لم يكن وصول قائد الجيش العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية مفاجئًا، فقد كان الاسم الأقوى والأكثر حضورًا لتولي هذا المنصب منذ انتهاء عهد سلفه وصاحب الخلفية نفسها العماد ميشال عون.
وطيلة فترة الشغور الرئاسي، التي استمرت لأكثر من عامين، ترددت العديد من الأسماء في بورصة الترشيحات الرئاسية، لكن الاسم الثابت الوحيد كان جوزيف عون.
فرغم المدّ والجزر في حظوظه لحسم المنافسة، كانت فرصته في ارتفاع مستمر مؤخرًا، خاصة بعد وقف إطلاق النار بين لبنان والعدو الإسرائيلي، وازدياد مستوى الاهتمام الخارجي بإعادة تشكيل السلطة في لبنان انطلاقًا من رئاسة الجمهورية.
فور وقف إطلاق النار، ومع نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى جلسة لانتخاب رئيس بعد أكثر من 11 محاولة فاشلة، على أن تكون هذه الجلسة بدعوة كثيفة لممثلي الدول والهيئات الدولية، ليشهدوا على انتخاب الرئيس من على مدرج مجلس النواب، وهو ما كان.
أكد بري أكثر من مرة أن هذه الجلسة حاسمة، فرغم أن الاتفاق الداخلي قبيل أيام من انتخاب الرئيس كان غائبًا، خاصة في مجلس النواب وكتله الرئيسية المنوط بها انتخاب الرئيس، إلا أن الضغط الخارجي كان كفيلًا بقلب المعادلة خلال الـ 48 ساعة الأخيرة.
عون، بصفته قائدًا للجيش، كان يحتاج، بحسب الفتوى الدستورية التي اعتمدت، إلى أصوات 86 نائبًا في البرلمان من أصل 128، رغم أن حصوله على هذا العدد من الأصوات لا يخوّله دستوريًا الوصول لرئاسة الجمهورية، كونه قائدًا للجيش ممارسًا لمهامّه حتى لحظة الانتخابات.
بحسب الدستور، فإن ترشح عون للرئاسة يتطلب تعديلًا دستوريًا يسمح له بذلك ومن ثم انتخابه رئيسًا، لكن الضغط الخارجي كان كافيًا لتجاوز الحواجز الداخلية والدستورية بشتى اتجاهاتها، مع إقرار النواب بذلك.
القوى المسيحية الرئيسية، المعنية بشكل مباشر بانتخاب الموقع الماروني الأعلى في الشرق الأوسط، كانت لديها رهانات مختلفة جُلّها لا تتقاطع مع انتخاب جوزيف عون للرئاسة.
حيث حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، صاحب الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان، كان يمني النفس بالرئاسة، متكئًا على تغيُّر المشهد الإقليمي وتراجع محور المقاومة، خاصة “حزب الله” الذي اُستهدفت قياداته وسقط خط إمداده مع إيران، ومحاصر في الجنوب اللبناني ويقع على عاتقه، قبل غيره، إعادة الحياة الى الجنوب اللبناني والبقاع وغيرها من الأحمال الثقيلة.
كان جعجع يراهن أن كل ذلك يجب أن ينعكس في الداخل اللبناني لمصلحة خصم الحزب الأول، وعليه كان جعجع يعتبر أن الفرصة مواتية لتصدره المشهد والوصول لرئاسة الجمهورية كحليف أول للمملكة العربية السعودية في لبنان، وكخصم أول بل الخصم التام الأوحد لـ”حزب الله”، مستذكرًا قدرة “حزب الله” على فرض مرشحه ميشال عون لرئاسة الجمهورية عندما كانت له اليد العليا في سوريا.
أما التيار الوطني الحر رفض دعم جوزيف عون، متسلحًا بحجّة رفض خرق الدستور، لكنه في الحقيقة كان يضمر رفضًا لشخص عون الذي عُيّن سابقًا في قيادة الجيش من قبل رئيس التيار والجمهورية السابق ميشال عون، قبل أن تتباعد مساراتهما لاختلاف المنهاج وطرق العمل والمصالح، خاصة مع تشاركهما في نفس القاعدة الجماهيرية، وهو الذي يشكّل خطرًا استراتيجيًا على التيار.
لا يخفى على الحزبَين المسيحيَّين الأكبرَين، القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، خوفهما من أن يشكل جوزيف عون حالة مسيحية جامعة تسحب البساط من تحت أقدامهما، متسلحًا بماضيه في المؤسسة العسكرية المحبوبة شعبيًا، كما ملفّه النظيف عامة، والذي جمع حوله تأييدًا داخليًا ظهر مباشرة في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي فور إعلانه رئيسًا.
والأهم من ذلك أنه يمتلك دعمًا دوليًا وإقليميًا قويًا، ما يخوّله تأسيس حزب جماهيري مدعوم خارجيًا يرث مباشرة جناحًا كبيرًا من التيار الوطني الحر. لذا، إن وصول عون للرئاسة يشكّل مصدر قلق كبير لأحزاب حاربت لعقود للتربُّع على عرش الساحة المسيحية، وعلى بناء علاقات خارجية وداخلية.
في الجلسة الحاسمة، تمسّك رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بموقفه، وامتنع عن الاقتراع لعون، رغم مخالفة بعض نواب التيار لتوجُّهه، بينما عدّل جعجع موقفه تحت وطأة الضغط السعودي-الفرنسي-الأمريكي.
العامل الدولي كان الحاسم، فالمملكة العربية السعودية، التي غابت لسنوات عن المشهد اللبناني، عادت في هذه الانتخابات من الباب العريض، فقد استقبلت العماد عون قبل أيام في الرياض، وأرسلت موفدًا هو يزيد بن فرحان إلى بيروت، حيث أدّت جولاته المكثفة إلى قلب المعادلة وفرض خيار عون على الحلفاء، بدءًا من جعجع، إلى حزب الكتائب اللبناني بقيادة سامي الجميّل، وصولًا إلى النواب السنّة والتغييريين.
تحركات ابن فرحان رافقها تحركات للموفد الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان، والمبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين. هذه التحركات لم تقتصر على الحلفاء، بل طالت بشكل أساسي الطرف المقابل.
رُفعت في وجه الثنائي الشيعي العديد من الضغوط، أبرزها التضييق على وصول الطائرات الإيرانية والأموال التي تحملها الى لبنان، بالإضافة إلى التهديد بتجفيف الموارد المالية بشكل ممنهج وأقسى من قبل، في وقت يعتبر الثنائي الشيعي في أمسّ الحاجة إلى أموال إعادة الإعمار على أقل تقدير.
تركزت الجهود كذلك على وعد الموفدين بسحب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بجدّية في حال انتخاب عون رئيسًا للجمهورية، مع مشروع متكامل يظهر شيئًا فشيئًا، عماده تحقيق التوازن السياسي في لبنان وتقوية الدولة، مع تقديم تطمينات للطائفة الشيعية.
هذا المشروع الذي يعدُ بتحقيق أهداف يطالب فيها الخارج والمعارضة في الداخل، مع حفظ حقوق الثنائي الشيعي كممثلين لطائفتهم، ضمنَ لعون مقعد الرئاسة الأولى.
عون المولود في بلدة العيشية الجنوبية عام 1964، والمتخرج من الكلية الحربية كضابط في الجيش اللبناني، تدرّج في المناصب حتى أصبح قائدًا للجيش في مارس/ آذار 2017 أثناء رئاسة ميشال عون، خلال هذه الفترة اختبره الجميع فلم يصطدم مع الثنائي الشيعي، وأقنع أصحاب مشروع الدولة القوية داخليًا وخارجيًا بقدرته على تحقيقها.
تميز عون بسمعته كضابط محترف بعيد عن الاصطفافات السياسية، وقاد الجيش في فترة مليئة بالتحديات، بما في ذلك صراعات داخلية وخارجية، وأزمات سياسية واقتصادية وعسكرية. كانت هذه التحديات بمثابة اختبارات صعبة نجح في معظمها، وفرض احترامه وحضوره على الجميع.
لذا، يمكن القول إن انتخاب جوزيف عون يفتح الباب على صفحة جديدة في تاريخ لبنان، يعود فيها الخليج العربي لدعم البلاد من بوابة تثبيت الدولة على حساب الميليشيات، مع طمأنة المواطنين كافة. إلا أن هذا العنوان يبقى بانتظار التطبيق الذي فشل في تحقيقه غالبية من سبقه من المخلصين حتى.