في الساعات الأولى من يوم 1 يوليو/تموز الجاري، وتزامنًا مع تنفيذ “إسرائيل” ضربات جوية على سوريا، أعلن مسؤولون في شمال قبرص أن صاروخًا يُعتقد أنه روسي الصنع انفجر في منطقة واقعة على بُعد عشرات الكيلومترات من نيقوسيا عاصمة جزيرة قبرص المقسِّمة، والبالغ عدد سكانها نحو مئة ألف نسمة، والتي تقع على بُعد حوالي 20 دقيقة بالطائرة من دمشق وبيروت.
للوهلة الأولى، ربما أخطأ السكان المفزوعون تقدير الانفجار، واعتبره بعض المتوجسين خيفةً الضربات الافتتاحية الأولى لحرب أخرى بين القبارصة اليونانيين وتركيا وسط توترات حادة بشأن حقوق التنقيب في شرق البحر المتوسط التي تجذب أصحاب المصلحة الإقليميين مصر و”إسرائيل” واليونان.
حلقة جديدة من التوتر
شرق المتوسط، تلك المنطقة التي تحولت إلى ساحة جديدة بعد أن اكتُشف فجأةً أنها غنية بالغاز والنفط، لكنها مزدحمة بالأطماع الاقتصادية والمشاريع السياسية المتعارضة، التي تفجَّر على إثرها الفصل الأخير من التوتر بإعلان أنقرة بدء الحفر قبالة قبرص، بحثًا عن ثروة ترى أنها من حق القبارصة الأتراك، فضلاً عن الدفاع عن مصالح تركيا الخالصة.
زدات أعمال الحفر والتنقيب التي بدأتها السفن التركية التوتر القائم أصلاً في منطقة شرق المتوسط بين أنقرة وأطراف عدة تتنافس على الوصول إلى غاز شرق المتوسط
وفي خطوة تصعيدية، أرسلت تركيا سفينة الحفر الثانية “ياووز” المتخصصة في الحفر في البحار، للتنقيب في مياه المنطقة الاقتصادية الخاصة القبرصية. وقال وزير الطاقة التركي فاتح دونماز إن السفينة ستبدأ التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط خلال أسبوع، إضافةً إلى استمرار السفينة التركية “فاتح” في أعمال الحفر غرب الجزيرة منذ مايو/أيّار الماضي، إلى جانب سفينة “بربروس”.
وزاد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو هذا الأمر إلى مستوى جديد الأسبوع الماضي بتحذيرات صارمة بأن القبارصة اليونانيين “لا يمكنهم اتخاذ أدنى خطوة في شرق البحر المتوسط، إذا تجرأوا، فسيتلقون الرد المناسب كما كان في الماضي”. كان جاويش أوغلو يلمِّح إلى تدخل تركيا العسكري في سبعينات القرن الماضي في الجزيرة التي تُركت مقسمَّةً بين جمهورية قبرص المعترف بها دوليًا وجمهورية شمال قبرص التركية المعترف بها من قِبل أنقرة فقط.
بدأت سفينة الحفر الأولى في تركيا، الفاتح ، بالفعل في البحث عن الغاز والنفط قبالة جزيرة قبرص
زدات أعمال الحفر والتنقيب التي بدأتها السفن التركية التوتر القائم أصلاً في منطقة شرق المتوسط بين أنقرة وأطراف عدة تتنافس على الوصول إلى غاز شرق المتوسط، لكن وزارة الخارجية التركية تؤكد أن سفينتيها “فاتح وياووز” تخطوان بُخطى قانونية، وأنها أبلغت الأمم المتحدة بذلك، كما تبني مشروعية عملها على ما قالت إنها تراخيص حصلت عليها من جمهورية شمال قبرص التركية، وأنها صدرت باسم القبارصة الأتراك.
أمَّا الشطر اليوناني من الجزيرة، فيرى أن هذه الثروات له وحده، فهو الكيان المعترف به دوليًا، بينما الجزء التركي لا يحظى إلا باعتراف أنقرة، رغم ذلك ترى جمهورية شمال قبرص المدعومة من تركيا أن ثروات الجزيرة هي ملكٌ لجميع أبنائها، ولذلك تطالب بحقها في مناطق عدة قامت جمهورية قبرص بترسيمها عام 2010.
زوبعة انتقادات ضد أنقرة
هذا التطور صعَّد الغضب تباعًا لدى دول غربية عدة منذ إعلان أنقرة عن بدء التنقيب لاستخراج الطاقة من شرق البحر المتوسط، ولم تتأخر واشنطن والقاهرة وتل أبيب عن العزف على وتر الانتقادات نفسه حيال عزم تركيا الحفر والتنقيب في سواحل قبرص.
في البداية، دعا الاتحاد الأوروبي – الذي يضم قبرص في عضويته – أنقرة إلى وقف التنقيب، ووصف ذلك بأنه “انتهاك لسيادة قبرص”، مؤكدًا إنه سيرد بالشكل المناسب، كما هدَّد الاتحاد – خلال اجتماع في بروكسل – بفرض عقوبات على أنقرة، لقيامها بالتنقيب عن الغاز بسواحل قبرص، ومن المقرر أن يعقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اجتماعًا بهذا الشأن الإثنين المقبل.
كان لافتًا في خضم الانتقادات بتركيا الموقف المصري، إذ عبَّرت القاهرة بدورها في بيان صادر عن وزارة الخارجية عن قلقها من اعتزام أنقرة التنقيب في محيط قبرص
وكرّرت مسؤولة الأمن والعلاقات الخارجية بالاتحاد فيديريكا موغيريني التلويح بالعقوبات التي طالبت قبرص اليونانية بفرضها على أنقرة، وعبَّرت موغيريني عن تضامن الاتحاد بدوله الـ28 مع قبرص التي اعتبرت هذه الأعمال “غير مشروعة”، وقالت من جهتها إنها ستسعى بكل الوسائل الدبلوماسية والقانونية للدفاع عمَّا تعتبرها حقوقًا اقتصادية خالصة لها بالمنطقة البحرية التي تتم تجري فيها أعمال التنقيب التركية.
وعلى المنوال ذاته، نسجت واشنطن خيوطها، فأعربت عن “قلقها العميق”، ثم انتقدت الأنشطة التركية قبالة سواحل قبرص، وطالبت بوقف تلك العمليات التي تقوم بها السفينة “ياوز” في المياه الواقعة قبالة شبه جزيرة كارباس، ووصفتها بـ”المستفزة”، إلا أن واشنطن طالبت جميع الأطراف بضبط النفس والامتناع عن أي أعمال تزيد التوترات في المنطقة.
وكان لافتًا في خضم الانتقادات بتركيا الموقف المصري، إذ عبَّرت القاهرة بدورها في بيان صادر عن وزارة الخارجية عن قلقها من اعتزام أنقرة التنقيب في محيط قبرص، وأكدت على ضرورة عدم التصعيد والالتزام باحترام وتنفيذ قواعد القانون الدولي وأحكامه، ورأت أن ذلك “إجراء يزيد التوتر في البحر المتوسط”.
كما دقّت روسيا ناقوس الخطر بإعلانها مراقبة التطورات في هذا المجال بقلق، وأصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا حثت فيه جميع الأطراف على الامتناع عن تصيعد التوترات، ودعت إلى “ضبط النفس واحترام سيادة قبرص”، وذكر البيان أن أي انتهاك لسيادة قبرص لا يمكن إلا أن يعوق شروط الحل الدائم والعادل لقضية قبرص.
ورغم موجة الغضب الأوروبية والأمريكية، وتلك القادمة من أثينا، تعهدت تركيا بالاستمرار في التنقيب عن الغاز في الجُرف القاري غرب جزيرة قبرص، ورفعت صوتها مجددًا بالقول إنها “لن تتنازل عن حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك في شرق البحر المتوسط”، وإن أنشطتها للتنقيب عن الغاز الطبيعي في المنطقة “تتوافق مع القوانين الدولية”، ووجَّهت أنقرة رسائلها لأثينا والاتحاد الأوروبي الذي اتهمته بمحاباة اليونان.
الأمر أكبر من كونه تنافسًا على ثروات طبيعية
لم يكن الصراع التركي اليوناني على قبرص وليد اللحظة، فهو صراع ممتد منذ عشرات السنوات، بيد أن الصراع على الموارد الطبيعية بدأ يطفو على السطح خلال السنوات الأخيرة بشكل واضح، تُحرّكه أيادٍ إسرائيلية، ويدعمه النظام المصري بزعامة عبدالفتاح السيسي، الذي أجج استيلاؤه على الحكم أزمة مع تركيا التي لم ترحب به.
نشأت الأزمة في شرق البحر الأبيض المتوسط في البداية بإعلان جنوب قبرص أنها في طريقها للبحث عن النفط والغاز جنوب الجزيرة، وقد تم إسناد أعمال الحفر لشركة أمريكية بمشاركة إسرائيلية، ووقَّع جنوب قبرص اتفاقية الجرف القاري مع “إسرائيل” في ديسمبر/كانون الأول 2010، دون إشراك جمهورية شمال قبرص، وردًا على ذلك، وقَّعت تركيا وشمال قبرص اتفاقية تعيين حدود الجرف التركي في نيويورك في 11 سبتمبر/ايلول 2011.
فتح الخلاف الاقتصادي السياسي الباب على جميع التكهنات، إما تصعيدًا بين الأطراف كافة، وإما تسوية لأزمة طال أمدها
تجدد الخلاف “القديم الجديد” بين أنقرة ونيقوسيا في السنوات الأخيرة إثر اكتشاف احتياطي هائل من الطاقة في قاع شرق البحر المتوسط. هذا الخلاف كان قد أعاد إلى المشهد قضية قبرص المقسَّمة منذ عام 1974 عندما غزت القوات التركية ثلثها الشمالي واحتلته ردًا على انقلاب رعاه حكم الكولونيلات في أثينا سعيًا لتوحيد الجزيرة مع اليونان.
ونكا هذا الخلاف جراحًا بين شطري الجزيرة منذ إعلان جمهورية شمال قبرص ذات الغالبية التركية حكمًا ذاتيًا، ونالت حينها اعترافًا تركيًا فقط، دون اعتراف المجتمع الدولي ولا حتى الأمم المتحدة، وظلت القضية لعقود محط تنازع بين أنقرة وأثينا المدعومة من الدول الغربية.
الصارع على حقول غاز شرق المتوسط – المصدر: وكالة بلومبرج
بعد ذلك، أبرمت قبرص اليونانية أحاديًا اتفاقيات مع شركات عالمية عدة للتنقيب عن النفط الغاز، كما اتفقت مع مصر على إنشاء خط أنابيب تحت البحر، لنقل الغاز المنتَج معامل إسالة في مصر وإعادة تصديره من هناك، وهو ما أكدت تركيا بشأنه أن محاولات إخراجها من المعادلة ستُبعد المنطقة عن السلام والاستقرار.
ومع استمرار التصعيد، اكتسب الخلاف الاقتصادي السياسي أبعادًا في محيط الجزيرة القبرصية، وفتح الباب على جميع التكهنات، إما تصعيدًا بين الأطراف كافة، وإما تسوية لأزمة طال أمدها، وما زالت تعصف بالجزيرة التي يحيط بها حقل ضخم من الطاقة لم يطف بعد إلى أي من القبارصة في شطري الجزيرة.
تحالفات عنوانها الغاز وباطنها السياسة
يمتد شرق المتوسط من سوريا إلى فلسطين مرورًا بلبنان وقبرص، كما أنه يتسع إذا ما توغلت في عمقه برًا لبلدان أخرى لا تشاطئ البحر المتوسط كالأردن والعراق والسعودية، لكن لغة الغاز الطبيعي تُعيد صياغة هذا التعريف لتختزله عمليًا في “إسرائيل”.
وبلغة الجغرافيا الطبيعية، تمتد المنطقة البحرية بين كل من تركيا واليونان ومصر وقبرص على شكل خطين متقاطعين، الأول يصل بين مصر وتركيا على طول 274 ميلاً بحريًا، ويصل الخط الثاني بين قبرص واليونانن وطوله 300 ميل بحري، ويعطي القانون الدولي مصر وتركيا الأحقية في الحدود المائية المشتركة، لأن المسافة بينهما أقصر من المسافة بين قبرص واليونان.
هذه التوترات المتزايدة في البحر المتوسط أدَّت إلى إثارة نقاش في تركيا حول إقامة قاعدة بحرية دائمة في الجزء التركي من قبرص
لكن ترسيم مصر حدودها مع اليونان سمح لأثينا بضم جزيرة متنازع عليها بين اليونان وتركيا إلى الحدود الاقتصادية اليونانية، وهذا يعني فقدان تركيا مساحة كبيرة في البحر المتوسط وما تحويه من ثروات طبيعية.
هذا المشهد ميّزه بناء تحالفات اقتصادية عنوانها الخارجي هو الغاز والنفط، لكن الريبة تثير تحفظات أنقرة، إذ رفضت تركيا الاتفاقية المبرمة بين مصر وقبرص بشأن تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة، لأنها تنتهك الجرف القاري التركي، وقال عنها وكيل وزارة الخارجية المصرية الأسبق السفير إبراهيم يسري إنها تكبِّد مصر خسائر بنحو 240 مليون دولار.
ممثلو الدول التي شاركت في منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة
وغيّر بعيد في يناير/كانون الثاني الماضي، غُيِّبت للمفارقة تركيا، التي تتمدد على سواحل الشمال الشرقي للبحر المتوسط، عن اجتماع قبرص الواقعة في قلب البحر المتوسط، واليونان وإيطاليا الواقعتين شمالاً، والأردن الذي لا هو بلد متوسطي تمامًا ولا هو منتج للغاز الطبيعي، والسلطة الفلسطينية الواقع مخزون غازها تحت سيطرة الاحتلال، فضلا ًعن مصر و”إسرائيل”، وخرج الاجتماع – الذي غابت عنه أيضًا لبنان والأردن – باتفاق لإنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط“، على أن يكون مقرّه القاهرة.
ويبدو من هذه التحرّكات أن هذه الدول متحالفة من أجل حصر دول أخرى على رأسها تركيا وجمهورية شمال قبرص في مساحة محدودة وحرمانها من حقوقها، وهو ما يجعل الأمر أكبر من كونه تنافسًا على ثروات طبيعية، ويحولِّه إلى صراع جيوسياسي موجود أصلاً، ويزداد سخونة مع اشتداد التوتر في المنطقة.
هذه التوترات المتزايدة في البحر المتوسط أدَّت إلى إثارة نقاش في تركيا حول إقامة قاعدة بحرية دائمة في الجزء التركي من قبرص، لحماية مصالح أنقرة مع كثرة اللاعبين شرق المتوسط، واستمرار أي تحالف يتجاهل الحقوق التركية وتطويره لتحالف أمني في محاولة “عسكرة” تحركاته، قد يؤدي وفق محللين إلى صدام لا تُحمد عُقباه.