لماذا يسعى ترامب لشراء جزيرة غرينلاند؟
عام 2019، أثار الرئيس الأمريكي القادم، دونالد ترامب، موجة من الجدل الدولي الذي تخلله الكثير من السخرية بعد أن أعلن عن رغبته في شراء جزيرة غرينلاند المصنفة أكبر جزيرة في العالم، من مملكة الدنمارك التي تشرف عليها إداريًا. هذه الفكرة التي بدت للبعض مستحيلة سلطت الضوء على ثروات الجزيرة وأهمية موقعها الجغرافي، رغم أن 80% من مساحتها مغطاة بكتلة جليدية عائمة في شمال المحيط الأطلسي.
وفي مؤتمره الصحفي الثاني منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كرر دونالد ترامب نيته في جعل جزيرة غرينلاند جزءًا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد شرائها. فيما لم يستبعد فكرة استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك، حسب ما أجاب عن سؤال أحد الصحفيين، مضيفًا أن الجزيرة ستوفر لأمريكا موارد معدنية وبيئية ضخمة، كما يمكن الاستفادة منها في بناء منشأة فضائية كبيرة.
نستعرض في تقريرنا هذا جغرافيا الجزيرة وما تزخر به من ثروات وموارد طبيعية وموقع إستراتيجي، بالإضافة إلى تحليل الدوافع التي جعلت ترامب يفكر في هذا الاستثمار الضخم، والتحديات التي قد تعرقل تحقيق هذه الصفقة.
أين تقع جزيرة غرينلاند؟ ومن هم سكانها؟
غرينلاند وتعني بالغرينلاندية “أرض الناس” وبالدنماركية “الأرض الخضراء”، تقع بين المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي، وهي إقليم ذاتي الحكم يتبع إلى مملكة الدنمارك، فيما تعتبر الجزيرة الأكبر مساحة في العالم، حيث تبلغ مساحتها حوالي 2.16 مليون كيلومتر مربع. تعد غرينلاند أكبر من الدانمارك بحوالي 50 مرة، لكن الدانمارك تفوقها في عدد السكان بحوالي 95 مرة. بالإضافة إلى أن بعض أجزائها تبعد بمسافة 16 كيلومترًا فقط عن كندا.
ينحدر سكان الجزيرة من الإنويت أو “الإسكيمو” كما يُعرف عنهم، ويتمركزون بشكل أساسي على الساحل الجنوبي الغربي، فيما بلغ عددهم عام 2020، 56.081 نسمة، لتكون المنطقة الأقل كثافة سكانية في العالم. تنقسم الجزيرة إلى 5 مقاطعات هي: سيرمرسوك وكوياليك وكاسويتسوب وكيكاتا وأفاناتا. وتوجد فيها منطقتان منفصلتان هما: حديقة وطنية شمال شرق الجزيرة، وقاعد “بيتوفيك” الجوية التي تسيطر عليها الدنمارك وتدار من قبل القوات الجوية الأمريكية. فيما تغطي الصفيحة الجليدية ثلاثة أرباع الجزيرة.
ما هي الأهمية الجيوسياسية لغرينلاند؟
تعد الجزيرة نقطة ارتكاز بين القارتين الأمريكية والأوروبية، ما يمنحها دورًا حيويًا في حركة الملاحة البحرية والطيران الدولي. وقد سبق أن صرّح دونالد ترامب بأنه عبر شراء الجزيرة ستتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من مراقبة تحركات السفن الروسية والصينية على حد سواء. ومع التغيرات المناخية المتسارعة، وذوبان مساحات هائلة من الجليد سنويًا، تتكشف فرص ذهبية بفتح ممرات بحرية جديدة تُقلل من تكلفة النقل التجاري بين آسيا وأوروبا.
بالإضافة إلى ذلك فإن طبيعة غرينلاند تعدّ مستودعًا طبيعيًا لموارد غنية تشمل المعادن النادرة والنفط والغاز الطبيعي، وهو ما جعلها هدفًا جذابًا لتعزيز الاستثمارات في مجالات الصناعة والطاقة والتكنولوجيا. عدا عن احتوائها على ثروة سمكية وفيرة تمدّ سكان الجزيرة بالغذاء منذ مئات السنين.
على الصعيد العسكري، تضم الجزيرة قاعدة بيتوفيك (ثول سابقًا) الجوية الأمريكية التي أنشئت عام 1951 وبدأت نشاطها في السنة التالية، كجزء من نظام الإنذار الأمريكي المبكر للهجمات الصاروخية القادمة من القطب الشمالي. وسبق أن رعت القاعدة انطلاق عمليات فضائية من مقراتها في الجزيرة، ما يعني امتلاك الولايات المتحدة لخطط بشأن تطوير القاعدة لتعزيز أمنها القومي وكسب منطقة عسكرية قوية وجديدة.
ما هو العائد الاقتصادي للصفقة؟
على الرغم من أن الجزيرة ليست معروضة للبيع، فإنها تعاني بالفعل من تحديات اقتصادية كبيرة نتيجة اعتمادها فقط على الثروة السمكية والصيد في كسب السكان لمعيشتهم، ما يضطر الدنمارك إلى دعمها بنحو 600 مليون دولار سنويًا. بينما شراء الولايات المتحدة الأمريكية للجزيرة يمكن أن يحول مستودعاتها الغنية بالمعادن الحيوية بما فيها العناصر الأرضية النادرة التي تعد أساسية للتقنيات الحديثة، إلى مركز اقتصادي حيوي يعزز من مكانتها الاستراتيجية حول العالم، حسب بلومبيرغ.
عدا عن أن الناتج المحلي الإجمالي لغرينلاند يبلغ 3.2 مليارات دولار، وهو رقم متواضع مقارنة بالإمكانات الاقتصادية الكامنة التي يمكن استثمارها في الجزيرة. فعلى الرغم من امتلاكها موارد طبيعية غنية، فإن غياب الاستغلال الأمثل لهذه الموارد يجعل اقتصادها أقل تنافسية مقارنة باقتصادات أخرى تعتمد على موارد مشابهة. وإذا ما قرر سكان غرينلاند، من خلال استفتاء شعبي، الموافقة على بيع الجزيرة، فإن تحديد قيمتها السوقية سيعتمد بشكل كبير على تحليل شامل لمواردها غير المستغلة وإمكاناتها الاقتصادية المستقبلية.
ما أهداف ترامب السياسية من الصفقة؟
يرى ترامب القضايا الاقتصادية الأمريكية من منظور رجل الأعمال والمطوّر العقاري، حيث ينظر إلى الدول المستقلة ذات السيادة على أنها أطراف يمكن التفاوض معها لعقد صفقات بيع وشراء تخدم المصالح الأمريكية. ويؤكد الأكاديمي غريغوري كوغر، أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة ميامي، أن ترامب قد لا يكون جادًا تمامًا في مسألة شراء غرينلاند، لكنه يستخدم هذا الطرح لتحقيق أهداف استراتيجية أخرى.
من بين هذه الأهداف، توسيع القواعد العسكرية الأمريكية في الجزيرة، وتقليص النفوذ الصيني في بنما، وإعادة صياغة العلاقات التجارية مع كندا، عبر خلق بيئة تفاوضية تجبر الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات تعود عليه بفوائد سياسية واقتصادية.
وفي حال نجح في شراء غرينلاند، فإن ذلك سيحقق له هدفين رئيسيين: الأول يتعلق بالطموح الشعبوي لتوسيع حدود الولايات المتحدة، وهو ما يتماشى مع رغبة جزء من الشعب الأمريكي في تعزيز قوة البلاد ومكانتها. أما الهدف الثاني، فيتعلق بطموحه الشخصي بترك إرث رئاسي يتمثل في إضافة أراضٍ جديدة إلى الولايات المتحدة، مما يعزز صورته كرئيس صاحب رؤية استثنائية.
والتاريخ الأمريكي يحمل سوابق مشابهة، حيث كانت عمليات شراء الأراضي جزءًا من استراتيجيات التوسع. فعلى سبيل المثال، اشترت الولايات المتحدة لويزيانا من فرنسا عام 1803 مقابل 15 مليون دولار، وألاسكا من روسيا عام 1867 مقابل 7.2 ملايين دولار. بل إن الدنمارك نفسها كانت طرفًا في بيع الأراضي عندما تخلت عن جزر فيرجن لصالح الولايات المتحدة عام 1917، وهكذا، يضع ترامب نفسه ضمن هذا السياق التاريخي، سواء كان هدفه الحقيقي الشراء أو تحقيق مكاسب استراتيجية عبر إثارة هذه القضية.
ويذكر أن هذه ليست المحاولة الأولى لشراء غرينلاند؛ فقد سبق أن حاولت الولايات المتحدة ذلك في عام 1946، ما يعني أن ترامب يبني على سجل من المحاولات الأمريكية لشراء الجزيرة ذات القيمة الإستراتيجية.
ما هي عوائق بيع الجزيرة؟
يُشكل قانون الحكم الذاتي لعام 2009 عقبة رئيسية أمام أي محاولات لبيع غرينلاند، حيث ينصّ القانون على الاعتراف بالغرينلانديين كشعب مستقل، ما يحظر بيع الجزيرة لأي طرف خارجي. وأوضح البروفيسور راسموس ليندر نيلسن، من جامعة غرينلاند، في تصريح لوكالة بلومبيرغ، أن أي صفقة بيع محتملة تتطلب أولًا أن تحقق الجزيرة استقلالها الكامل عن الدنمارك، وهو أمر لا يزال قيد النقاش بين الأوساط السياسية المحلية.
من جانبه، صرّح رئيس وزراء غرينلاند، موتي بوروب إغيدي، بشكل قاطع أن “غرينلاند ليست ولن تكون معروضة للبيع”، ومع ذلك، أعرب عن استعداد الجزيرة للانفتاح على التعاون التجاري مع مختلف دول العالم، خاصة فيما يتعلق باستغلال مواردها الطبيعية الغنية، وعلى رأسها المعادن الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية.
وفي خطوة تعكس هذا التوجه، أصدرت الحكومة الغرينلاندية العام الماضي وثيقة سياسة دفاعية وأمنية، تهدف إلى تعزيز علاقاتها مع أمريكا الشمالية، ما يعكس سعيها إلى بناء شراكات استراتيجية تدعم استقلاليتها وتعزز دورها في الساحة الدولية.
ردود الفعل الدولية
قوبلت فكرة بيع الجزيرة برفض قاطع من السلطات الدنماركية، حيث وصفت رئيسة الوزراء الدنماركية، مته فريدريكسن، الاقتراح بأنه “سخيف”، مؤكدة أن الجزيرة ليست للبيع، كما سارعت الحكومة الدنماركية إلى تعزيز الإنفاق الدفاعي لصالح الجزيرة بحزمة مالية تتجاوز 1.5 مليار دولار، أما على الصعيد الدولي، أثارت الفكرة قلقًا بين الدول الكبرى، خاصة روسيا والصين، نظرًا للأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية التي تمثلها غرينلاند في منطقة القطب الشمالي. ورغم غياب تعليق رسمي مباشر من الدولتين، فإنهما صرحا بمراقبة هذه التطورات بحذر. إذ تشكل غرينلاند جزءًا من استراتيجيات الصين في إطار مبادرة “الحزام والطريق القطبي”، التي استثمرت الصين فيها بكثافة في مشروعات التعدين والبنية التحتية.
في الختام، تبرز غرينلاند كأكثر من مجرد جزيرة ذات موارد طبيعية هائلة، فهي نقطة توازن استراتيجي تلعب دورًا محوريًا في النظام الدولي. يجعل تداخل المصالح الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية منها ساحة تنافس حيوية بين القوى الكبرى. ومع ذلك، فإن أي خطوات تتعلق بمستقبل الجزيرة، سواء كانت استحواذًا أو تعاونًا، ستواجه تحديات قانونية ودبلوماسية معقدة، وينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار موافقة سكانها واحترام حقوقهم.