الصورة: فتاة إيرانية ضمن حملة تصور فيها الإيرانيات أنفسهن بلا غطاء الرأس
الربيع العربي وكسر الصنم
منذ أن بدأت أحداث الثورات العربية رافقت مسيرة التغيير الهائلة للخارطة السياسية تغيير موازي بعمق أكبر في خارطة العلاقات الاجتماعية وفي طريقة النظرة الفردية لكل أعراف المجتمع المكتسبة منها، وحتى تلك التي لها أساس مرتبط بالدين (صنم القرن العشرين).
الأسرة العربية بصورتها التقليدية التي كان الأب يخرج في صباحه ساعيًا في مناكبها ليأتي ببعض الرزق ويطعم أبنائه الجياع الذين عادوا للتو من المدرسة التي لم تكن بالنسبة لهم سوى روتين قاتل لا بد من اتباعه من أجل الحفاظ على ماء وجههم أمام المجتمع الذي تغشاه الأمراض في كل أجزاء جسده النحيل من قهر وتسلط نمرود السلطة الحاكم .
تلك الصورة النمطية أصابها التمزق تدريجيًا مع تطور الأحداث العسكرية من قمع وقتل ممنهج حتى وصلت إلى اندثار كلي في معظم حالاتها؛ فالأب الذي جعله المجتمع النمطمي الآمر الناهي في المنزل والعماد الوحيد لاستمرار الأسرة حتى إن كانت المرأة (لبؤة الأسد) هي من تقدم الدخل المادي فهو له السلطة المطلقة (أسد لغابة)، هذا الأب إما قُتل أو غُيب خلف القضبان أو حمل سلاحه وانشغل بالصراع العسكري على إحدى الجبهات، هنا اضطرت المرأة للخروج من سجنها الذي لم يكن ذهبيًا في معظم الأحيان، خرجت وبدأت باكتشاف العالم على حقيقته خارج البيت لأول مرة وأصبح عليها فجأة تأمين الطعام والمصروف وإدارة شئون من تبقى من الأسرة ومواجهة تحديات المجتمع الذكوري الذي لم يضع في حسبانه يومًا أنها ستكون جزءًا فاعلاً فيه، بالإضافة لكل صور الدمار والقتل التي يشاهدها العالم عن الوضع السوري كانت تشاهد المرأة السورية على نحو خاص ملامحًا لطريق خلاصها وتحررها من قضبان السجن الكبير التي عاشت فيه بصمت لعقود طويلة، هنا بدأت تستجمع البقايا العالقة في ذاكرتها عن عبارات حرية المرأة وإكرامها التي لطالما سمعت عنها في نشرة الأخبار وقرأتها في مطلع صحيفة البعث والثورة والجمهورية وسمعت بها في درس الشيخ البوطي كل يوم إثنين في جامع بني أمية بدمشق .
خارج القضبان
كانت أحداث الثورة بكل ما فيها من مآسي وآلام بمثابة جسر عبور للمرأة السورية من ضفة القيود إلى ضفة اللاقيود التي وصفها البعض بـ (التحرر والتمدن) وذهب البعض الآخر إلى وصفها بـ (الانفلات الأخلاقي)، ما يهم أن المرأة وجدت على الضفة الأخرى طرفين بارزين يتزعمون حرية المرأة والحفاظ عليها: الطرف الأول: المشايخ والإسلاميون، وكان في الطرف الآخر: دعاة تحرر المرأة الاجتماعية وفق القيم الغربية ودعاة التمدن والانفتاح، فكانت ولإنها وصلت من ضفتها التي عاشت فيها زهرة شبابها شبه محطمة، تسارع دومًا في اختيار كل ما يخالف الوضع القديم دون النظر والتمحيص فيما كان النافع منه أو الضار وحتى دون التفكير فيما هي مقبلة عليه ومدى فائدته وضمانه لحقوقها وكراماتها على مستوى الفرد والمجتمع الذي تعيش فيه .
تدين الكذب ومشايخ التنفير ودعاة القتل
في العقود الماضية انحسرت صورة التدين كنمط بارز في شكلين: الأول: تقديس النص وليّ أعناق الواقع ليتوافق معه .. والثاني: تغليب الروحانية القاتلة وتمييع المبادئ الأخلاقية التي جاء بها وحي السماء لإصلاح حياة البشرية .
لم تخلُ الساحة من المتدينين الواقعيين لكنهم كانوا قلة وكانوا كلما حاولوا الظهور كتيار أو جهة ثالثه تتبنى منهج ديني مختلف قامت إحدى الجهتين بابتلاعهم أو حربهم وتصنيفهم كأعداء للدين، عدا عن أن وجود هاذين التيارين ضرورة لاستمرار سلطات الظلم والفساد في مكانها خصوصًا بعد الزواج العرفي الذي تم بينهم وبين السلطة السياسية .
هذا الوضع انعكس سلبًا وبشكل كبير على طيبعة تدين الأسرة السورية والعربية بشكل عام وجعلها تحرص على بناء القشرة الدينية وتهمل بناء المضمون، وشغلها عن البحث والإجابة عن الأسئلة الإشكالية في قضية الدين وعلاقته بالمجتمع بصراع التيارات الدينية والاصطفاف الحزبي المقيت وما له من تبعات .
شجع على استمرار هذا الوضع وتأزمه بشكل أكبر مشايخ الظاهرة الصوتية والفتاوى الطازجة وأرباب تفريغ العواطف بالخطابات الحماسية أو (شيوخ الكُبة) كما يحلو للعامة أن يطلقوا عليهم، مع بداية أحداث الثورة كانت هذه الصورة هي الأسرع تمزقًا بالنسبة للمجتمع خاصة أن معظم من حبسوهم داخل أقفاصهم الدينية المبنية على فهمهم الخاص كانوا هم الداعم الأول لنظام الدم والمسفه الأول لكل تضحيات الشعب في انفجاره المتشظي ضد سجانه، انكسر هذا الصنم أكثر وتحول إلى ركام عندما ظهر الطرف المتدين في صف معارضي النظام بثوبه المتطرف في أقسى صورة وبدأت حالات الهروب العلنية من بيئة التدين الاجتماعية بكل قيمها ورموزها إلى الطرف الآخر .
خلع الحجاب وأسلوب عرض العضلات
مسألة الحجاب ببعدها الشرعي تبقى ضمن مسألة قوله تعالى {لاإكراه في الدين} حتى وإن وردت فيها نصوص ثابته فهنا في دار الدنيا كما لا يختلف أحد من المتدينين على أنها دار اختبار ودور الإنسان فيها أن يدعو ويبّبن وأن يكون قدوة مشرقة في القول والفعل، أما الحساب فهو في الدار الأخرة ولا يختص به سوى رب البشر .
هنا، لست بصدد الحديث حول المشروعية الدينية لخلع الحجاب فأنا أعد بحثًا فقهيًا مأصلاً سيصدر قريبًا في مركز فكر للأبحاث والتدريب تحت عنوان (مشروعية الحجاب بين الأدلة الفقهية ونصوص الواقع) والذي لن يروق بحسب اعتقادي لكثير من فقهاء العصر .
بالعودة إلى قصة صديقتنا التي بدأت بها المقال وآخريات ممن خلعن الحجاب والتي تربطني بهن علاقة طيبة وأعرف كثير منهن، ما ظهر في الصورة هو تصدير العالم لهن كبطلات الحرية التي تخلصن من قيد الحجاب المقيت الذي كان يأسرهن وفق ما تروج له منظمات حقوق المرأة حول العالم، وفي متابعة للتصريحات التي صدرت عنهن حول أسباب نزع الحجاب كانت معظم الأسباب – بحسبهن – تصب في عدم رغبتهن في أن يحسبن على تيار المتطرفين الذي ظهر مؤخرًا في البئية السورية وكرههن لـ تسلط المشايخ القديم، ويختمن حديثهن بشكر الثورة التي منحت لهن الجرأة لشق هذا الطريق وساهمت في تحريرهن من القيود .
للأسف الشديد كان أول ما قمن به بالعموم هو انتهاك أول قاعدة في الحرية التي انضوين تحت دثارها وحين صبت تعليقاتهم في معظمها حول امتهان الحجاب كخيار اجتماعي أو ركيزة دينه وجعله صورة من صور التخلف الحضاري وعدو التمدن والحضارة، وتصويره كقيد يجب التخلص منه حتى يعود للمرأة دورها في المجتمع .
في الواقع .. إن معظم من خلعن الحجاب لم يكن نتيجة بحث أو عدم اقتناع بالرأي الديني أو الرغبة في التحرر من فرض اجتماعي، بل جاء تحت سياق حالة الانفلات التي أصابت عامة الشعب في مناحي الحياة والتي بُنيت في معظمها على ردات الأفعال العاطفية الغير مبررة، فكما برر الإسلامي قطع الرأس من جانبه الديني من أجل الثأر وشفاء غليل المسلمين، أيضًا التي خلعت الحجاب هي الأخرى بررت خلع الحجاب بالتحرر من قيود الدين والمجتمع والحقيقة التي تكمن وراء كليهما باعتقادي أنَ رغبةً وغريزة بشرية سيطرت عليهما، حاول كل منها التستر عليها والكذب على نفسه وعلى المجتمع كي يخرج بصورة تحول فكري تحسن من صورته أمام المجتمع.
ليس لدي أدنى مشكلة فيمن اقتنع بأمر يخالف كل ما أؤمن به وليس لدي إشكال حتى إن كان هذا الفعل عن اتباع الهوى، فما علي سوى التبيان والنصح وتقديم النموذج الصالح المرغب .
لكن لدي مشكلة كبيرة فيمن يضع نفسه تحت عنوان لا يسعُه ولا حتى جزءًا منه، ويتستر به على مرضه النفسي أو الخلقي الذي بدأ شرخه منذ بداية نشأة الأسرة منذ عقود ويجتهد بتجميل عيبه أمام الناس، لا ضير من السير في طريق واضح في أي اتجاه كان إن رافقه الوعي والإدراك، إنما المعيب أن الاستمرار بالكذب على ذواتنا ومحاولين تزيين المرض دواخلنا كي يراه المجتمع نضجًا وحضارة، من المعيب أن تمر سنين ثلاث واجه فيها المواطن البسيط أبشع صور القتل والدمار وسيلان الدماء على كل بقعة من أرض الوطن الطاهر ونحن ما زلنا عاجزين عن أن نخطو خطوة واحدة نحو الأمام وهي أن نكون صادقين في وصف ما نحن عليه بصراحة.
بالحديث عن ما قدمته الثورة للمواطن في تغيير الموازين، نعم .. فقد أعطت من يريد السلطة منصبًا، ورزقت من يريد المال أرصدة وحسابات، أعطت السارق والتنطع والكاذب والصادق والمخلص، أعطت لكلٍ من هؤلاء ما يريد .
ليس من الضروري بحال من الأحوال أن يكون ما نتج عن تطور الأحداث إبان الربيع الثوري إيجايبًا بل هو في معظمه سلبي يحتاج إلى صدق وجرأة في نقده ووعي في اخيتار القادم الأصح حتى نصل إلى مرحلة البناء .
المرأة التي نزعت الحجاب حالها في معظم الأحيان كحال من أطال لحيته تماشيًا مع الوضع العام وبدأ يتحدث باسم الله وهو لا يعرف أدلة إثبات وجوده ولا حتى إن كان هو مؤمنًا به حقا، أم أنه مجرد مقلد أعمى ساقته الظروف لمصيره كما يسوق الراعي قطيع الغنم.
حتى لا أُحمِل المقال ما لا يحتمل، فأنا ليست لدي مشكلة إطلاقًا مع من نزعت الحجاب عن قناعة ولست رقيبًا على أحد، بل على العكس إنني أدعو علنًا كل هؤلاء المحجبات التي لا يعلمن لم يرتدينه أن يبحثن ويقرأن، ومن ثم يتخذن قرارهن بجرأة ووضوح، وأدعو من الدعاة الجدد أن ينظروا إلى الواقع بعين العقل وتغليب المصالح ودرء المفاسد، إنما المشكلة في التلوي والخداع واستمرار الكذب على الذات والمجتمع وإلصاق الأسباب بغير مسببها، و”البهورة” في صفحات الإعلام الاجتماعي وشاشات الإعلام الرخيصة منها ذات الثقل .
لا استطيع أن أخفي فخري الشديد حينما أرى محجبة أو منقبة مقتنعة بما تفعل تخوض كل غمار الحياة وتتصدر شاشات الإعلام وتشارك في صنع الجيل كما ينبغي لها أن تكون بالرغم من كل الحروب التي يشنها عليها العالم المتحضر واتهامها بالتخلف والرجعية، كما أحترم الغير محجبة وهي تخوض بجرأة في الجوي الدنيي وخدمة للهدف الإنساني مع احترامها لتقاليده دون إسفاف ولا تفريط .
في نهاية المقال أوجه تحية لكل امرأة (كما ترى نفسها) تعرف ماذا تفعل وتشارك في صنع الحياة للمجتمع في كل ميادين النضال، كما أدعو لتلك التي خدعها الزيف وأضواء الأحلام الوردية فانتقلت من قطيع إلى قطيع آخر، أدعو لها بالخلاص والرشد والصلاح حتى تعود لدورها الأساسي في إصلاح هذا المجتمع المريض المتهالك ليعود قويًا وحضاريًا من جديد.