سنة 1997، كتبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في أحد الكتب عندما كانت وقتها وزيرة للبيئة: “أرغب في اختيار الوقت الصحيح لاعتزال السياسة، هذا أمر أصعب بكثير مما كنت أتخيله في السابق، لا أرغب في الانتظار حتى أتحول لحطام بالكاد يقدر على الحراك”.
مقولة تذكرها الألمان الآن وعادت إلى الانتشار بكثافة في ظل تتالي موجات “الارتجاف” التي تصيب ميركل في هذه الفترة وخوفهم من انهيار أقوى سيدة في البلاد، ما يجعل السؤال: هل فوتت المستشارة الألمانية الوقت المناسب للاعتزال؟ يتكرر بكثافة عند الكثير من الألمان وعند غيرهم أيضًا.
ثلاث نوبات
آخر حالات الارتجاف كانت قبل ثلاثة أيام، ففي أثناء استقبال رئيس الوزراء الفنلندي أنتي رين يوم الأربعاء الماضي، أظهرت لقطات تليفزيونية المستشارة الألمانية ميركل وهي ترتجف، وهي ثالث مرة تصيبها هذه الحالة خلال أسابيع قليلة.
واهتز جسد ميركل بينما كانت تقف مع أنتي ريني خلال عزف فرقة عسكرية النشيدين الوطنيين للبلدين، وفي محاولة منها لوقف الارتعاش ضمت ميركل ذراعيها إلى صدرها إلى أن سيطرت على الوضع وعادت إلى حالتها الطبيعية خلال استعراض حرس الشرف.
مباشرة إثر ذلك، قال متحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفان زايبرت إن ميركل بخير، وأوضح زايبرت أن المستشارة شعرت بالتوعك للحظات، وبعد ذلك تناولت بعض الشراب والطعام وأكملت المقابلة، فيما قالت ميركل معقبة على نفس الأمر خلال المؤتمر الصحفي: “شربت ثلاثة أكواب من الماء على الأقل منذ ذلك الحين وهو ما كان ينقصني على ما يبدو، أنا الآن في حالة جيدة جدًا”.
رغم تكرر حالات الارتعاش، لم يقدم مكتب ميركل إلى الآن أي تفسير للأمر، كما أن ميركل لم تعلن بشكل واضح إذا خضعت لعلاج طبي أم لا
قبل ذلك، شوهدت ميركل وهي ترتجف خلال لقاء بالرئيس فرانك فالتر شتاينماير يوم 27 من يونيو/حزيران، لكن المتحدث باسمها قال إنها بخير، وسافرت ميركل بعدها كما كان مقررًا إلى اليابان لحضور قمة مجموعة العشرين.
وبدأت ميركل في الارتجاف بشكل مفاجئ، في أثناء تسليمها وثيقة تعيين وزيرة العدل الألمانية الجديدة كريستينه لامبريشت، في قصر الرئاسة الألماني، وبررت ميركل ارتجافها آنذاك بأنها لم تشرب ما يكفي من المياه، رغم حرارة الجو.
أما الحالة الأولى فكانت يوم 18 من يونيو/حزيران الماضي، حيث بدا على ميركل خلال وقوفها أمام حرس الشرف بجانب الرئيس الأوكراني الجديد فولوديمير زيلينسكي، ارتجافات شديدة في ساقيها وجسمها، لكن عندما سارت برفقة زيلنسكي أمام حرس الشرف خف الارتجاف بوضوح.
لا تفسيرات إلى الآن
رغم تكرر حالات الارتعاش، لم يقدم مكتب ميركل إلى الآن أي تفسير للأمر، كما أن ميركل لم تعلن بشكل واضح إذا خضعت لعلاج طبي أم لا بعد تعرضها لهذه النوبات خلال مهامها الرسمية في الفترة الأخيرة.
وسبق أن استبعد العديد من الأطباء، وفق وسائل إعلام محلية وجود مشكلة صحية خطيرة لدى المستشارة الألمانية، حيث ربط نائب مدير قسم الطوارئ في مستشفى هامبورغ – إبندورف الجامعي، ألكسندر شولتسه، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية حالة ميركل بنقص محتمل للسوائل في جسمها، مضيفًا أن الارتجاف في حد ذاته ليس أمرًا مثيرًا للقلق من المنظور الطبي.
وذكر شولسته أن معلومة أن المستشارة تحسنت حالتها عقب تناولها ثلاثة أكواب من المياه من الممكن أن تكون بلا شك إشارة إلى أنها عانت من مشكلة قصيرة المدة في الدورة الدموية، وجاءت هذه التصريحات عقب أول حالة ارتجاف تتعرض لها ميركل أي قبل نحو شهر من الآن.
يرجع قلق الألمان من تكرر حالات الارتجاف لدى ميركل من خوفهم أن تكون المستشارة مريضة بمرض خطير
يعد غالبًا الجفاف أو نقص السوائل من أحد الأسباب المحتملة للإصابة بنوبة الارتجاف، ويتكون جسم الإنسان من نحو 70% من الماء، فيما يصل الأمر إلى 90% عند الدماغ، ويزود الماء خلايا الجسم بالمواد المغذية والأكسجين، فضلاً عن دوره في تنظيف الجسم.
وإذا كان شخص ما لا يشرب ما يكفي من الماء، أو يتعرق بغزارة أو يفقد السوائل من خلال القيء أو الإسهال، فإنه يُعطل توازن السوائل في الجسم، أما في حال عدم تجديد السوائل بسرعة، فإن الجسم يصبح كله في حالة من التأهب، ويبدأ بالتالي في التشنج والارتجاف.
قلق ينتاب الألمان
غياب تفسير معين لحالة ميركل، أثار جدلًا كبيرًا في ألمانيا، وزاد اختيار المستشارة الألمانية، الجلوس خلال استقبال رسمي خصصته لرئيسة الوزراء الدنماركية الجديدة التي تزور ألمانيا، على عكس البروتوكول المعمول به، من هذا الجدل.
وفيما تقف ميركل إلى جانب ضيوفها عادة لسماع الأناشيد الوطنية التي تقدمها فرقة موسيقية تابعة للجيش الألماني، اختارت ميركل هذه المرة الجلوس إلى جانب ميتيه فريدريكسن، وذلك بعد يوم من إصابتها بعارض صحي خلال استقبال رئيس الوزراء الفنلندي.
سبق أن أثيرت مخاوف بشأن صحة ميركل سنة 2014 عندما أصيبت بوعكة في أثناء مقابلة تليفزيونية
يرجع قلق الألمان من تكرر حالات الارتجاف لدى ميركل من خوفهم من أن تكون المستشارة مريضة بمرض خطير، ذلك أن الإصابة بنوبة ارتعاش تكون في بعض الأحيان مرتبطة بالمرض، ففي كثير من الأحيان تكون هذه النوبات أحد أعراض الإصابة بالصرع، كما قد تكون أسباب الإصابة بنوبة ارتعاش أيضًا اضطرابات في الدورة الدموية أو تلف في الدماغ أو السحايا.
وسبق أن أثيرت مخاوف بشأن صحة ميركل سنة 2014 عندما أصيبت بوعكة في أثناء مقابلة تليفزيونية، وتوقف البث لفترة وجيزة لإصابتها بهبوط في ضغط الدم، كما سجلت نفس السنة اختفاء ميركل عن الأنظار بعد حادثة تزحلق على الجليد في سويسرا وإصابتها بكسر غير مكتمل في الحوض.
ما يزيد من الاستغراب أن الحزب الذي قادته ميركل منذ سنة 2000 حتى شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم يتناول هذه المسألة في نشراته الصحافية التي يرسلها صباح كل يوم إلى كل المسؤولين في وسائل الإعلام الألمانية.
كل هذا الأمور جعلت الأصوات المطالبة من داخل ألمانيا، لميركل والمحيطين بها بالمزيد من التوضيح عن حالتها الصحية لقطع الطريق على الجدل المحتمل، ترتفع أكثر، حيث يريد الألمان الاطمئنان على صحة زعيمتهم التي تحكم البلاد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
اعتزال السياسة
بالعودة إلى المقولة التي كتبتها ميركل سنة 1997 التي تحدثت فيها عن الوقت الصحيح لاعتزال السياسة، نرى أن المستشارة الألمانية التي تستعد للاحتفال بعيد ميلادها الـ65 فوتت على نفسها الفرصة أكثر من مرة لاعتزال السياسة وهي في موضع قوة.
ففضلاً عن الموجات المتكررة من الارتجاف، شهدت صورة ميركل تراجعًا كبيرًا، فقد أضعفت انتخابات سبتمبر/أيلول الماضي المستشارة وتركتها دون غالبية مطلقة في البرلمان، مع تحول جزء من ناخبيها إلى حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف بعدما أغضبتهم سياسة ميركل المتحررة تجاه اللاجئين.
تراجع مكانة ميركل في الفترة الأخيرة
هذا الأمر جعل الجناح الأكثر تشددًا من ناشطي الاتحاد الديمقراطي المسيحي يطلب من ميركل مغادرة رئاسة الحزب التي تشغلها وهو ما حصل نهاية السنة الماضية، لكنه لم يكتف بذلك فقد طالبها أيضًا بترك منصبها كمستشارة، وطالب بول تيسمياك زعيم منظمة الشباب في الحزب نفسه “بوجوه جديدة” على رأس الحزب “وتوجه محافظ أكثر تشددًا”، وقال: “علينا أن نعدد أخطاءنا بشكل واضح: من الواضح أن جزءًا من ناخبينا يشعرون أنهم غير ممثلين بشكل كافٍ”.
من شأن كل هذا أن يعجل بترك ميركل منصبها قبل الموعد المحدد لذلك وهو سنة 2021، حتى تنقذ ما تبقى لها من مكانة لدى الألمان، فصحيح أن هذه الفرضية لم تجد صدى كبيرًا عند غالبية الألمان إلى الآن، لكن كل المؤشرات توحي بتصاعد الضغوط المسلطة عليها داخليًا وخارجيًا.