالي 150 ألف ليرة سورية (أقل من 20 دولارًا)، في حين ترتفع تكاليف المعيشة بشكل مستمر منذ سنوات.
وتشير التقديرات إلى أن سوريا فقدت أكثر من 70% من كوادرها الطبية المؤهلة خلال العقد الأخير.
خطط وإصلاحات طارئة
سارع وزير الصحة في الحكومة المؤقتة ماهر الشرع، إلى اتخاذ جملة من القرارات المتعلقة بتحسين القطاع الصحي وكان أولها التخلص من المسميات المتعلقة بالأسد ورموز النظام البائد وعددها 14 مركزًا طبيًا ومستشفى في أنحاء سوريا.
كما منح في قرار آخر، المقيمين الذين استنفدوا فرص النجاح باختبارات الهيئة السورية للاختصاصات الطبية فرصة استثنائية مع الدورة القادمة في أبريل/ نيسان ودورة يوليو/تموز 2025.
وصرّح الشرع في أحد لقاءاته، بأنه سيتم اتخاذ المزيد من الإجراءات مع مرور الوقت لإعادة هيكلة القطاع والتركيز على الشفافية وإنهاء المحسوبيات، من خلال أربع ركائز أساسية تتضمن:
- إدارة المنشآت الصحية: تشمل الإشراف على جميع المشافي، بما فيها الهيئات التعليمية والمشافي التابعة للتعليم العالي.
- التعاون الدولي: توسيع الشراكات مع المنظمات الدولية وأطباء الشتات لتعزيز جودة الخدمات الصحية.
- الرعاية الصحية الأولية: دمج خدمات الرعاية الصحية الأولية مع الأمراض المزمنة والسارية بالتعاون مع الجهات الدولية.
- الرقابة الدوائية: تعزيز ضبط تصنيع وتوزيع الأدوية لضمان وصولها للمريض بجودة عالية.
وأعلن عن نية إنشاء هيئة “التخصصات السورية” التي ستُعنى بالتعليم الطبي وتصنيف الأطباء، مؤكدًا أن نظام العمل الجديد في الوزارة سيقوم على مراجعات دورية للمعلومات كل خمس سنوات، مع توفير فرص التعليم المستمر لتطوير مستوى الكفاءات في البلاد. وزيادة الرواتب الشهرية بنسبة 400% للعاملين في القطاع الصحي، خلال الأشهر المقبلة.
وفي ذات السياق، بدأت الوزارة الانتقالية بتجديد البنية التحتية بشكل جزئي، في العديد من المستشفيات الكبرى، وحلّ أبرز المشكلات التي تعيق استمرار تقديم الخدمات للمرضى. شملت تنظيف وتعقيم عشرات مراكز الاستشفاء ومدّها بالأجهزة الطبية المركونة في المخازن والمستودعات دون استخدام، وتخصيص فرق صيانة تجوب المدن وتشرف على عمليات إصلاحات مكلفة لأجهزة الرنين المغناطيسي وأجهزة التخدير، ما ساهم في تحسين القدرة التشغيلية لهذه المنشآت.
كما أصدر وزير الصحة ماهر الشرع، قرارًا بإلغاء “سنة الامتياز” للاختصاصات الطبية، الذي بموجبه سيمكن للأطباء البدء بممارسة المهنة أو متابعة دراساتهم العليا دون الحاجة لإكمال تلك السنة الإضافية.
ورصد موقع “نون بوست” في هذا الشأن ردود فعل إيجابية تشيد بالقرار على أنه “أفضل ما تم إقراره حتى الآن، لأنه يضع حدًا لإضاعة سنوات إضافية من عمر الطبيب”، ويساهم على المدى الطويل في سد النقص الحاد للأطباء.
اهم شي لغى سنة الامتياز اللي كانت قرار غبي بيضيع سنة من عمر الواحد عالفاضي هلئ بصراحة نظام الاقامة ووضع المشافي عنا بده شغل كتير بس المهم في حدا عرف المشكلة و عم يحاول يحلها و الموضوع بده وقت اكيد فمنقول يارب
— إلِـين (@ellen2000e) January 8, 2025
بالإضافة إلى تسريح آلاف العاملين في القطاع الصحي بمختلف المحافظات، القرار الذي أثار انتقادات واسعة ردّ عليها الوزير موضحًا أن المفصولين ليسوا من الكوادر الطبية المباشرة التي تقدم الرعاية الصحية، وإنما من الفنيين والإداريين.
وكشف أن القطاع كان يعجّ بعشرات الآلاف من السائقين ومدخلي البيانات والموظفين الوهميين الذين يتلقون رواتب دون أداء أي عمل فعلي. وأشار إلى أن معظم هؤلاء تم توظيفهم سابقًا تحت تصنيف “ذوي أهالي شهداء الجيش السوري”.
الوزير استشهد ببيانات مديرية صحة في إحدى المحافظات الصغيرة، حيث بلغ عدد الموظفين 17 ألفًا، في حين أن عدد سكان المحافظة لا يتجاوز 200 ألف. كما بيّن أن هناك آلاف العاملين في القطاع الصحي ممن لا يحملون أي شهادات طبية، مسلطًا الضوء على حجم الفساد الإداري الذي يشكل عائقًا كبيرًا أمام إصلاح المنظومة الصحية.
View this post on Instagram
في هذا السياق، تقول الطبيبة هبة شمسي باشا، المقيمة في مستشفى حماة الحكومي، في حديثها مع “نون بوست”، أن الأطباء الذين واصلوا العمل لسنوات رغم قلة الموارد وتردي الرواتب يستحقون قرارات تنصفهم وتوفر لهم حياة كريمة.
وأضافت: “إن مكافحة الفساد والتعامل الجاد مع ظاهرة الموظفين الوهميين خطوة أساسية نحو تحسين أوضاع الأطباء الحقيقيين وضمان استمرار الرعاية الصحية في البلاد”.
الحاجة الماسّة للإغاثة الدولية
أكد وزير الصحة في الحكومة الانتقالية، الدكتور ماهر الشرع، على الأهمية الحيوية للدعم الدولي في إعادة بناء القطاع الصحي السوري المتدهور. وأشار في تصريحاته الأخيرة إلى أن المساعدات الإنسانية التي تقدمها الدول الصديقة والشقيقة، مثل قطر وتركيا والسعودية، تُعتبر محورية لتحقيق التعافي الصحي في البلاد، خاصة أنها لا تخضع للعقوبات الدولية.
وشدد الشرع على أن هذه المساعدات تمثل شريان الحياة للمنظومة الصحية المدمرة، داعيًا الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية إلى مضاعفة جهودها لتأمين احتياجات المستشفيات والمراكز الطبية.
استجابت العديد من الدول لدعوة الحكومة الانتقالية، حيث وصلت في 30 ديسمبر/كانون الأول 2024 أول طائرة مساعدات قطرية مباشرة إلى مطار دمشق الدولي. وحملت الطائرة، التابعة للقوات المسلحة القطرية، مساعدات إنسانية مقدمة من صندوق قطر للتنمية، تضمنت سيارات إسعاف، ومواد غذائية، وأدوية، وأجهزة طبية.
كما اشتملت على مساعدات فنية للمساهمة في إعادة تشغيل مطار دمشق الدولي بكامل طاقته، فيما تتولى جمعية الهلال الأحمر القطري استلام المساعدات وتوزيعها.
على الصعيد المحلي، واصلت منظمات مثل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) دورها الحاسم في تقديم الإسعافات الأولية والإنقاذ في المناطق المتضررة. كما كان لفريق “ملهم التطوعي” إسهامات بارزة في دعم المستشفيات عبر توفير الأدوية والمستلزمات الطبية.
إضافة إلى ذلك، نظّم الفريق حملات تبرع لتأمين الأجهزة الطبية الضرورية، ما عزز قدرة المرافق الصحية على استمرار تقديم الخدمات خلال الفترة الانتقالية التي تمر بها المؤسسات.
View this post on Instagram
تواجه وزارة الصحة الانتقالية اليوم مهمة مصيرية لإعادة بناء نظام صحي مُدمر يعاني من توقف 80% من المراكز الصحية عن العمل، وشح حاد في الكوادر الطبية والمستلزمات الأساسية. وأكد الوزير أن الحلول تتطلب إعادة هيكلة شاملة تعالج جذور الفساد الإداري لضمان كفاءة الأداء. فيما ستركز الوزارة على إعادة توزيع الأدوية والمعدات الطبية المخزنة بشكل عادل وتوفير الدعم اللازم لإعادة تأهيل المستشفيات وبناء قدرات الكوادر الطبية.
هذه الجهود تشكل بداية الطريق لإعادة الثقة في النظام الصحي، لكنها تتطلب إرادة سياسية ودعمًا محليًا ودوليًا واسعًا. ونجاح هذه الإصلاحات سيكون علامة فارقة في مسار تعافي سوريا وبناء نظام صحي قوي يضمن الرعاية الطبية لملايين السوريين في مرحلة إعادة الإعمار.