قدمت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” رسالة إيجابية، نقلتها قطر، إلى الجانب الإسرائيلي، لإحراز تقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار وإبرام صفقة تبادل أسرى، حسبما أشارت هيئة البث الإسرائيلية التي أوضحت أن الرسالة تتعلق بقائمة الرهائن ونقاط الخلاف الأخرى بين المقاومة والكيان والتي عرقلت نجاح المفاوضات خلال الجولات الأخيرة.
يتزامن هذا التطور مع وصول مبعوث الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، للعاصمة القطرية الدوحة، أمس الجمعة، لمناقشة آخر المستجدات الخاصة بمفاوضات التهدئة، في ظل التحذيرات شديدة اللهجة الصادرة عن ترامب بشأن ضرورة إبرام اتفاق قبل تسلمه السلطة رسميًا في 20 يناير/كانون الثاني الجاري.
وعقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اجتماعًا عاجلًا مع وزير الدفاع يسرائيل كاتس، وفريق المفاوضات، وذلك عقب تسلم الرسالة الإيجابية – بحسب وصف هيئة البث الإسرائيلية – من حماس، وسط تفاؤل من الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قال: “أنا متفائل بأننا سنتمكن من التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى، ونحن نحقق تقدمًا حقيقيًا”.
وبموازاة هذا التفاؤل النسبي الذي يخيم على أجواء المفاوضات، يواصل جيش الاحتلال عملياته الإجرامية داخل قطاع غزة لليوم الـ464، مخلفًا أكثر من 155 ألف شهيد وجريح فلسطيني، أغلبهم نساء وأطفال، وما يزيد على 11 ألف مفقود، بجانب مليوني نازح ومشرد بعدما دمر المحتل أكثر من 90% من بنية القطاع، وفي المقابل تستبسل المقاومة في التصدي لتلك الجرائم في ضوء إمكانياتها المحدودة، مكبدة الاحتلال الخسائر الفادحة في صفوف جيشه.
رسالة “حماس” الإيجابية.. ما مضمونها؟
أبدت حركة حماس خلال الآونة الأخيرة الكثير من المرونة إزاء مسار المفاوضات، متخلية عن عدد ليس بالقليل من شروطها السابقة، في محاولة لوقف معاناة الشعب الفلسطيني ووضع حد نهائي لتلك المأساة التي يعاني منها طيلة أكثر من 15 شهرًا، خاصة بعد تغير قواعد اللعبة، حيث تشديد الحصار المفروض عليها، وتحييد أهم جبهات الإسناد، في مقابل الدعم المطلق لجيش الاحتلال وتعطش نتنياهو وحكومته لاجتثاث فلسطينيي القطاع من جذورهم.
وتتمحور الرسالة التي قدمتها الحركة إلى الوسيط في تفكيك النقاط الخلافية التي طالما شكلت عقبة رئيسية أمام إبرام الاتفاق طيلة الأشهر الماضية، والتي كان يتذرع بها نتنياهو ويمينه المتطرف لعرقلة أي تهدئة، ويلقي بسببها الكرة في ملعب المقاومة بصفتها المعرقل الأكبر للجهود الدبلوماسية المبذولة، محملًا إياها المسؤولية الكاملة.
ويستند هذا التفكيك على ترحيل الحديث عن النقاط الخلافية للمراحل التالية من الاتفاق، مع التشديد على ضرورة تنفيذ تلك المراحل تباعًا دون توقف، وأن تُكثف الجهود الدبلوماسية لحلحلة تلك النقاط في أثناء تنفيذ مراحل الاتفاق المختلفة، حسبما نقل “العربي الجديد” عما أسماه “مصدر في المقاومة الفلسطينية”.
كما تتضمن الرسالة تعهدًا مصريًا قطريًا أمريكيًا بضمان تنفيذ كل الاستحقاقات المرحلية لهذا الاتفاق، دون السماح للجانب الإسرائيلي بعرقلته، مع تقديم الجانب المصري – بحسب المصدر – لبعض التسهيلات فيما يتعلق بالموقف من الانتشار الإسرائيلي في محور فيلادلفيا الحدودي، حيث كانت تتمسك القاهرة بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال منه وهو ما كان يرفضه الكيان المحتل ويتذرع به ضمن قائمة مبررات عرقلته لأي اتفاق مطروح.
ويتضمن الاتفاق المقترح مرحلة واحدة مقسمة إلى 3 فترات زمنية، وليس 3 مراحل كما كان في السابق، فإذا ما تم إقرار التصور بشكل نهائي، فإنه عقب أسبوعين من دخول الاتفاق حيز التنفيذ سيبدأ الحديث حول باقي المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة، حسبما نقل الموقع عن مصادر مصرية مطلعة، والتي أشارت إلى أن رؤية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في دعمها لإبرام صفقة تبادل تستند إلى ثلاثة محاور أساسية: الأول يتعلق باستطاعة الجيش العودة لقطاع غزة في أي وقت يستشعر فيه وجود خطر حقيقي، والثاني الرغبة في إطلاق سراح المحتجزين العسكريين لدى المقاومة، فيما يتعلق المحور الثالث بحالة الإنهاك التي لحقت بالجيش بسبب طول مدة القتال المتواصل.
وفي ذات السياق نقلت قناة “كان” العبرية عن مصادر أجنبية مطلعة على المفاوضات أن الرسالة الإيجابية التي نقلتها قطر عن “حماس”، تتعلق بقائمة الأسرى الأحياء وبقية نقاط الخلاف، فيما ذكرت هيئة البث أن “إسرائيل” والحركة ناقشتا إمكانية وقف إطلاق نار دائم لخلق الاستمرارية بين مراحل الاتفاق.
تفاؤل.. لكن كالعادة حذر
ردود فعل إيجابية أبداها الجميع إزاء هذا التطور اللافت الذي أحدثته رسالة “حماس” المطمئنة، حيث قالت القناة 12 العبرية إنه تم إبلاغ عائلات الرهائن بأن مفاوضات صفقة التبادل تجري بشكل مكثف خلف الكواليس، وأن مغادرة رئيس الموساد إلى الدوحة ستكون في أي لحظة، لافتة إلى أن العائلات تتلقى تحديثًا منتظمًا عن المفاوضات، وهم يعبّرون عن تفاؤلهم.
القناة أشارت إلى أن المحادثات التي جرت الأسبوع المنصرم شهدت تقدمًا كبيرًا في عدة قضايا من بينها عودة سكان شمال قطاع غزة والقضايا المتعلقة بمحور فيلادلفيا، كما شهدت كذلك تطورًا آخر تمثل في موافقة “حماس” على إطلاق سراح الرهائن الـ34 الذين طالبت “إسرائيل” بإطلاق سراحهم خلال المرحلة الأولى من الصفقة، بحسب القناة العبرية.
أما مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، وفي مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية (NPR) قال إن “هناك جميع الأسباب التي تجعل القادة السياسيين يدركون أن كفى يعني كفى. الكمال نادر في الشرق الأوسط، وحان الوقت لإبرام صفقة، أعتقد أن المفاوضات الجارية حاليًا جادة للغاية وتُقدم إمكانية، على الأقل، لتحقيق ذلك في الأسابيع القليلة المقبلة”.
ورغم هذا التفاؤل، فإن ذلك لا يعني أن المهمة اكتملت، حسبما أوضح مستشار الاتصالات بالبيت الأبيض جون كيربي، الذي قال إنّ بايدن تحدث مع فريقه المفاوض في محادثات الدوحة، وأن العمل جار بجدية من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، لافتًا إلى أن المحادثات لا تزال مستمرة وأن بعض التقدم قد تحقق، مؤكدًا أن بلاده تريد التوصل لاتفاق قبل انتهاء ولاية بايدن.
المقاومة تضع نتنياهو في مأزق
هذه المرة تحشر المقاومة نتنياهو في حجر زاوية ضيق، إذ أطاحت بقائمة المبررات التي كان يستند إليها في عرقلته لأي محاولة لإبرام اتفاق، فبجانب مرونتها المطلقة مقارنة بما كانت عليه بداية عملية التفاوض، فقد أغلقت الباب في وجه الفريق المناوئ للتهدئة داخل الحكومة الإسرائيلية من خلال إرجاء الحديث عن النقاط الخلافية لما بعد دخول الهدنة حيز التنفيذ، فضلًا عن التنازلات العدة التي قدمتها من أجل إنهاء المأساة المتفاقمة.
تتعامل “حماس” مع المشهد ببرغماتية سياسية واضحة، فرضتها التطورات الميدانية الصعبة، والتي نسفت جل المقاربات التي ارتكزت عليها الحركة في عملية طوفان الأقصى وما بعدها وحتى اليوم، فضلًا عن المستجدات الإقليمية الأخيرة والتي من المرجح أن تلقي بظلالها على أجواء المنطقة بأكملها ومن بينها المشهد الفلسطيني.
المرونة التي أبدتها الحركة خلال جولات المفاوضات الأخيرة، والتي تُوجت بالرسالة الإيجابية التي بعثت بها مع الوسيط القطري، هي ما أجبر نتنياهو على التعاطي المختلف هذه المرة مع تلك التطورات، حيث الاجتماع العاجل مع فريقه المفاوض، والتصريحات الإيجابية الصادرة عن مسؤولين في الحكومة، فضلًا عن الخطاب الإعلامي العبري الذي يميل بشكل واضح نحو قرب إبرام صفقة تبادل خلال الأيام المقبلة.
أداء المقاومة ميدانيًا هو الآخر كان له دوره المحوري في حلحلة مسار المفاوضات، لا سيما بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها جيش المحتل في الشمال خلال الأيام الماضية، وقدرة الفصائل الفلسطينية على التعافي والصمود رغم آلة التدمير والحصار الوحشية، هذا بخلاف حالة الإحباط التي خيمت على الرؤية الإسرائيلية بشأن فوضوية الحرب وفقدانها لبوصلة الأهداف بعدما باتت عبثية بلا رؤية ولا مسار واضح.
الضغوط الأمريكية التي تمارسها إدارة ترامب بشأن ضرورة إنهاء تلك الحرب وإبرام صفقة تبادل قبل 20 يناير/كانون الثاني الجاري ربما يكون لها حضورها في مشهد التعاطي الإيجابي هذه المرة، سواء من جانب المقاومة الفلسطينية أو الحكومة الإسرائيلية، فكل طرف يحاول تقديم حسن نواياه قبل تولي الرئيس الجديد السلطة رسميًا، وفي ظل المرونة التي أبدتها “حماس” والتي توجتها بالرسالة الأخيرة، فإن نتنياهو سيكون في مأزق حرج حال استمرار عناده وصلفه المعتاد.
“بي بي” الذي لا يؤتمن
عودنا نتنياهو أن العناد والعنجهية والغرور هي اللغة الأكثر استخدامًا منذ بداية الحرب، وأن التمترس خلف التوجه المتطرف الذي يقوده وزيرا المالية والأمن الداخلي في الحكومة، سموتريتش وبن غفير، هو العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيلية الرسمية طيلة الأشهر الـ15 الماضية، وعليه كان إجهاض كل المحاولات الدبلوماسية المبذولة من الوسطاء لفرض التهدئة ووضع نهاية لتلك الحرب الإجرامية التي تجاوزت في خسائرها البشرية والإنسانية الخطوط الحمراء كافة.
غير أن نتنياهو اليوم يفترض أن يكون في وضعية مغايرة، فرئيس الوزراء المنتشي بانتصاراته المزعومة في غزة مثُل قبل أيام وللمرة السادسة أمام المحكمة المركزية في تل أبيب للرد على تهم الفساد الموجهة إليه، فضلًا عن تصاعد احتجاجات عائلات الأسرى والشارع الإسرائيلي والمعارضة السياسية بصفة عامة، والتي تتهمه وحكومته بقتل المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة، وتطالبه بوضع حد لتلك المأساة وإبرام صفقة تبادل تنقذ ما يمكن إنقاذه ممن تبقى منهم على قيد الحياة.
وهنا يجد رئيس الحكومة المتهم في قضايا فساد والمحتمل تحميله مسؤولية قتل المحتجزين الإسرائيليين لدى “حماس”، نفسه بين أمرين: إما الإسراع في إبرام صفقة تبادل بعدما بات في وضع حرج مكشوف إثر رسالة “حماس” الأخيرة ومرونتها التي أبدتها مؤخرًا والتي تفند كل المبررات الواهية التي كان يسوقها رئيس الحكومة لعرقلة الاتفاق، وإما الانتظار حتى تسلم ترامب السلطة رسميًا، على أمل أن يمثل ذلك ضغطًا على المقاومة يدفعها لمزيد من التنازلات.
على كل حال ورغم الأجواء الإيجابية التي تخيم على المشهد، فإن الجزم بإبرام صفقة في غضون أيام كما يؤمل البعض نفسه، أمر سابق للأوان وغير محسوم بعد، في ظل وجود شخص كنتنياهو على رأس السلطة، فليس هناك شيء مضمون على الإطلاق مهما كان حجم الشوط المقطوع، الأمر الذي يُبقي الميدان هو المحك الرئيسي الفاصل خلال الساعات والأيام القادمة، ويضع الوسطاء أمام تحد جديد يتمثل في ممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة لإنهاء تلك المأساة ووضع حد لحرب الإبادة التي تُشن ضد شعب بأكمله.