ترجمة وتحرير: نون بوست
كصحفيين وكتّاب ونقاد بشكل عام، من المهم أن نكون حذرين من إغراءات فخ الاعتقاد المثالي بأن الكتابة عن الظلم – سواء كنا “نفضحه” أم لا – يمكن أن يؤدي إلى وقف ذلك الظلم بشكل فوري وملموس. لا أقصد بذلك التهكم وتأييد الرأي القائل بأن الكتابة “غير مجدية”، بل أعتقد على العكس أن الرأي القائل بأن التعبير النقدي المضاد للهيمنة محكوم عليه بالفشل هو في حد ذاته أداة من أدوات الهيمنة.
مع ذلك، عندما يتمكن النظام الاجتماعي السياسي المهيمن من ارتداء ثوب الديمقراطية والشعبوية، وحتى ما يسمى بـ”البديل” في عملية سنّ التدابير التي تضمن الإخضاع البنيوي، فمن الضروري أن نكون حذرين من وجهات النظر النقدية بشكل عام، لأنه يمكن استمالتها واستيعابها في إطار قواعد نيوليبرالية واقتصادية متزايدة المركزية تحرف مسألة السلطة.
هذا ينطبق بحذافيره على رقابة شركات التكنولوجيا الكبرى على القضية الفلسطينية، فنظرًا لانتشارها الشامل عبر جميع المنصات الكبرى، أصبح قمع الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي راسخًا لدرجة أن تغطية الأحداث في فلسطين أصبحت تحظى بنوع خاص من الرقابة. والأدلة على مثل هذه الرقابة -التي تم الكشف عنها بعناية في تقارير المنظمات الحقوقية، وعدد لا يحصى من شكاوى الفلسطينيين الذين يتعرضون لحذف الحسابات وتعليقها وحظرها- هائلة لدرجة أنه من شبه المستحيل إنشاء جدول زمني موحد للقمع.
لكن شركات التكنولوجيا الكبرى لا تتأثر بالتفاصيل التي تكشفها هذه الفضائح مهما كانت تدينها؛ حيث يمكنها إنكار هذه الأفعال رغم أنها تمارسها بوضوح أمام أعيننا.
إن التعليقات التي وردت على لسان متحدث مجهول الهوية باسم شركة “ميتا” ردًا على التقرير الأخير الصادر عن منظمة الحقوق الرقمية “حملة” هي خير دليل على سخافة هذا الوضع، كما أنها تعكس للأسف النمط المنهجي المؤسف للرقابة الرقمية على الفلسطينيين. بعد استهداف المستخدمين الفلسطينيين بشكل متعمد، حاول عملاق التواصل الاجتماعي أن ينفي ما أورده آخر تقرير مفصل صادر عن منظمة الحقوقية الرقمية من خلال الإشارة بشكل غامض إلى “إجراءات” و”سياسات” “يمكن أن تؤثر” على حسابات معينة. تنكر ميتا أنها “تتعمد قمع صوت معين”، لكن هذا الرد يتهرب بشكل سلس من المسؤولية والمساءلة، ويصبح القمع الواضح مجرد نتيجة عرضية لعمليات يتم تنفيذها على الجميع بلا تفرقة.
يجب أن تتخذ أنشطة المناصرة والتحليل النقدي شكلا مغايرا في ظل الوضع الراهن الذي أصبحت فيه منتجات الشركات راسخة في العرف والتعبير الاجتماعي والسياسي، لأن الوضع الخاص لهذه الشركات يخفف من المساءلة المباشرة المفروضة عليها. فمن ناحية لا يكفي مجرد “فضح” الانتهاكات – رغم أننا لا يجب بالتأكيد أن نتوقف عن التوثيق- بل يجب أن نبقى يقظين بشأن كيفية تصنيف الأدلة على الرقابة الموجهة. نحن بحاجة إلى رفض المراوغات والمبررات التي تقدمها الشركات، والاستمرار في التركيز على الطابع الهيكلي الأوسع نطاقًا لتصرفاتها.
لقد حان الوقت لندرك أن شركات التكنولوجيا مثل ميتا التي تفرض رقابة روتينية على المحتوى الذي يركز على فلسطين وتمحوه من منصاتها، ترسخ شكلاً من أشكال العنصرية المعادية للفلسطينيين. وبفرض مثل هذه القيود الموجهة، تعزز هذه الشركات رقميًا التمييز الاجتماعي والسياسي الذي تفرضه الصهيونية على الفلسطينيين كمشروع استعماري استيطاني أساسه القضاء على السكان الأصليين. ومن خلال فهمها كشكلٍ فريد من أشكال العنصرية الناشئة والتواطؤ الطوعي لشركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة، سأُطلق على هذا التعتيم الذي تفرضه شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى المتحالفة مع الصهيونية على المحتوى الفلسطيني على أنه ”العنصرية الإلكترونية ضد فلسطين”.
التلاحم الاستيطاني الاستعماري
سأستخدم عبارة “العنصرية الإلكترونية ضد فلسطين” بدلًا من “العنصرية الإلكترونية ضد الفلسطينيين” لأن الأمر لا يتعلق فقط بالرقابة التمييزية ضد الأفراد، بل أيضًا بكيفية التحام هذا القمع الموجه مع الاستعمار الاستيطاني لهدم إمكانيات المقاومة والصمود لدى الشعوب الأصلية في الماضي والحاضر والمستقبل؛ فالدولة الصهيونية لا تستهدف الفلسطينيين كأفراد فحسب، بل تسعى إلى تدمير إمكانية وجود هوية وتاريخ وثقافة فلسطينية متماسكة مناهضة للاستعمار.
ومن هذا المنطلق، فإن شركات التكنولوجيا عندما تسهل بإرادتها رغبة إسرائيل في فرض رقابة على الفلسطينيين، فإنها تشارك ضمنيًا في هذه العملية الأوسع نطاقًا من الإبادة المعرفية للسكان الأصليين، والتي يتم تبريرها استنادًا إلى المفهوم التمييزي الذي يعتبر الاستهداف الشامل لمجموعات معينة من المستخدمين أمرًا مسموحًا به وفقًا لما يسمى “معايير المجتمع” و”شروط الخدمة”.
ومن خلال “عزل” الفلسطينيين عن بقية العالم باستخدام القيود الموجهة، تقوم هذه الشركات بتعزيز الإقصاء العنصري رقميًا، والذي عبّر عنه تيودور هرتزل ببلاغة في مشروعه الصهيوني المعلن بأنه خدمة استعمارية للغرب بإبعاد السكان الأصليين العرب “غير المتحضرين”: “سنكون هناك (في فلسطين) بمثابة جزء من الجدار الأوروبي ضد آسيا، سنكون بمثابة موقع متقدم للحضارة ضد البربرية”.
الصهيونية مشروع استيطاني يستند إلى التسلسل الهرمي الاستعماري والعنصري الذي يضع الأوروبيين فوق مستوى بقية البشر، كما يستند إلى ممارسات الترحيل القسري للسكان الأصليين التي ظهرت لاحقا. إن مفهوم “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” لم يكن مقصودًا أبدًا بمعناه الحرفي، بل بمعناه الأيديولوجي، كما تشير إلى ذلك منظمة “إنهاء احتلال فلسطين”:
“من السمات المميزة للخطاب السياسي الصهيوني المبكر هو الادعاء بأن الفلسطينيين موجودون كأفراد فقط أو كمجتمعات في بعض الأحيان، ولكن ليس باعتبارهم شعبًا أو أمة، وكان هذا مصحوبًا بالغطرسة والتعالي المعتادين تجاه السكان الأصليين، والذي نراه في كل الحركات الاستعمارية الاستيطانية تقريبًا.
لم يكن يُنظر إلى تفاعل المستوطنين الأوائل مع السكان الأصليين، تزامنا مع الادعاء بأن الأرض خالية من سكانها، على أنه أمر متناقض. فوفقًا لهؤلاء المستعمرين، حتى لو كان هناك بعض السكان المتناثرين وغير المنظمين، فإنهم غير جديرين بالأرض التي سكنوها؛ إذ لم يستطيعوا تحويل هذه الأرض إلى دولة قومية حديثة، واستخراج الموارد بكفاءة والمساهمة في “الحضارة” من خلال السوق الحرة، على عكس المستوطنين. وتوضح دراسة باتريك وولف عن أستراليا هذه الديناميكية وكيف تم استغلالها لتأسيس المستعمرة الاستيطانية.
ويصبح هذا الأمر واضحًا للغاية عند قراءة مناقشات الصهاينة الأوائل، مثل حاييم وايزمان، الذي أجاب عندما سُئل عن سكان فلسطين: “أخبرنا البريطانيون أنه يوجد هناك بضع مئات الآلاف من الزنوج (كوشيم) وأن هؤلاء لا قيمة لهم”.
في كتابه “الاستعمار الصهيوني في فلسطين” (1965)، يصف فايز الصايغ إخضاع أرض فلسطين وشعبها للصهيونية بأنه “حالة شاذة”، نظرًا إلى أن الفترة ذاتها “شهدت انهيار الإمبريالية الأوروبية والتخلص التدريجي من الاستعمار الغربي في آسيا وأفريقيا”، وشهدت أيضًا ظهور “فرع جديد للإمبريالية الأوروبية ونوع جديد من الاستعمار العنصري” في فلسطين، التي تعد “نقطة التقاء هاتين القارتين”.
لقد أدت الموجة العالمية لإنهاء الاستعمار إلى نشوء أطر جديدة لتقرير المصير والتحرر من التعدي على الأراضي، وكانت تلك الموجة متعارضة مع عملية جديدة للاستعمار الاستيطاني الأوروبي بنزع ملكية الشعوب الأصلية (العرب الفلسطينيين)، وهي العملية التي أقرها المجتمع الدولي.
يعرّف الصايغ الصهيونية بأنها أيديولوجية ومشروع استعماري استيطاني كانت خصوصيته العنصرية فريدة من نوعها حتى بالنسبة للمشاريع الاستيطانية الأوروبية الأخرى، نظرًا لأن أهداف الصهاينة المعلنة كانت في نهاية المطاف متعارضة حتى مع الهيمنة الهرمية:
“أما المستعمرون الصهاينة فإنهم لم يستسيغوا فكرة التعايش الدائم مع سكان فلسطين. ذلك أن فلسطين كانت آهلة بالسكان العرب الذين كان الوعي القومي قد استيقظ في نفوسهم، فبدأوا من قبل ذلك الحين يوطدون النفس على طلب الاستقلال وتحقيق أمانيهم القومية، ولم يكن بالإمكان أن يحقق الاستعمار الصهيوني أبعاده المادية وما نشدته الصهيونية طالما استمر عرب فلسطين في الإقامة بوطنهم. كذلك لم يكن بامكان الصهيونية تحقيق أمانيها السياسية في الفصل العنصري وإنشاء الدولة ما دام عرب فلسطين، الواعون لقوميتهم، موجودين على أرض فلسطين، وهكذا فإن الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بعكس الاستعمار الأوروبي في بقية أنحاء العالم، تناقض تناقضا أساسيا مع الوجود المستمر للسكان الأصليين في الأرض المنشودة”.
ويوضح الصايغ أن الصهيونية تقتضي “هوية عنصرية” يترتب عليها “ثلاث نتائج طبيعية: الانغلاق العنصري، والتميز العنصري، والتفوق العنصري”.
وبالنظر إلى تصنيف الفلسطينيين على أنهم أدنى من الناحية التنموية مقارنةً بالمستوطنين اليهود الأوروبيين، فقد عملت الأيديولوجية الصهيونية بدعم إمبريالي غربي على ترسيخ التطبيع مع طرد الفلسطينيين وانتزاع أراضيهم.
وعلى هذا النحو، فإن ممارسات الإبادة المباشرة التي تنبثق من تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، والتي تم إقرارها مؤسسيًا، نادرًا ما يُنظر إليها أو يتم مناقشتها على أنها شكل من أشكال التناقض الذي تمارسه المؤسسات الغربية عبر التطبيع مع المشروع الصهيوني ووجوده الاستعماري. فلا يمكن أن نتحدث عن حرمان من الحقوق بالنسبة لأولئك الذين تم تصنيفهم مسبقا على أنهم ليسوا بشرًا وفق التصور الذي يتم ترسيخه في أروقة السلطة.
كل هذا ينطبق على ما نراه اليوم في المنصات الرقمية، فالعنصرية الإلكترونية ضد فلسطين هي النتيجة الطبيعية للنمو الإلكتروني للهيمنة الإمبريالية والصهيونية الغربية، والتي أُطلق عليها “الاستعمار الرقمي الاستيطاني”.
التداعيات المعرفية
غالبًا ما تسلط الدراسات الضوء على أهمية فهم الآثار المعرفية المترتبة على كيفية تفاعل الأشكال الحالية للتكنولوجيا مع التسلسل الهرمي الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، تُعرّف روها بنجامين في كتابها “العرق بعد التكنولوجيا” “قانون جيم الجديد” بأنه “توظيف تقنية جديدة تعكس أو تعيد إنتاج أوجه عدم المساواة القائمة، ولكن يتم الترويج لها والنظر إليها على أنها أكثر موضوعية وتقدمية من الأنظمة التمييزية في الحقبة السابقة”.
إن تقديس التكنولوجيا، مثل تقديس العلم، باعتباره أداة محايدة في الحياة الاجتماعية، غير مرتبط بالهياكل الاجتماعية الطارئة في اللحظة الراهنة، يسمح باستمرار أشكال معينة من التمييز الاجتماعي والسياسي تحت شعار “الحياد” الظاهري والزائف.
يُنظر إلى التقدم التكنولوجي على أنه قابل للمبادلة مع التقدم الاجتماعي والتاريخي والسياسي، كما أن الحتمية التكنولوجية تزاحم إمكانية التجربة التفاضلية من خلال الترسيخ الضمني لهوية اجتماعية معينة (مثل مجتمع وادي السيليكون المفرط في ترسيخ التفوق الأبيض والذكوري) كمنصة للوصول إلى الإنسانية العالمية.
ولكن، كما تلاحظ بنجامين فإن “الرتابة المفترضة للثقافة الأمريكية البيضاء هي جزء أساسي من سرديتنا الوطنية، ويصف الباحثون قوة هذه الرتابة باعتبارها “المركز” غير المرئي الذي يقارن به كل شيء آخر، وباعتباره “المعيار” الذي يقاس عليه كل شخص آخر.. أن تكون غير موسوم عرقيا يسمح لك بجني الفوائد، كما يسمح لك بالهروب من المسؤولية عن دورك في نظام ظالم”.
في نهاية المطاف، تشجعنا بنجامين على عدم التفكير في علاقة العرق بالتكنولوجيا، بل في العرق نفسه كتكنولوجيا، وهو من وجهة نظرها “وسيلة لفرز وتنظيم وتصميم بنية اجتماعية”، وهي وجهة نظر ستساعدنا على فهم قدرة أنماط العنصرية على التكيف لصالح الدولة، حتى مع التراجع الظاهري للخطابات والأيديولوجيات العنصرية الصريحة (رغم أن عودة النزعة القومية البيضاء جعلت هذا التمييز غير مكتمل في أفضل الأحوال).
غالبًا ما تكون التقنيات الجديدة مثقلة في كثير من الأحيان بفكرة “الحياد”، وهي في الواقع نتاج مباشر للظروف الاجتماعية والسياسية الطارئة للحظة معينة. وبالتالي، فإن تعزيزها في الصناعات والمصالح غالبًا ما يتطلب ترسيخ (لا تفكيك) السلاسل الهرمية الكامنة وراء هذه التقنيات.
وبنفس الطريقة، يمكننا أن نرى أن الطابع المهيمن للتكنولوجيا الأمريكية هو امتداد للخصوصيات المادية والمعرفية التي قامت عليها الهياكل والأيديولوجيات الأمريكية ضمن سياقات التطرف والذكورية وتفوق العرق الأبيض. ويجب أن ندرك أن تحصينها للعنف الاستعماري والفصل العنصري الإسرائيلي ليس تجاوزًا عرضيًا لحقوق الإنسان، بل إنها تتجمع وتتضافر بشكل متعمد لترسيخ العنصرية المعادية للفلسطينيين التي تحفز الخيال الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الاستيطاني.
عندما تقوم المنصات الرقمية الكبرى بإضفاء الطابع الروتيني على الرقابة الجماعية على الفلسطينيين، فإنها لا تمارس ازدواجية المعايير فحسب؛ بل إنها تعيد تجسيد الإقصاء المادي للشعب الفلسطيني بشكل رقمي.
في هذه الأثناء، وفي خضم تردي سمعتها العالمية، تعهدت إسرائيل بتخصيص 150 مليون دولار لجهود “الهاسبارا” (جهاز الدعاية الحكومي) في عام 2025، والتي ستشمل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة في “معركة الوعي”.
ورغم أن المساواة بين العنف المادي والرمزي يمكن أن تقلل عن غير قصد من عواقب العنف المادي، إلا أنه من الصعب عدم الربط بين محاولة الهيمنة على المسارات الرقمية وبين الاستيلاء المادي على أراضي السكان الأصليين ونزع ملكيتهم لإفساح المجال للمستوطنين “المتحضرين” الذين تم التطبيع مع وجودهم بشكل استباقي من خلال الاستثمارات الأيديولوجية المشتركة بهدف ترسيخ الاستعمار الاستيطاني.
ليست مجرد أيديولوجية
تثير الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من التساؤلات حول الملاءمة السياسية والأيديولوجية. ولكن كما يشير تارلتون غيليسبي، فإن فكرة وجود منصة خالية من الرقابة هي فكرة خيالية.
وبالفعل، فإن المنصات الرقمية التي أصبحنا نألفها بشكل متزايد على مر السنين تتسم بالاعتدال، والطريقة التي يرى موظفوها أنها مناسبة لتنظيم “مجتمع” معين تعد هي الأنسب والأقل تهديدًا لعلامتهم التجارية.
ولكن حتى وإن كان الاعتدال سمة محورية في كيفية إدارة شركات التكنولوجيا لمنصاتها والحفاظ عليها، إلا أنه العنصر الأكثر غموضًا في عملية إدارة هذه المنصات، وهو العنصر الذي ترغب الشركات في أن يعتقد الجمهور أنه لا يحدث أبدًا، أو يحدث بشكل أقل حدة بكثير مما هو في الواقع، نظرًا لأن خيار الاعتدال غالبًا ما يؤدي إلى جدل اجتماعي وسياسي. مع ذلك، يتم تطبيق هذا الاعتدال بشكل متفاوت.
إن إعفاء شركات التكنولوجيا الأمريكية من المساءلة الكاملة أمام الدستور الأمريكي، نظرًا لوضعها كشركات خاصة يُزعم أن منتجاتها تعمل فقط كوسيلة تواصل – وهو شرط فريد يُشار إليه باسم ”الملاذ الآمن“ بموجب المادة 230 من قانون الاتصالات الأمريكي – يمنحها الفسحة القانونية لفرض رقابة فعالة حسب رغباتها، حتى وإن كانت هذه القرارات تتعارض مع المصلحة العامة والالتزام بمبدأ حرية التعبير.
يمكن القول إن هذا القانون قد عفا عليه الزمن، بالنظر إلى أن المنصات الرقمية المعاصرة ليس لها نظير مباشر في أشكال التواصل السابقة، وإلى مدى استفادتها (سواء من الناحية المالية أو من حيث رأس المال الثقافي) من المحتوى الذي يقدمه المستخدمون طواعية، ناهيك عن مدى تأثير المنصات الرقمية على الحياة اليومية على نطاق عالمي.
تريد شركات التكنولوجيا الكبرى أن تحقق كلا الأمرين: فهي تريد لمنصاتها أن تستمر في النمو بشكل متزايد في الحياة اليومية، ولكنها تريد أن تحافظ على الحد الأدنى من القيود أو العواقب المترتبة على القرارات والممارسات غير الديمقراطية مع تزايد نفوذ هذه المنصات.
توضح وجهة نظر غيليسبي بأن ما نواجهه حاليًا ليس انفجارًا مفاجئًا للرقابة بقدر ما هو عملية اعتدال تزداد نفوذا؛ حيث تعتمد منصات التكنولوجيا البارزة، التي تزداد اطمئنانًا بسيطرتها على الحياة الثقافية وأشكال التعبير، بشكل متزايد على سلطتها غير المتنازع عليها في مراقبة خطاب المستخدمين وتعبيراتهم.
تعد هذه التطورات مهمة وحاسمة، ولها آثار اجتماعية وسياسية عميقة. وكما يشير الصحفي الفلسطيني رمزي بارود، فإن أهمية هذه المناقشات تكمن في أنها ليست مجرد نقاشات أيديولوجية عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين الذين يواجهون الإبادة الجماعية في الوقت الراهن.
كتب بارود: “بينما يشعر الكثيرون، وهم محقون، بالغضب من أن هذا النوع من الرقابة الواسعة النطاق والمتنامية يتحدى بشكل مباشر المبادئ الرئيسية للديمقراطية، فإن الضرر الفعلي الواقع على الفلسطينيين أكبر بكثير”.
فالفلسطينيون في غزة، على عكس معظم الناس، يستخدمون هذه المنصات لمعرفة من مات ومن لا يزال على قيد الحياة، وللتحذير من المجازر التي تحدث في كثير من الأحيان بمعزل عن بعضها، خاصة في شمال قطاع غزة. وفي حالة غزة، تأخذ الرقابة منحى مظلمًا ومميتًا، إذ يمكن أن تحدث فرقًا بين موت الناس تحت أنقاض منازلهم أو حصولهم على المساعدة. رقابة بهذا الحجم غالبًا ما تخلق وضعا غير مسبوق، وكثيرًا ما تؤدي إلى أشكال أخرى من الرقابة التي تحدث بالفعل ضد مجتمعات ضعيفة أخرى، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى العالمي.
إن الطرح الذي يقدمه بارود يستحق التعمق في نقاشه، فهو يكشف أولاً أن الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد مسألة ملائمة أيديولوجية (رغم أنها كذلك بالتأكيد) كما هو الحال مع أشكال أخرى من العنف الاستعماري الإسرائيلي التي سبقتها؛ حيث تكشف الإبادة الجماعية في غزة أن هذه الرقابة يمكن أن تتحول بسهولة إلى مسألة حياة أو موت.
عندما نتذكر تعريف الباحثة روث ويلسون-غيلمور للعنصرية على أنها “إنتاج التمايز الاجتماعي واستغلاله من قبل الدولة أو خارج نطاق القانون مما يؤدي إلى الموت المبكر”، فليس من الصعب أن ندرك أن تسهيل شركات التكنولوجيا بشكل متعمد للحظر الذي تفرضه الدولة الاستيطانية الصهيونية على المحتوى الرقمي المرتبط بالهوية هو في الواقع تحصين للعنف العنصري الذي تمارسه الدولة.
إن التداعيات القاتلة للعنصرية الإلكترونية ضد فلسطين واضحة تمامًا، والإعفاء القانوني لهذه الشركات في الولايات المتحدة من المساءلة عن التمييز لا يخفف من مسؤوليتها السياسية والأخلاقية في تعزيز العنصرية الاستعمارية والإبادة الجماعية رقميًا.
عندما يشير بارود إلى أن أشكال الرقابة الشاملة، مثل الرقابة المتزايدة على الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي “غالبًا ما تخلق سابقة من نوعها، وكثيرًا ما تؤدي إلى أشكال أخرى من الرقابة التي تحدث بالفعل ضد مجتمعات ضعيفة أخرى”، فإنه يكشف أن العنصرية الإلكترونية ضد فلسطين بمثابة عملية زحف بطيء، يخلق حقائق على الأرض عبر إجراءات يتم اعتمادها مرة تلو الأخرى، إلى أن ترى المنصات أنه من المناسب تنفيذها بشكل أكبر لتصبح سياسات واسعة النطاق؛ حيث تبدأ العنصرية الإلكترونية بشكل ضيق ثم تصبح سلوكا راسخا يعزز المخططات الاستعمارية الاستيطانية.
هذا الوضع مدانٌ، ولكنه يستحق قدرا أكبر من الإدانة عندما نتذكر أن التطبيع المتزايد مع القمع هو الأسلوب الذي تعتمده دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بشكل ممنهج. إن التصعيد الذي تمارسه إسرايل بارتكاب الإبادة الجماعية الحالية في غزة أصبح ممكنًا بفضل ترسيخ المعايير التي تبرر بها عملياتها لإلحاق أكبر قدر ممكن من الأضرار الجماعية بالفلسطينيين في غزة.
لقد كشف استقراء حديث أن عملية الرصاص المصبوب في عام 2008 أسست لاعتداءات واسعة النطاق على قطاع غزة في وقت لاحق، والتي تتجلى استمراريتها في التعبير الملطف “جز العشب”.
إن مثل هذه الاعتداءات العشوائية والواسعة النطاق على سكان أسرى محاصرين تحت الاحتلال تُظهر بشكل بشع البراعة العسكرية لدولة الاحتلال الصهيوني؛ حيث أصبحت غزة بمثابة مختبر استعماري لاختبار الأسلحة العسكرية، تمامًا كما تحولت الضفة الغربية لمختبر تستطيع قوات الاحتلال فيه تطوير تقنيات المراقبة والسيطرة على الحشود.
إن ممارسات شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى التي تتجلى في العنصرية الإلكترونية ضد فلسطين من أجل ترسيخ التفوق الاستعماري الصهيوني، يكشف عن مخاطر الهيمنة الإمبريالية التوسعية للشركات التي تتحالف مع الوحشية المتزايدة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ويبرز الحاجة الملحة والعميقة لاستمرار المقاومة.
المصدر: فلسطين كرونيكل