انتشرت خلال الأيام الماضية، صورة تُظهر طاقمًا طبيًا في المستشفى السعودي بمدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، يواصل عمله تحت وابل القذائف التي أطلقتها مليشيا الدعم السريع مستهدفة المستشفى، وقد لاقت صورة الأطباء الذين استعانوا بإضاءة هواتفهم الذكية لإجراء العملية، تفاعلًا واسعًا على شبكات التواصل، وأصبحت رمزًا للصمود الإنساني في حرب السودان المستمرة منذ 15 أبريل/نيسان 2023.
فرغم الدمار والرعب، لم يتوقف الأطباء عن أداء واجبهم الإنساني حتى اللحظة الأخيرة، متشبثين بالأمل وسط ظروف لا يمكن وصفها إلا بأنها مأساوية.
منذ اندلاع الحرب في السودان، يعيش القطاع الصحي أزمة كارثية لم يشهد لها مثيلًا، دُمرت المستشفيات، وهاجر كثير من الأطباء والكوادر الصحية، واشتد النقص في الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية، ما جعل الملايين من المواطنين يعانون من انعدام الرعاية الصحية، إلى جانب ذلك خلفت الحرب أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، حسب وكالات أممية، بينما قدرت لجنة الإنقاذ الدولية أن عدد ضحايا الحرب وصل إلى 150 ألف شخص.
الوضع الراهن للنظام الصحي
في ختام زيارته للسودان في سبتمبر/أيلول 2024 قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس غيبريسوس، إنه صُدم من وضع الكثير من الأطفال الصغار الذين يعانون من الهزال، ومن الشهادات المروعة التي روتها أمهاتهم اللاتي نزحن عدة مرات بسبب انعدام الأمن والآن يشعرن بالامتنان “لأنهن وجدن ملاذًا في هذه العيادة”.
وأعرب غيبريسوس عن صدمته بعد زيارة منشأة صحية في بورتسودان تقدم رعاية للأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد، ودعا المجتمع الدولي إلى الاستجابة بشكل عاجل لتوفير الموارد والأمن للعاملين في المجال الإنساني والطبي.
وحذر خلال مؤتمر صحفي في بورتسودان، من تفاقم الأزمة الإنسانية والصحية في السودان، حيث يواجه أكثر من 25.6 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد. وأشار إلى انهيار شبه تام للنظام الصحي، إذ لا تعمل 70-80% من المنشآت الصحية بشكل كامل، وانتشار الأمراض مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، مع تزايد العنف الجنسي المرتبط بالصراع.
في المقابل أكد وزير الصحة السوداني أن النظام الصحي في البلاد لا يزال صامدًا رغم الأزمات المتصاعدة، مشيرًا إلى استمرار عمل الركائز الأساسية الستة: القيادة الصحية، تقديم الخدمات، الإمداد الطبي، كوادر الرعاية الصحية، نظام المعلومات، توفير الإمدادات للمناطق المتضررة. وشدد الوزير على أهمية هذه الركائز في الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات الصحية الأساسية.
وفي السياق، أكد الطبيب العام ياسر محجوب محمد، الذي نزح من ثلاث ولايات بحثًا عن سبل للعيش، أن النظام الصحي في السودان يعاني تدهورًا غير مسبوق بفعل الحرب. وأوضح أن البنية الصحية تأثرت بشدة بسبب ما وصفه بـ”التخريب الممنهج” من قبل قوات الدعم السريع، التي “حولت المرافق الصحية إلى ثكنات عسكرية”، مشيرًا إلى أن هذه القوات دمرت الأجهزة الطبية ونهبت المعدات باهظة الثمن، بالإضافة إلى سرقة الأدوية من الصيدليات والمخازن وإتلاف جزء كبير منها.
ورغم هذا التدمير، أشار د. ياسر في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن الولايات الآمنة – التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني – شهدت تطورًا ملحوظًا في تقديم الخدمات الصحية، حيث تمكنت بعض المستشفيات من تحقيق طفرة نوعية في ظل هذه الظروف الصعبة.
كما لفت إلى المخاطر التي تواجه الأطباء، من “استهداف المؤسسات الصحية بالقصف أو الاعتقال لإجبارهم على العمل لصالح المليشيات”، وأوضح أن الأطباء يعيشون تحت تهديد دائم بسبب مهنتهم، مع تقلص فرص العمل نتيجة فقدان العديد من المرافق الصحية في ولايتي الخرطوم والجزيرة.
وعن الجانب النفسي، وصف ياسر الضغط الهائل الذي يعاني منه الأطباء، مشيرًا إلى “شعورهم بالعجز أمام عدم القدرة على تلبية احتياجات المرضى”، بالإضافة إلى الصعوبات التي تواجههم في تأمين حياة كريمة لعائلاتهم، وأكد أن هذا الوضع دفع العديد منهم للتفكير في الهجرة، ما أسفر عن “أكبر موجة اغتراب للأطباء يشهدها السودان”، بحسب تعبيره.
من جانبها أوضحت منظمة الصحة العالمية أن الهجمات على المرافق الصحية تعيق وصول المرضى والعاملين إلى المستشفيات وتعرضهم لخطر الاستهداف، إضافة إلى تعطل نظام مراقبة الأمراض، الذي شكل تحديًا للكشف عن تفشي الأمراض المعدية، بينما تواجه المستشفيات التي لا تزال تعمل خطر الإغلاق بسبب نقص الكوادر الطبية والإمدادات والمياه النظيفة والكهرباء.
أرقام صادمة وخسائر هائلة
في منبر وزارة الإعلام والثقافة الأسبوعي الذي عُقد في مدينة بورتسودان، كشف وزير الصحة السوداني، الدكتور هيثم محمد إبراهيم، عن حجم الدمار والانتهاكات التي تعرض لها القطاع الصحي منذ اندلاع الحرب في السودان.
وأعلن الوزير أن إجمالي الخسائر المالية للقطاع الصحي بلغ 11 مليار دولار، ما يشكل 22% من إجمالي الضرر في قطاع الخدمات، لافتًا إلى تدمير أو تعطل 250 مستشفى من أصل 750 في السودان.
كما ذكر الوزير أن الحرب أسفرت عن فقدان مخزون الإمدادات الطبية بقيمة 600 مليون دولار، منها 500 مليون دولار في الخرطوم و20 مليون دولار في ولاية الجزيرة.
إضافة إلى ذلك، كشف الوزير عن وفاة 4000 مريض كلى بسبب نقص الخدمات، بالإضافة إلى توقف 62 مركز غسيل كلى من أصل 102 مركز، وتدمير ثلاثة مراكز لزراعة الكلى. كما لفت إلى وفاة 1121 طفلًا و870 أمًا حتى يوليو/تموز الماضي، مؤكدًا وجود 306 حالات اغتصاب موثقة.
وأشار إلى أن الحرب تسببت في وفاة 12000 شخص، بالإضافة إلى 33 ألف إصابة خطيرة وبتر أعضاء. كما نزح نحو 25% من السكان، أي ما يعادل 12 مليون شخص، فيما وصفه الوزير بأنه “أكبر كارثة صحية وإنسانية تمر بها البلاد”.
وتضم ولاية الخرطوم 87 مستشفى تعرض نصفها تقريبًا لأضرار واضحة بين منتصف أبريل/نيسان 2023 و26 أغسطس/آب 2024، وفق ما تظهر صور أقمار اصطناعية نشرتها جامعة ييل وجمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024 سجلت منظمة الصحة العالمية 119 هجومة على المرافق الصحية، تشمل تفجيرات وإطلاق نيران المدفعية وإطلاق النار والنهب والاقتحام.
وفي أغسطس/آب الماضي، أقرت وزارة الصحة السودانية رسميًا بانتشار وباء الكوليرا في ظل تداعيات صحية وأمنية وبيئية متصاعدة يواجهها السودانيون.
وفي هذا الصدد، أفاد تقرير الوضع الوبائي للكوليرا وحمى الضنك تسجيل 21 إصابة جديدة بالكوليرا، من دون تسجيل حالات وفاة، ليرتفع تراكمي الإصابات بـ82 محلية في 11 ولاية في السودان إلى 50 ألفًا و679 مصابًا، وتسجيل 1350 حالة وفاة.
هجمات على المرافق الصحية
في هذا السياق اتهم وزير الصحة السوداني مليشيا الدعم السريع بشن حملة ممنهجة على القطاع الصحي، مشيرًا إلى استهداف مستشفيات مرجعية كبرى مثل مستشفى الخرطوم ومعمل استاك، وتدمير البنى التحتية في دارفور والخرطوم. وأوضح أن 70% من مستشفيات الخرطوم، أصبحت خارج الخدمة، ما أدى إلى توقف المستشفيات المرجعية كافة.
وأضاف أن “المليشيا استهدفت مستشفيات بعينها، مثل مستشفى النو في أم درمان، ومستشفى الدايات الذي كان مقرًا لقيادة المليشيا”، كما أشار إلى الضغط الكبير الذي يواجهه مستشفى الذرة في علاج مرضى الأورام، مع خروج خمسة مراكز رئيسية عن الخدمة.
من جانبها تصف أميلي شباط، المشرفة على البرامج الصحية للجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان، الوضع في المرافق الصحية بأنه “لا يمكن وصفه بالكلمات”، مشيرة إلى نقص حاد في الأدوية والغذاء والمياه. وتقول: “كبار السن والنساء والأطفال محرومون من العلاجات الأساسية مثل غسيل الكلى أو أدوية مرض السكري، والوضع يزداد سوءًا”.
ووفقًا لتقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تعرضت العديد من المرافق الصحية للنهب والتخريب، فيما واجه الموظفون والمرضى تهديدات وعنفًا جسديًا، كما مُنع المدنيون من الحصول على خدمات الرعاية الصحية التي هم بأمسّ الحاجة إليها.
وفي أغسطس/آب 2024 قالت وكالة الأنباء السودانية إن قوات الدعم السريع قصفت مستشفى الدايات في أم درمان والمناطق المجاورة له. وأوضحت الوكالة أن عددًا كبيرًا من القذائف سقط في المنطقة وألحق دمارًا واسعًا بالمباني.
من جهتها أعلنت شبكة أطباء السودان (كيان مدني) مقتل مواطن وإصابة سبعة من الكوادر الطبية نتيجة قصف مدفعي نفذته قوات الدعم السريع على المستشفى السعودي بمدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور. وأوضحت الشبكة أن الهجوم يعد الـ13 على المستشفى، في محاولة متعمدة لتعطيل الخدمات الطبية في المدينة المحاصرة.
وأكدت الشبكة أن الاستهداف المتكرر أدى إلى توقف 70% من القدرات الاستيعابية للمستشفيات والمراكز الطبية، مضيفة أن الكوادر الطبية باتت تعمل في ملاجئ تحت الأرض لتقديم الرعاية الصحية للمدنيين في ظل الظروف القاسية التي تشهدها مدينة الفاشر.
ولم يصدر تعليق من قوات الدعم السريع على اتهام الحكومة والشبكة لها بقصف المستشفى، لكن عادة يقوم الطرفان بتبادل الاتهامات بشأن ارتكاب انتهاكات في البلاد.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2024 قالت منظمة أطباء بلا حدود، إن قوات الدعم السريع استهدفت مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، بإطلاق الرصاص داخل المستشفى وتهديد الطاقم الطبي، ما أدى إلى تعطيل خطير للرعاية الصحية المنقذة للحياة.
وقالت المنظمة إن المهاجمين أطلقوا النار داخل قسم الطوارئ، ووجهوا تهديدات مباشرة للطاقم الطبي. وأضاف رئيس بعثة المنظمة في السودان، صامويل ديفيد ثيودور، أن جنود الدعم السريع اقتحموا غرف الطوارئ وبدأوا بإطلاق النار على العاملين الطبيين، كما هددوا المرضى وموظفي المنظمة ووزارة الصحة. وأكد: “لحسن الحظ، لم يُصب أحد بأذى”.
وأعرب ثيودور عن إدانته الشديدة للهجمات على المرافق الطبية والعاملين الصحيين، مشددًا على ضرورة بقاء المستشفيات أماكن آمنة خالية من العنف والترهيب. ودعا إلى احترام حياد المرافق الطبية وسلامة العاملين في مجال الرعاية الصحية.
وأشار البيان إلى أن مستشفى بشائر التعليمي يُعد واحدًا من آخر المرافق الصحية العاملة في جنوب الخرطوم، حيث يواصل موظفو أطباء بلا حدود تقديم الخدمات المنقذة للحياة في ظل ظروف قاسية للغاية.
تحديات وصمود
تروي الدكتورة فاطمة، وهي طبيبة سابقة في المستشفى التركي بجنوب الخرطوم، بعض المشاهد التي شهدتها في أثناء عملها بالمستشفى، “بعد اندلاع النزاع تعطلت وسائل النقل العامة وانتشرت الفوضى بشكل غير مسبوق، ما صعب على المرضى الوصول إلى المستشفى لتلقي العلاج. لم يكن هناك أي وسائل نقل عامة لشهور عديدة. يأتي المرضى إلى المستشفى بعربات الكارو، حتى من مناطق بعيدة مثل مايو والرياض، وبعضهم جاء من ولاية الجزيرة مستخدمين نفس الوسيلة البدائية”.
ورغم الصعوبات المادية، كان الوضع الأمني أكثر تعقيدًا. تخبر فاطمة في حديثها لـ”نون بوست” كيف كانت هي وفريقها الطبي مجبرين على اتخاذ احتياطات يومية للحفاظ على أنفسهم في ظل الأوضاع الأمنية المتوترة. “كنا نربط هواتفنا في أرجلنا أثناء التنقل لأن قوات الدعم السريع كانت تستهدف سرقة الهواتف والنقود. أحيانًا كنا نضطر لدفن هواتفنا في الأرض لتجنب سرقتها”. حسب تعبيرها.
أما الحديث عن صمود النظام الصحي في مثل هذه الظروف، كما تقول الطبيبة فاطمة، كان مرهونًا بنقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية، فالمستشفى كان يفتقر إلى أبسط الاحتياجات الطبية الأساسية. “تم نهب المخازن الطبية من قبل قوات الدعم السريع، بما في ذلك أجهزة التحاليل المخبرية والأدوية، ما جعل من المستحيل تقديم العلاج المناسب للمصابين. اضطررنا لاستخدام أدوات بديلة أو حتى العودة لطرق طبية قديمة”.
ومع تزايد أعداد المرضى، كانت النساء الحوامل أكثر من عانين، خاصة في مناطق مثل أمبدة ونبته. تقول د. فاطمة: “كانت بعض النساء يضطررن للتنقل لعدة أيام للوصول إلى المستشفى التركي بسبب نقص المستشفيات التي تستطيع إجراء العمليات القيصرية في المناطق البعيدة. العديدات فقدن حياتهن في أثناء الولادة قبل الوصول للمستشفى بسبب نقص المعدات والخبرة الطبية”. على حد وصفها.
أما بالنسبة لحالات سوء التغذية، فالوضع كان “كارثيًا”، حسب تعبير د. فاطمة. فقد سجل مركز الشهيد أكثر من 8000 حالة سوء تغذية للأطفال، منها 2000 حالة حادة. “الكثير من الأطفال لم يحصلوا على العلاج في الوقت المناسب بسبب حظر دخول الأدوية إلى المناطق المتضررة. كان الوضع مأساويًا”.
وكشفت الدكتورة فاطمة عن انتشار الأمراض المعدية بشكل متسارع، مثل الإيدز والزهري: “في كل مرة نستقبل فيها متبرعين بالدم، نجد أن واحدًا على الأقل مصاب بالإيدز. في أحد الأيام وصلت النسبة إلى 10 من أصل 15 متبرعًا”، كما أشارت إلى غياب البروتوكولات العلاجية للناجيات من العنف الجنسي وتقول “أصبح العلاج من العنف الجنسي، بما في ذلك اللقاحات والمضادات الفيروسية، شبه معدوم. هؤلاء النساء كن في حاجة ماسة للعلاج، ولكن لم يكن هناك شيء يُقدّم”.
وفي خضم هذه الظروف الصعبة، تظل الأسئلة المحورية قائمة: كيف يمكن إعادة بناء هذا النظام الصحي المتداعي بفعل الحرب؟ وهل سيكون هناك أي أمل في الحصول على الدعم الدولي لإصلاح هذا الخلل، في ظل تصاعد النزاع في السودان؟