كان الاقتصاد ابتداءً هو المحرك الأساسي – إن لم يكن الوحيد – لاشتعال الشارع السوداني ضد نظام البشير، ففي الـ19 من ديسمبر/كانون الأول انطلقت شرارة الثورة الشعبية من إحدى مدارس مدينة عطبرة رفضًا للأوضاع الاقتصادية المتردية ولحقت بها فيما بعد مدينة القضارف، امتدت بعد ذلك إلى معظم المدن بما فيها العاصمة تدريجيًا، فيما ارتفع سقف المطالب وصولًا إلى إسقاط النظام.
الاقتصاد كما كان منبع الحراك، فلا شك أنه سيكون المصب كذلك، فما فائدة أي اتفاق سياسي أيًا كانت بنوده دون وضع خريطة طريق لتحسين الأوضاع الاقتصادية التي كانت سببًا رئيسيًا في إشعال الأوضاع، وإلا بات ذلك كمن يحرث في الماء، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات عن هذا الملف بعد اقتراب الإعلان الرسمي عن توقيع اتفاق الخرطوم بين المجلس الانتقالي العسكري وقوى الحرية والتغيير.
تجربة إدارة العسكري للمشهد منذ الإطاحة بالبشير لم تكن – وفق ما كشفته الإحصاءات – متوافقة تمامًا مع مطالب المواطنين الساعين لتحسين أوضاعهم المعيشية، ومع التوافق الحاصل على تشكيل حكومة جديدة، يعاود السودانيون التذكير بمطالبهم المعيشية، وسط آمال بتحقيقها.
وكان الطرفان قد اتفقا أمس الجمعة على الإعلان السياسي المحدد لكل هيئات المرحلة الانتقالية، بحسب ما أكد المبعوث الإفريقي محمد الحسن ولد لبات الذي أوضح أنهما “اجتمعا أمس في دورة ثالثة من المفاوضات، في جوّ أخوي وبنّاء ومسؤول”، مؤكدًا استئناف الجلسات اليوم للدراسة والمصادقة على الوثيقة الثانية، وهي الإعلان الدستوري، حسبما ذكرت وكالة الأنباء السودانية “سونا“.
مزيد من التأزم تحت حكم الانتقالي
شهدت المنظومة الاقتصادية السودانية مزيدًا من التأزم في عهد المجلس العسكري الانتقالي، وطيلة الأشهر الثلاث التي تقلد فيها الحكم من 11 من أبريل الماضي وحتى الآن تسير الأوضاع من سيء إلى أسوأ، الأمر الذي لم يضعه بمفرده في موقف حرج، بل يضع الاتفاق المزمع على المحك كذلك إن لم ينجح في احتواء تلك الأزمة.
التضخم في السودان شهد ارتفاعًا ملموسًا في يونيو الماضي، إذ سجل 47.78% مقارنة بـ44.95% مايو الماضي، وفق ما أشار الجهاز المركزي للإحصاء الذي عزا مديره كريم الله علي عبد الرحمن هذا الارتفاع إلى زيادة أسعار السلع الغذائية وارتفاع تكلفة التعليم العام.
ضرورة إعادة الحكومة الجديدة النظر في السياسات الاقتصادية الممارسة، وأن تعزز من سياسة فتح المشروعات الجديد التي تعتمد على الإنتاج والتصنيع، وفتح المصانع التي أغلقت
عبد الرحمن كشف أن أكثر من ثلثي التضخم تسهم فيه مجموعة الأغذية والمشروبات بـ65.28% من نسبة معدّل التضخم، مشيرًا إلى تأثير ارتفاع رسوم التعليم للعام الدراسي الجديد في هذه الزيادة كذلك، قائلًا إنه حال استبعادها فإن التضخم ينخفض إلى 43% وينخفض لذات النسبة في حال استبعاد السلع الغذائية المستوردة.
مراقبون للأوضاع هناك أشاروا إلى فشل المجلس في إدارة الموارد الاقتصادية للسودان بطريقة جيدة، ما يدفع إلى انتشار الظواهر السالبة مثل ارتفاع الأسعار إضافة إلى ضعف الإنتاج، موضحين أن ارتفاع الأسعار يعكس حالة الخلل الواضحة في الأسواق، ما يمهد الطريق أمام تصاعد نسب التضخم كنتاج حتمي للاحتكار الذي بات سمة رئيسية في الشارع السوداني خلال الاشهر الثماني الأخيرة منذ ديسمبر الماضي.
زيادة معدلات التضخم في فترة المجلس العسكري
اقتصاد ما بعد الاتفاق
الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يحياها السودانيون الآن بحاجة إلى حلول جذرية قبل تفاقمها بصورة يصعب بعدها السيطرة على المشهد برمته، ووفق ما ذهب إليه اقتصاديون فإن البلاد تحتاج الآن إلى ما يقرب من 20 مليار دولار على شكل قروض ومنح وهبات خارجية لحل المشاكل العاجلة، قبل وضع إستراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع المشاكل مرحليًا خلال الفترة المقبلة.
الخبراء وضعوا روشتة عاجلة لحل الأزمة، مع التوصية بضرورة تضمينها للاتفاق المزمع التوقيع عليه وإعلانه رسميًا خلال ساعات، وإلا فلا قيمة له إن لم يضع البُعد الاقتصادي على أولوياته، تلك الروشتة التي اعتمدت على ركائز أربعة يمكن أن تكون نواة حقيقية لتحسن الأوضاع.
العلاج الأول والأسرع وفق ما ذهب إليه ثروت نافع أستاذ الاقتصاد بجامعة سوهاج، مراقبة الأسواق، فالأوضاع الحاليّة أشبه بالفوضى، ولا بد من التحرك العاجل لتحجيمها وتقنين الأمور وفرض السيطرة الكاملة على المشهد الاقتصادي وتوفير مناخ العدالة بين المواطنين.
اللحمة الثورية وحالة الروح الوطنية العالية التي كان عليها الثوار طيلة حراكهم كانت مسكنًا للأوضاع المعيشية الصعبة، لكن في حال التوصل إلى الاتفاق، فإن الأمر سيصعب تحمله
نافع لـ”نون بوست” دعا الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها قريبًا إلى العمل لمنع الانفلات الاقتصادي ومراقبة الأسواق بصورة تضفي الأمان والاستقرار على الجميع، محذرًا من تبعات الممارسة السلبية للمراقبة التي قد تزيد المشهد ضمورًا وتفاقم وضعيته الحرجة.
الفترة الماضية شهدت موجات احتكارية غير مسبوقة، وهو ما انعكس سلبًا بجانب زيادة معدلات التضخم على الأحوال المعيشية للمواطن محدود الدخل الذي بات الحصول على لقمة العيش مغامرة غير مضمونة لا سيما في المناطق النائية بعيدًا عن العاصمة، الأمر الذي يجعل من مراقبة الأسعار لتشمل كل محافظات البلاد أمرًا غاية في الأهمية.
فيما ذهب الخبير الاقتصادي إلى ضرورة إعادة الحكومة الجديدة النظر في السياسات الاقتصادية الممارسة، وأن تعزز من سياسة فتح المشروعات الجديد التي تعتمد على الإنتاج والتصنيع، وفتح المصانع التي أغلقت، وأن تفتح المجال أمام المواطنين ورجال الأعمال لتدشين المشروعات ذات العائد الاقتصادي السريع، تلك الخطوات التي تمثل الواجهة الحقيقية للاقتصاد الوطني بعيدًا عن الأرقام التي تتشدق بها الأجهزة الرسمية التي ربما لا تعبر عن الواقع.
استمرار مفاوضات تشكيل الحكومة بين المجلس وقوى المعارضة
في الإطار توقع الخبير الإحصائي الدكتور عبد الله الرمادي أن يؤدي الاتفاق للاستقرار السياسي والاقتصادي ومن ثم لا بد من الضغط لإعادة الاستثمارات الأجنبية والمحلية الهاربة، مع اجتذاب المشروعات التي أنشأها سودانيون بإثيوبيا والبالغة 1500 مشروع وتقدر بمليارات الدولارات إلى الاقتصاد السوداني وتشغيل العمالة السودانية فيها، مما يسهم في انتعاش الاقتصاد وتحسين معاش الناس وإعادة التعاونيات ومراكز البيع المخفض بالمدن والأحياء والأرياف.
فيما رجّح أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة الخرطوم الدكتور صلاح الدين الدومة، تلقي بلاده مساعدات وإعانات اقتصادية كبرى من الدول العربية والخليجية، وضمنًا الدول التي كان لديها توتر في العلاقات مع النظام السابق في السودان، مشددًا على ضرورة إجراء تقييم دقيق لتحديد حجم الاحتياجات الفعلية من المساعدات من الخارج، للتغلب على أزمة نقص السلع الأساسية وضعف السيولة.
وعلى الجانب الآخر فإن عدم المضي قدمًا في علاج الأمراض الاقتصادية المتفشية في الجسد السوداني لا شك أنها ستصيب بقية أعضاء الجسد حتى المتعافى منها، وفق ما حذرت منه أميرة ناصر الصحفية المصرية المتخصصة في الشأن السوداني، التي أشارت إلى أن السياسة في مخيلة السودانيين كانت البوابة نحو تحسين الأوضاع الاقتصادية وليس العكس.
ناصر لـ”نون بوست” أوضحت أن اللحمة الثورية وحالة الروح الوطنية العالية التي كان عليها الثوار طيلة حراكهم كانت مسكنًا للأوضاع المعيشية الصعبة، لكن في حال التوصل إلى الاتفاق، فإن الأمر سيصعب تحمله حال الفشل في تحقيق الغاية التي من شأنها تحمل الملايين تلك الأوضاع.
كنا قد أشرنا في تقارير سابقة إلى أن الوضع الاقتصادي ربما يكون تحديًا مهمًا في مواجهة اتفاق الخرطوم ضمن خمسة تحديات باتت قنابل موقوتة تضع مستقبل هذه الخطوة على المحك، وهو ما يتعزز يومًا تلو الآخر وفق شهادات العديد من النشطاء والمشاركين في الحراك الثوري، الأمر الذي يجب أن يوضع تحت مجهر الاهتمام عند تشكيل الحكومة الجديدة ووضع مهام عملها خلال الفترة المقبلة.