ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت هارييت تعلم أن ذلك سيحدث في نهاية المطاف، لكنها فوجئت بأنه حدث بتلك السرعة. بالكاد مرت ستة أشهر على غربتنا، ولاحظت أنني بدأت بالتذمر (هارييت غير يهودية ولكنها تعلمت الكلمة اليديشية التي تعبّر عن التذمر في وقت مبكر من علاقتنا).
كانت شكواي تأخذ تقريبا الصيغة التالية: “في الولايات المتحدة، اعتدتُ أن..” يعقبها الحديث عن متعة سابقة وحرمان حالي. على سبيل المثال: “في فلوريدا، كنت أشتري الأفوكادو الكريمي الذي يمكنني دهنه على خبز البيغل. أما هنا في نورويتش، فغالبًا ما يكون الأفوكادو صلبًا، ولا يوجد بيغل. من يحب الأفوكادو الصلب على الفطائر؟”.
إليك مثالين إضافيين: بعد أن اتفقنا أن لون سيارتنا الرينو الصغيرة تحول من الأبيض إلى البني بمفعول الطين في نورفولك، قلت لها: “في فلوريدا، اعتدت على الذهاب إلى مغاسل السيارات الأوتوماتيكية الكبيرة. أما هنا، فلديهم أكشاك غسيل صغيرة تعيد توزيع الأوساخ فقط”.
ثم بدأت أتذكر مغاسل السيارات الأمريكية التي ذهبت إليها العام الماضي: “كان بعضها على شكل زوارق تجديف أو سفن، والبعض الآخر على شكل سيارات مستقبلية مثل سيارات مسلسل الرسوم المتحركة جيتسون. كنت عادةً أجلس في السيارة وأعيش تجربة الرغوة والفرشاة والشطف والشمع والتجفيف عبر الزجاج الأمامي، كما لو كنت أشاهد فيلما ثلاثي الأبعاد. أتذكر عندما كنت طفلاً، كنت أذهب أنا ووالدي إلى إحدى تلك المغاسل في جادة كوينز في ريغو بارك…”.
اغرورقت عيناي بالدموع من الذكريات، وبدت هارييت مرتبكة. قلت في مناسبة أخرى: “كنت أعرف كيف أركن السيارة، في الولايات المتحدة هناك قواعد واضحة، أما هنا فالأمر فوضوي ! أوقف السيارة على رصيف طريق سريع ذي مسارين؟ لا بأس. على جانب الطريق في مواجهة حركة المرور القادمة؟ لا بأس. في شارع ضيق ببلدة صغيرة، مع وجود عجلتين على الرصيف (يسمونها أرصفة هنا)؟ لا مشكلة!”.
في بعض الأحيان تأخذ شكواي شكلًا مختلفًا ولكنها تحمل نفس المضمون التافه؛ فهي تبدأ بـ”لا أطيق” متبوعة على سبيل المثال بـ: القطارات المزدحمة، والمشردون، والقمامة، وعدم تعبئة القهوة مرة ثانية، والمراسلون الخجولون في إذاعة بي بي سي 4، وأحيانًا أشتكي من الخدمة الصحية، رغم أنني دائمًا ما أمهد بالعبارة التالية: “بالطبع، هم يبذلون قصارى جهدهم بالنظر إلى سنوات سياسة التقشف التي اتبعها حزب المحافظين”.
دائما ما تتسامح هارييت الصبورة مع تذمري، ولكنها توجه إليّ أحيانًا نظرات مرتابة، وعندما يحدث ذلك، أتمتم بعبارة من قبيل: “هذه مجرد ملاحظات.. انتقادات بناءة”، ثم أتابع بتبجح “إذا تحدث عدد كافٍ من الناس عن (…)، فقد تتحسن الأمور في هذا البلد!”.
قال أحدهم ذات مرة إن المغترب دون تذمر ليس سوى سائح. يعني ذلك بالنسبة لي أن الزائر لا يشعر بلوعة الغياب التي يشعر بها المغترب، لكن التذمر بالنسبة لي أكثر عمقا من مجرد الشكوى؛ إنه شكل من أشكال التعبير السياسي، خاصة عندما يكون المضمون تافهًا، فأنا لا أفتقد غسيل السيارات الأمريكية أو الأفوكادو أو تعبئة القهوة.
هذه مجرد ذرائع تخفي الخسارة التي تحزنني حقًا ولكنني أخجل من الاعتراف بها: الانتماء إلى القوة المهيمنة عالميا، أن أكون شخصا استثنائيا؛ فحتى بالنسبة لشخص ينتقد الهيمنة والانتهازية الأمريكية مثلي، هذا شعور يصعب التخلص منه. إن التذمر من الأشياء الصغيرة يجعلني أواجه الأشياء الكبيرة المسكوت عنها أو التي لا يمكن ذكرها. وكما يقول بورتنوي، التذمر هو “شكل من أشكال الحقيقة”.
الشكوى التوراتية
في سفر التكوين 2: 19-21، دعا الله آدم إلى تسمية جميع الحيوانات المخلوقة للتو، بما في ذلك “جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ”. لا يذكر الكتاب المقدس ما إذا كان آدم قد اشتكى إلى الله من عدم وجود امرأة، ولكن لا بد أنه فعل ذلك – إلا إذا كان الخالق قد قرأ عقل آدم – لأن حواء سرعان ما وُلدت من ضلع آدم. في ملحمته الشعرية “الفردوس المفقود”، يصوغ جون ميلتون القصة بشكل أكثر وضوحًا؛ فبعد الإعجاب بخلق الله، يتذمر آدم قائلًا:
“لقد وفرت كل شيء: ولكن معي
لا أرى من يشاركني. في العزلة
أَيّ سَعَادَةٍ؟ من يستطيع أن يَسْتَمْتِعُ وَحْدَهُ؟
أو، مع كل هذه المتعة، أي رضا يجده من يستمتع؟”
(الفصل الثامن، 363-66)
يرد الله هنا:
“ما سآتي به بعد ذلك سوف يرضيك، كن مطمئنًا
شبيهك، وعونك الملائم لك، وذاتك الأخرى
أمنيتك تمامًا كما يرغب قلبك”
(الفصل الثامن 449-52)
التذمر يؤتي ثماره بقوة!
وفي سفر الخروج، السفر الثاني من العهد القديم، هناك شكوى إضافية:
“وَلَمَّا مَاتَ مَلِكُ مِصْرَ، وتَنَهَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ من الْعُبُودِيَّةِ وَصرخوا، فصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إِلَى اللهِ بِسَبَبِ الْعُبُودِيَّةِ”.
(خروج 23:2)
بعد فترة وجيزة، اشتكى موسى أيضًا إلى الله. لماذا شجعه على مناشدة الملك المصري الجديد نيابة عن اليهود، ليقوم الفرعون بمعاملتهم بشكل أقسى، ونجح تذمر موسى؛ فقد وافق الله على السماح لشعبه بالخروج، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى المزيد من الشكاوى. فعندما عبر بنو إسرائيل الصحراء، تذمروا من افتقارهم إلى الطعام، فقدم الله لهم لحمًا في المساء وخبزًا طازجًا (المن) كل صباح لمدة 40 يومًا. يبدو أن هذا النظام الغذائي كان مملًا للغاية، ولكن لو طلبوا المزيد لكانوا قد عوقبوا على الأرجح.
أن تأخذ أو تطلب المزيد عندما يكون لديك ما يكفيك، كان يعدّ تكبّرا، وهي خطيئة أدانها الرعاة الأوائل الذين ذكرتهم النصوص التوراتية، ولا يزال هذا الأمر متعارفا عليه بين الرحّل الباحثين عن الطعام والرعاة، كما يؤكد عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد بورشاي لي في دراساته عن شعب الكونغ في كالاهاري بجنوب أفريقيا. ولكن في معظم الأماكن في العالم اليوم، يعد الحصول على ما يزيد عن الحاجة أسلوب حياة؛ إنه أساس الاقتصاد والمجتمع الحديث.
التذمر الرأسمالي
كلمة “kvetch” (الشكوى/التذمر) لها أصل اشتقاقي غريب، فهي مشتقة من اللغة الألمانية العليا الوسطى “questschen”، والتي اشتقت بدورها من كلمة “esquasher” الفرنسية في العصور الوسطى، والتي تعني الاعتصار أو السحق أو الإيلام أو الضغط، ولا يزال هذا أحد معانيها في اليديشية.
ليس من الواضح تمامًا كيف أخذت الكلمة تعريفها الأكثر شيوعًا في العصر الحديث، لكن “kvetch” تعني الضغط على نقطة أو الضغط على شخص ما أو شيء ما للحصول على ميزة. قد يتملق شخص ما -ويُطلق عليه (kvetcher)- للحصول على المال، أو قد يضغط للحصول على تبرع أو قرض من شخص أو مؤسسة.
التملق بهذا المعنى هو أمر أساسي في الأعمال التجارية الحديثة؛ حيث يتم تحقيق الربح عن طريق استخلاص كل قرش من العامل (فائض القيمة)، أو قطعة الأرض، أو الآلة، أو براءة الاختراع، أو حقوق النشر، أو الترخيص. وفي عمليات البيع بالتجزئة، لا يتحقق الربح من المبيعات الأولى بل من الأخيرة، وينطبق الشيء ذاته على الصناعات الاستخراجية التي تتطلب استثمارات أولية عالية، فشركات النفط مصممة على بيع آخر نقطة بترول من كل منصة حفر وحيازة مستأجرة، بغض النظر عن العواقب البيئية، لأن هذا هو أكبر مصدر لأرباحها.
تحقق شركات الأسهم الخاصة – مثل مصاصي الدماء – أرباحها من خلال امتصاص كل قطرة من رأس المال (المخزون والآلات وبراءات الاختراع) ثم تصفية الباقي وطرد العمال. وتأمين الحماية بعد الإفلاس هو شكل من أشكال التذمر: فبعد جمع أقصى قدر من الأرباح للإدارة والمساهمين (إذا كان كيانًا متداولاً في البورصة)، تعلن الإفلاس وتضغط على الدائنين.
ودونالد ترامب هو المتذمر الأكبر في الولايات المتحدة بحكم إفلاسه المتكرر واحتياله وتذمره من أنه مضطهد من المدعين العامين والقضاة وهيئة المحلفين والديمقراطيين والصحفيين والنساء اللاتي اعتدى عليهن جنسيًا. ترامب رجل عصره: التذمر هو أعلى مراحل الرأسمالية.
جدلية التذمر
في الأسبوع الماضي، كنت بطلًا في التذمر. تغير الطقس وأصبح باردًا، وشعرت بالحنين لمنزلنا السابق في ريف فلوريدا. بالإضافة إلى البرد، اشتكيت من عدم وجود “مخللات كوشير” والجبن النباتي وأجهزة الراديو التي تستقبل بالأقمار الصناعية. وأثناء تغيير أحد المصابيح، تذمرت من التيار المستمر (وهو أمر خطير للغاية).
وخلال نزهة في المدينة، تذمرت من انتشار بقع العلك على الأرصفة في كل مكان. منذ عشرين عامًا، اقترح البرلمان تطوير علكة غير لاصقة، ولكن حتى الآن لم يحدث أي تقدم في هذا المجال. وفي الآونة الأخيرة، تم إنشاء فريق عمل معني بمكافحة هذه البقع. ومرة أخرى، لم يحدث أي تقدم، واقتراحي هو وضع المخالفين الذين يلقون العلكة على الأرض في السجن.
أفتقد المخللات والجبن النباتي الكريمي والتيار المتردد والأرصفة الخالية من العلك، لكن أكثر ما أفتقده الآن، وهو شيء أكافح أيضًا للتخلي عنه: الارتباط بالإمبراطورية. فالولايات المتحدة دولة مهيمنة عالميًا وكارثة بأتم معنى الكلمة. جيشها يتنمر على أعدائها المفترضين وحلفائها على حد سواء، وامتيازاتها الجيوسياسية لا يمكن منافستها، ومع ذلك فهي لا تستطيع إطعام أو إسكان أو تعليم أو حماية صحة سكانها بشكل كافٍ.
كما أنها تسيء معاملة المهاجرين الذين يساعدون في توفير طعامها وبناء منازلها ورعاية أطفالها وشيوخها وحدائقها. تزرع الولايات المتحدة وتستورد الأفوكادو اللذيذ ولكنها لا تستطيع حماية مياهها وهوائها من التلوث. الحيوانات غير الأليفة مهددة بالانقراض، والأطفال مهددون بالموت بسبب العنف المسلح، تبًا لهذه الإمبراطورية.
مازالت الأراضي المفتوحة والمناظر الطبيعية الأمريكية تسلب الألباب، مستحضرة السرقة (من سكانها الأصليين) والانعتاق في آن واحد. أما الطرق الضيقة والمتعرجة التي تتلوى عبر نورفولك، والتي غالبًا ما تكون محاطة بسياج عالٍ من الجانبين، فهي أقل انصهارا مع الأساطير والأحلام؛ لأنك إذا أبعدت عينيك عن الطريق ولو لبضع ثوانٍ، فقد ينتهي بك المطاف في خندق أو أمام السيارات القادمة من الاتجاه المقابل.
ولكن كلما ذهبت أنا وهارييت، لزيارة حماتي في بورنهام-أوفري-ستايث، على ساحل نورفولك الشمالي، نشاهد المستنقعات الشاسعة والكثبان الرملية التي لا تقل سحرًا عن أي مشهد أمريكي.
المملكة المتحدة دولة أوروبية متوسطة المساحة على رأسها حكومة عمالية غير فعالة لا تختلف كثيرًا حتى الآن عن حزب المحافظين الذي حلت مكانه؛ حيث تتركز الثروة في أيدي أثرياء متعجرفين، ورجال أعمال في مجال التكنولوجيا، وأصحاب رؤوس الأموال الذين يستنزفون البلاد.
وفي سياستها الخارجية، تلعب المملكة المتحدة بشكل تراجيدي-كوميدي دور الكلب المدلل للعملاق الأمريكي. وبصفتي مغتربًا، يمكنني رؤية كل هذا دون أي غشاوة على عيني. وعندما نزور الولايات المتحدة في المرة القادمة، آمل أن أتذكر ساحل بحر الشمال، وأنا أتذمر من بعدي المؤقت عن المارميت والبازلاء الطرية والدوارات وقناة “بي بي سي 4” والخدمة الصحية الوطنية.
المصدر: كاونتر بانش