في 11 من سبتمبر/أيلول 2018، وعلى مدار 7 أيام متواصلة، شهدت مناورات “فوستوك-2018” أو “الشرق-2018″، في شرق سيبيريا، أضخم التدريبات العسكرية الروسية منذ أكثر من 3 عقود، بمشاركة نحو 300 ألف من القوات الروسية والصينية والمنغولية، و36 ألف دبابة ومدرعة، وأكثر من ألف مروحية وطائرة مسيَّرة.
كانت هذه المناورات، وهي الأكبر منذ تدريبات الحرب الباردة عام 1981، أكثر من مجرد تمرين، لقد كانت فرصة للعلاقات العامة لعرض المعدات العسكرية الروسية، ثاني أكبر مصدر للدخل في موسكو بعد النفط، وفرصة أخرى لاستعراض التحالف مع الصين ردًا على أكبر مناورات أجراها حلف شمال الأطلسي “الناتو” منذ انتهاء الحرب الباردة، وهددت روسيا على إثرها أوروبا باستهداف أي دولة فيها تقبل بنشر الصواريخ النووية الأمريكية على أراضيها.
وخلال هذه المناورات، عرضت روسيا صواريخ أرض – جو “إس 400″، أحد أكثر أنظمة الأسلحة تطورًا وتسويقًا في البلاد في السنوات الأخيرة، وهي من إنتاج شركة “ألماز – أنتي”، المملوكة للحكومة الروسية، وبسبب قدراتها التي أظهرتها في المناورات، قالت العديد من الدول بما فيها الصين والسعودية وتركيا والهند وقطر إنها على استعداد لشراء منظومة الصواريخ الروسية.
لماذا “إس 400” دون غيرها؟
من ضواحي موسكو، بدأت عام 2007 أول كتيبة للجيش الروسي عملها، مزودة بأحدث منظومة صاروخية روسية “إس 400 تريومف” (S-400 Triumf)، التي تعني “الانتصار”، وهي من بين أكثر أنظمة الدفاع الجوي تقدمًا في الوقت الحاليّ، مقارنةً بما يقدمه الغرب في مجال منظومات الدفاع الصاروخية، وتعتبر هذه النسخة الأكثر تطورًا من المنظومة السابقة “إس 300″، التي طُورت في تسعينيات القرن الماضي، وأُرسلت مؤخرًا إلى سوريا.
بالمقارنة مع المنظومات الأمريكية المماثلة، يصل عدد الأهداف التي تتابعها المنظومة الروسية إلى 300 هدف في آن واحد، وتستطيع كذلك توجيه 72 صاروخًا في آن واحد، ولكن يمكنها تدمير 36 هدفًا جويًا في الوقت نفسه
“إس 400” هي منظومة صاروخية ذات قدرة سريعة على ملاحقة أهداف عدة في آن واحد، مصممة لتدمير وإسقاط كل وسائل الهجوم الجوي، بما في ذلك الطائرات والمروحيات والصواريخ البالستية والبحرية المجنّحة، ومن أبرز الطائرات التي يمكن استهدافها بالمنظومة الطائرات الشبح والقاذفات الإستراتيجية وطائرات الاستطلاع والإمداد المبكر والطائرات المسيَّرة.
هذه المنظومة قادرة على ضرب صواريخ “كروز” من على بُعد 400 كيلومتر، أي ضعف ما كانت تقدر عليه المنظومة السابقة “إس 300″، كما تستطيع ضرب الصواريخ البالستية من على بُعد 60 كيلومترًا، وذلك بسرعة فائقة تصل إلى 4.8 كيلومتر في الثانية.
وتتكون من 3 أجزاء، يضم الأول منها منصة الإطلاق، وبها 8 وحدات مضادة للطائرات في كل بطارية، ومجهزة بـ12 منصة إطلاق، والجزء الثاني يضم أنظمة القيادة والتوجيه والرادارات للتحكم بعملية الإطلاق، إضافة إلى جزء مرتبط بالدعم الفني والصيانة، وتحتاج ما بين 5 و10 دقائق لاتخاذ وضعية الرصد والهجوم، كما يحتاج إطلاق الصاروخ الواحد إلى 3 دقائق فقط، ويستجيب النظام للهدف في أقل من 10 ثوانٍ.
لصواريخ المنظومة وراداراتها وأجهزة استشعارها الأخرى القدرة على اكتشاف الأهداف الجوية على بعد 600 كيلومتر، ولها قدرة على تدمير الأهداف الإيروديناميكية على بعد 3 كيلومترات، وحتى 240 كيلومترًا، بينما تستطيع تدمير الأهداف البالستية على بعد 5 كيلومترات وحتى 60 كيلومترًا.
وتُحلِّق بارتفاع أدنى يبلغ 100 متر عن سطح الأرض، ويمكنها الوصول إلى ارتفاعات عالية تصل إلى 27 كيلومترًا، ويبلغ أقصى ارتفاع للاعتراض 56 كيلومترًا، ويمكن تزويدها بـ5 أنواع من الصواريخ المختلفة المهام، وتتراوح مديات أنظمتها القصيرة والمتوسطة والطويلة بين 40 و120و250 و400 كيلومتر.
طريقة عمل منظومة “إس 400” – المصدر: بي بي سي
وبالمقارنة مع المنظومات الأمريكية المماثلة، يصل عدد الأهداف التي تتابعها المنظومة الروسية إلى 300 هدف في آن واحد، وتستطيع كذلك توجيه 72 صاروخًا في آن واحد، ولكن يمكنها تدمير 36 هدفًا جويًا في الوقت نفسه، بينما لا يتجاوز هذا العدد 6 أهداف بالنسبة لمنظومة “إس 300” السابقة.
أمَّا منظومة “ثاد” الأمريكية فهي المنافس الوحيد للمنظومة الروسية، لكن بإمكانات أقل كما يقول المراقبون، فهذه المنظومة من نوع أرض – جو نظام قابل للنقل والنشر بسرعة، وبعكس منظومة “إس 400” لا تحمل “ثاد” أي رؤوس حربية، لكنها تعتمد على طاقتها الحركية عند التصادم لتحقيق الإصابة.
ويتم تجميع وبناء وتصميم نظام “ثاد” من شركة “لوكهيد مارتن” للأنظمة الفضائية، وتعمل كمقاول رئيس لها، وتصل سرعة الصاروخ فيها إلى مدى 2800 متر في الثانية، وبمدى يتجاوز بقليل 200 كيلومتر، أي ثلث مدى منظومة “إس 400″، وهي أيضًا بحاجة لأكثر من 5 دقائق للتشغيل.
السباق نحو منظومات الدفاع الروسية وليس الأمريكية
دفعت المميزات السابقة – التي تثبت تفوق المنظومة الروسية على نظيرتها الأمريكية – أكثر من 13 دولة في وقت واحد، للاهتمام باقتنائها، وكانت بكين العاصمة الأجنبية الأولى التي حصلت على منظومة الدفاع الروسية، حيث وقّعت على صفقة للحصول عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ودرب الجانب الروسي مجموعة من العسكريين الصينيين على تشغيل “إس 400″، وحصلت على أول دفعة من بطارياتها في ربيع عام 2018.
في حين تستميت الرياض في الدفاع عن حصولها على المنظومة المنافسة لنظيرتها الأمريكية، فإنها تعارض حصول جارتها الخليجية قطر على المنظومة ذاتها
وفي ظل التصعيد مع أمريكا بسبب الصراع التجاري والتوترات المتعلقة ببحر الصين الجنوبي المتنازع عليه والدعم الأمريكي لتايوان، أصبحت منظومة صواريخ “إس-400” ملجأ لتحدي واشنطن، وشهدت أكثر من تجربة ناجحة على مدار العامين الماضيين.
وفيما كانت الصين أول المشترين الأجانب لـ”إس-400″، كانت تركيا تنتظر دورها للحصول على هذه الصواريخ، بعدما أعلنت تركيا في سبتمبر/أيلول 2018 أنها وقعت عقدًا مع روسيا بقيمة تجاوزت ملياري دولار، لشراء منظومتها بعد تعثر جهودها المطوَّلة لشراء أنظمة الدفاع الجوي من الولايات المتحدة، التي لم تخف معارضتها الشديدة للخطوة التركية باعتبار أنها تتعارض مع أنظمة حلف شمال الأطلسي الذي يضم تركيا.
ومع استقبال قاعدة “مرتد” التركية التي كانت مركز المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل 3 سنوات، أصبحت أنقرة ثاني عاصمة تستلم الدفعة الأولى من المنظومة الروسية، لتضرب واشنطن أخماس الأسئلة بأسداس الخيارات، بعدما وضعت أنقرة أمام المفاضلة الأخيرة، إمَّا “طائراتنا الشبح الأحدث أو صواريخهم المغرية”.
وغير تركيا، ثمة دولة ثالثة على موعد لاستقبال المنظومة الروسية، وهي الهند التي وقعت في أكتوبر/تشرين الأول 2018 عقدًا مع روسيا بـ5.5 مليار دولار للحصول على توريد 5 منظومات روسية للدفاع الجوي، وفق صحيفة “تايمز أوف إنديا” التي أشارت إلى أن وصول الصواريخ إلى الهند سيجري خلال عامين، على أن يكتمل في أبريل/نيسان 2023.
كذلك لم تُخف دول عربية اهتمامها بالمنظومة الأقوى في العالم، فبعد أيام قليلة من إعلان اتفاق تركيا وروسيا على تزويد الأخيرة بأحدث أنظمة الدفاع الجوي الروسية، جرى التوصل إلى اتفاق مماثل بين السعودية وروسيا على توريد هذا النظام للسعودية في إطار صفقة عسكرية ضخمة بين البلدين تم التوقيع عليها خلال زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في أكتوبر/تشرين الأول 2017، في حين لم يُتخذ بعد قرار نهائي بشأن موعد توريد تلك المنظومة للمملكة.
وجاء ذلك بعد 3 أشهر من توقيع الرياض صفقة أسلحة بقيمة 3.5 مليار دولار مع مؤسسة “روستيخ” الروسية، وبعد أقل من 5 أشهر على إنعاش سوق السلاح الأمريكية عبر إبرام عقود تسليح مع إدارة ترامب تقدر قيمتها بـ350 مليار دولار على مدار 10 سنوات قادمة، وهو الأمر الذي دفع واشنطن لرفض حصول حلفائها على “إس 400″، واعتبرت الحصول عليها مخالفًا لسياستها.
وفي حين تستميت الرياض في الدفاع عن حصولها على المنظومة المنافسة لنظيرتها الأمريكية، فإنها تعارض حصول جارتها الخليجية قطر على المنظومة ذاتها، بل وصل بها الأمر بحسب ما كشفته صحيفة “لوموند” الفرنسية حد التهديد باستخدام قوتها العسكرية حال حصلت الدوحة على منظومة “إس 400” الدفاعية الروسية، وأوضحت الصحيفة أن العاهل السعودي طلب في رسالة وجهها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الضغط على قطر لثنيها عن شراء هذه المنظومة.
اللافت أن الاعتراض السعودي لم يُسجل ضد أي صفقة أوروبية أو أمريكية لقطر، وظل تحفظ الرياض حصرًا في الاتجاه الروسي، حيث أعرب الملك سلمان في الرسالة عن قلقه العميق إزاء المفاوضات الجارية بين الدوحة وموسكو، وهو الأمر الذي اعتبره وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني “قرارًا سياديًا”، بينما أكد السفير القطري في روسيا فهد بن محمد العطية أن بلاده تسعى للحصول على أنظمة دفاع جوي روسية.
تبقى المنظومة الروسية غايةً لكثير من الدول لما تمثله من صمام أمان، يسعى الجميع لامتلاكه في عالم تخيم عليه أزمات سياسية عنوانها الأبرز الأمن والدفاع
غير هؤلاء، ثمة دول أخرى تبدي إعجابها سرًا بمنظومات الدفاع الروسية، على سبيل المثال، تفكر باكستان في شراء “إس-400” ردًا على الخطوة الهندية في هذا الصدد، كما ترد اسم الجزائر كثيرًا كمشتر محتمل للمنظومة الروسية، وكذلك المغرب الذي يبدي اهتمامًا أيضًا باقتناء المنظومة، هذا فضلاً عن دول مثل سوريا والسودان ومصر والعراق، التي ألمح رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسي لشؤون الدفاع والأمن فيكتور بونداريف إلى أنها من بين الدول المحتملة لشراء منظومات صواريخ الدفاع الجوي الروسية، لكن لم يصدر تأكيدات من تلك الدول في هذا الصدد.
ومع مرور الوقت، من المتوقع أن يتخطى عدد الدول التي ستحصل على “إس 400” تلك التي تنشر بالفعل منظومة”إس 300″، وعددها 17 دولة، بينها 3 دول أعضاء في “الناتو”، هي اليونان وسلوفاكيا وبلغاريا، أما الدول الأخرى فهي: أوكرانيا والجزائروأرمينيا وأذربيجان ومصر والهند وإيران وكازاخستان وفنزويلا وفيتنام وجورجيا ومولدوفا وتركمنستان وأوزبكستان.
أمَّا الإمارات فهي الدولة الوحيدة التي عقدت اتفاقًا مع الولايات المتحدة لشراء منظومة “ثاد” الأمريكية بتكلفة تصل إلى 7 مليارات دولار، فيما تبقى المنظومة الروسية غايةً لكثير من الدول لما تمثله من صمام أمان، يسعى الجميع لامتلاكه في عالم تخيم عليه أزمات سياسية عنوانها الأبرز الأمن والدفاع.
المخاطرة بالعلاقات مع واشنطن
تلك إذًا منظومة تسارع الدول إلى حيازتها لتعزيز قدراتها الدفاعية في عالم أصبح هاجسه الأمني فوق كل شيء اليوم، لكنها ليست مجرّد صواريخ للدفاع الجوي أو ماركة روسية يُشيد الخبراء بقوتها، بل أصبحت في عهد الرئيس فلادمير بوتين أداةً دبلوماسيةً تراقبها الولايات المتحدة عن كثب، وتحولت إلى أداة إستراتيجية تُعيد الكثير من نفوذ الاتحاد السوفيتي سابقًا بالمنطقة العربية، لكن برؤية جديدة قوامها الربح المالي والسياسي.
كما كان سعرها أكثر تنافسية بكثير من نظيرتها الأمريكية، حيث قدَّر مسؤولون في وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” سعر منظومة “إس 400” بنحو 500 مليون دولار، بينما يصل سعر بطاريتين من صواريخ “باتريوت” الأمريكية إلى مليار دولار، وسعر منظومة “ثاد” المضادة للصواريخ إلى 3 مليارات دولار، وهو ما يعكس حجم المنافسة الأمريكية الروسية في هذا المضمار.
تحت الضغط الدبلوماسي، وتوعد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المشترين، ربما تتخلى بعض الدول عن فكرة اقتناء التكنولوجيا الروسية
تلك صورة مصغرة لما تبدو عليه كفتا الميزان العسكري وفق خبراء بتفوق واشنطن في القوة الجوية، وقدرة روسيا الأعلى في الدفاع الجوي، وذلك بمقارنة “إس 400″ درة الترسانة الروسية بـ”الباتريوت” الأمريكي الباهظ الثمن بنحو الضعف، بينما المنظومة الروسية وجيلها القادم “إس 500” أكثر تغطية وتنوعًا وأوسع مدى وبنفس السعر.
لهذا السبب تتسابق عليها الدول، لكن كان من الواضح أن كل الحكومات التي أعلنت أنها تخطط لشراء النظام كانت مهددة بنوع من الانتقام الدبلوماسي من الولايات المتحدة أو “الناتو” أو الخصوم، وليس السبب في ذلك فقط أن “إس 400” متقدمة من الناحية التكنولوجية، بل تشكل أيضًا خطرًا محتملاً على التحالفات طويلة الأمد.
ورغم تطبيق واشنطن في عام 2017 قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات ردًا على التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016 والتدخل العسكري في كل من أوكرانيا وسوريا، إلا أن التهديد في الوقت نفسه بفرض عقوبات على مشتري السلاح الروسي لم يُخِفْ العملاء المحتملين، الذي يخطرون بتداعيات دبلوماسية واقتصادية مع الولايات المتحدة بسبب “إس 400”.
وتحت الضغط الدبلوماسي، وتوعد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المشترين، ربما تتخلى بعض الدول عن فكرة اقتناء التكنولوجيا الروسية، لكن رئيس المعهد الأمريكي في موسكو، إدوارد لوزانسكي، يرى في هذا الصدد أن مثل هذه السياسة قصيرة النظر، فيمكن أن تحقق بعض النجاحات التكتيكية، حيث ستغير بعض الدول قرارها تحت الضغط، لكنها، من وجهة نظر إستراتيجية، ستبحث عن اتحادات وتحالفات أخرى.
وبالنسبة لبعض الدول مثل الهند السعودية وقطر، التي ليست جزءًا من تحالف مثل “الناتو”، فإن فرص نجاح واشنطن في المضي قدمًا بتهديداتها ضئيلة، ومن غير المرجح أن تكون العقوبات فعلية على بلد مثل الهند، حتى العقوبات المحدودة من المحتمل أن تجعل تلك الدول غاضبة للغاية بما فيه الكفاية لإلحاق الأذى بالمصالح الأمريكية.
وبالنسبة لإدارة ترامب، تشكَّل مشتريات حلفاء واشنطن بحسب كبير محللي صناعة الدفاع تشارلز فورستر، أكثر من مجرد تهديد عسكري، فهي تتعلق بمواجهة تورط روسيا في الصراعات العالمية، وكذلك الحفاظ على علاقات دبلوماسية طويلة الأمد بين أمريكا وبعض الدول الحليفة، بالإضافة إلى منع روسيا من تلقي الأموال والدولارات مقابل بيع معداتها.