ترجمة وتحرير: نون بوست
ماذا يعني أن تكون ألمانيًّا؟ أصبح هذا السؤال التجريدي فجأة لغزًا اقتصاديًا ذا أهمية قصوى. فمنذ أن فتحت المستشارة أنجيلا ميركل أبواب ألمانيا سنة 2015 أمام نحو مليون طالب لجوء معظمهم من المسلمين السوريين، واجه صُنّاع السياسة الألمان تحديا وفرصة على حد سواء لدمج الوافدين الجدد في القوى العاملة.
لكن التعامل بطرق متضاربة مع هذه المهمة كان يعد من أحد الجوانب العميقة للهوية الألمانية. وفي الواقع، يجد طالبو اللجوء السوريون صعوبة في الاندماج في الاقتصاد جزئيًا لأن أرباب العمل وزملاءهم المحتملين يشعرون بأنهم لم يندمجوا في الثقافة الألمانية. كما أصبحت أغطية رأس النساء أبرز رمزٍ لهذه التوترات، التي باتت واضحة بشكل متزايد في البيانات الاقتصادية لهذا البلد الأوروبي.
في الفترة التي سبقت الانتخابات الفيدرالية لسنة 2017، أشار الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي له ميركل، أكبر حزب وسطي يميني في البلاد، إلى معارضته للنقاب الذي يغطي الوجه بالكامل. وفي هذا الصدد، قال وزير الداخلية آنذاك توماس دي ميزير، في نداء إلى الأغلبية المحافظة ثقافيًا في البلاد “نحن نعارض البرقع”. ومن جانبها، أيدت ميركل تعليقات وزيرها وساندت أيضا الحظر “حيثما كان ذلك ممكنًا قانونيًا”.
صدى حظر البرقع كان منخفضا نسبيًا نظرا لأن نسبة ضئيلة جدًا من السكان الألمان كانوا يرتدونه
أظهر استطلاع للرأي أجرته القناة الألمانية الأولى أن ما يصل إلى 81 في المئة من الألمان يؤيدون حظر النقاب في المؤسسات والمدارس الحكومية. والآن، يتم حظر النقاب في معظم المؤسسات العامة، لكن ألمانيا لم تصل إلى حد محاكاة الحظر الكامل المعمول به في فرنسا المجاورة.
إن صدى حظر البرقع كان منخفضا نسبيًا نظرا لأن نسبة ضئيلة جدًا من السكان الألمان كانوا يرتدونه. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الحجاب الأكثر شيوعًا. ويتفق معظم الألمان على أن الحجاب، الذي يغطي شعر المرأة فقط، لا ينبغي حظره في كل مكان، لكنهم منقسمون حول ما إذا كان ينبغي اعتباره مقبولًا من الناحية الثقافية.
في حين أن البعض يقبل الحجاب دون تفكير، يجد آخرون أنه ينفِر ويُجنب التفاعل مع النساء المحجبات. لقد أصبح ذلك واضحًا لطالبي اللجوء الذين يرتدون الحجاب. حتى أكثر النساء السوريات تعلُما اللواتي يعشن في ألمانيا يجدن صعوبة في العثور على عمل. ويدعي الكثيرون أن ذلك كان بسبب ارتدائهن للحجاب.
في المقابل، يهدد هذا الأمر بتقويض سياسة ميركل المنفتحة. وعلى الرغم من أن تدفق طالبي اللجوء تسبب في ضغوط سياسية، إلا أنه مهّد لإمكانية تحقيق مكاسب اقتصادية. وقد أخبرني العديد من دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي أن المسؤولين الألمان أعربوا عن تفاؤلهم بأن وجود اللاجئين سيعزز النمو المستقبلي لبلدهم، الذي يتقدم مجتمعه نحو التهرّم بسرعة. لكن هذا التحليل يفترض عدم وجود عقبات تمييزية أمام قدرة طالبي اللجوء على إيجاد عمل.
نوّه التقرير بأن مشاركة المرأة في العمل، دون أن يكون لديها أي أطفال، كان متدنيا بنفس القدر
لكن وفقًا لآخر دراسة استقصائية أجراها معهد بحوث التوظيف ومركز البحوث التابع للمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين واللجنة الاجتماعية والاقتصادية، تشارك اللاجئات في ألمانيا في سوق العمل بمعدلات أقل بكثير من الذكور. (بين المواطنين الألمان، تعد مشاركة المرأة مرتفعة على غرار الرجال). وأشار التقرير إلى أن النساء المهاجرات مقيّدات بسبب المعايير الأسرية، التي تقوم على ضرورة تربيتهن لأعداد كبيرة من الأطفال فقط.
فضلا عن ذلك، نوّه التقرير بأن مشاركة المرأة في العمل، دون أن يكون لديها أي أطفال، كان متدنيا بنفس القدر. وقد فشل التقرير في تقديم أسباب محددة للتفاوت بين النساء والرجال. وفي هذا الشأن، قال هربرت بروكر، أحد القائمين على الاستطلاع، إن أحد العوامل قد يكون أن اللاجئات السوريات لديهن خبرة عمل أقل في بلدانهن الأصلية وأقل تسجيلا في دورات اللغة مقارنة بالرجال في ألمانيا.
عند التمعن في هذا الموضوع ستكون شهادات النساء مفيدة وغنية بالمعلومات. ففي بوخوم، خارج مدينة دورتموند الجامعية مباشرةً، كانت أمان محمد نبع تعلم ابنتها أن تتحدث باللغتين الألمانية والإنجليزية من خلال مشاهدة عروض كاريكاتورية تُبَث على نتفلياكس. وفي هذا الصدد، قالت أمان بلغة إنجليزية سلسة: “أنا أتقن اللغتين العربية والإنجليزية والآن الألمانية. أريدها أن تتعلمها أيضًا”. ومن ثم تحدثت أمان بسهولة باللغة الألمانية.
تقر طالبات اللجوء بأنه لا يمكنهن إثبات ادعاءاتهن بالتمييز بأدلة موثقة
تجدر الإشارة الى أن أمان هي مواطنة سورية تعمل طبيبة أسنان وقد قدمت لألمانيا منذ سنة 2006 ولغتها الألمانية متقدمة بما يكفي للتواصل بطريقة محترفة. في المقابل، واجهت أمان مشكلة في تأمين تربص في إحدى العيادات. وحيال هذا الشأن، قالت أمان: “لقد نظروا إلى طلبي وأعجبوا بمؤهلاتي واتصلوا بي لإجراء مقابلات معهم، لكن عندما رأوني بالحجاب، بدا الأمر كما لو أن شيئًا قد تغير. بل سألني البعض إذا كنت مستعدة لخلع الحجاب وعندما قلت لا طلبوا مني انتظار رد منهم. لا شك أنه تم تجاهلي تماما. ليس لدي أي دليل، ولكن موقفهم يجعلني أعتقد أنه بسبب حجابي. أتساءل ما علاقة حجابي بكوني طبيبة أسنان. إن مهاراتي في رأسي وليس في شعري”.
لدى أمان العديد من الصديقات اللاتي يواجهن نفس المأزق على غرار ميس صديقتها السورية التي تطمح في أن تصبح مستشارة ضريبية. وتحاول ميس أيضا الحصول على فترة تدريب داخلي لكنها تخشى من احتمال فشلها لأنها ترتدي الحجاب.
في الحقيقة، تقر طالبات اللجوء بأنه لا يمكنهن إثبات ادعاءاتهن بالتمييز بأدلة موثقة. لذلك، قالت أمان إن أصحاب العمل يمكنهم دائمًا مواجهة تأكيداتها بالقول إنها لا تملك المؤهلات الدقيقة التي يبحثون عنها. وتساءلت: “إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يقلقون أنفسهم ويتصلون بي لإجراء مقابلة؟” كما أكدت أمان أنها تواجه الرفض بشكل يومي بينما تتنقل في ألمانيا.
قال بروكر، من بين القائمين على الاستطلاع، إن بحثهم وجد أن أكثر من 80 في المئة من اللاجئات يرغبن في الحصول على وظيفة عاجلاً أم آجلاً، مشيرا إلى إن معظم اللاجئين يدعمون المُثُل الديمقراطية بمعدلات أكبر من المواطنين الألمان.
ذكرت أمان أن الرجال غالبًا ما يشيرون إليها في الشوارع أو المواصلات العامة أو ينظرون إليها بشكل يشير إلى عدم رضاهم عن ملابسها. وعلى الرغم من أنها استطاعت التعامل مع الإهانات اليومية، إلا أنها لم تستطع التغلب عليها في سوق العمل. وفي هذا الصدد، قالت أمان: “أنا ممتنة لأني هنا ولست في سوريا حيث يمكن أن يقبض علينا الأسد، ولكنني أريد أن أكون قادرًة على كسب قوتي والعيش باحترام”.
من جانب آخر قال بروكر، من بين القائمين على الاستطلاع، إن بحثهم وجد أن أكثر من 80 في المئة من اللاجئات يرغبن في الحصول على وظيفة عاجلاً أم آجلاً، مشيرا إلى إن معظم اللاجئين يدعمون المُثُل الديمقراطية بمعدلات أكبر من المواطنين الألمان.
مع ذلك، تلعب الصور النمطية الثقافية دورًا في عرقلة اللاجئات المسلمات من دخول سوق العمل، فحسب بروكر “من الصعب الحصول على معظم الوظائف إذا كانت المرأة ترتدي الحجاب لأن الصور النمطية الثقافية دخلت حيز التنفيذ. ويحدث هذا أكثر مع الإناث لأنهن يرتدين رموزا واضحة على الاختلافات الدينية أو الثقافية. وهذا هو السبب الذي يؤثر على مشاركة الإناث في سوق العمل، وهذا هو شعوري”.
أجرت دوريس ويشسيلباومر، رئيسة معهد الدراسات النسائية والجنسانية في جامعة يوهانس كيبلر في لينز، النمسا، دراسة سنة 2016 حول نفس الصعوبات التي تواجهها النساء المحجبات بأسماء تركية في ألمانيا. وقالت ويشسيلباومر إن النساء السوريات في الوقت الراهن يواجهن نفس القيود: “في دراستي، كان على مقدمة الطلب التي تحمل اسما تركيا وترتدي الحجاب أن ترسل 4.5 أضعاف عدد الطلبات التي تقدمها مقدمة طلب متطابقة تحمل اسما ألمانيا ولا ترتدي الحجاب. هذه المستويات العالية من التمييز لا تشجع النساء اللاتي ترتدين الحجاب على المشاركة في سوق العمل، وبالتالي الحصول على التعليم. وهذا يجعل النساء أكثر اعتمادًا على الشركاء الذكور ودعم الدولة المحتمل”.
بخلاف الإسلاموفوبيا، يرى قسم من المثقفين الألمان أن الحجاب هو رمز للاضطهاد والميسوجينية
من جانب آخر، قال كريس ميلزر، المتحدث باسم مكتب مفوضية اللاجئين في برلين، إن المواقف الألمانية تجاه الحجاب لا تنبع بالضرورة من الخوف من الإسلام، إذ “يعتقد الكثيرون في ألمانيا أن الحجاب يظهر عدم المساواة، ولكن مساواة المرأة مهمة للغاية في ألمانيا”.
بخلاف الإسلاموفوبيا، يرى قسم من المثقفين الألمان أن الحجاب هو رمز للاضطهاد والميسوجينية. بالطبع، هناك مفارقة هنا: ذلك أن تثبيط النساء عن الدخول في سوق العمل وإبقائهن في المنزل، قد يشجع الألمان على تبني النزعة الدينية المحافظة والافتقار إلى الاندماج الثقافي الذي يقولون إنهم يعارضونه.
قد تواجه طالبات اللجوء اللاتي ترتدين الحجاب العقبات الثقافية نفسها التي تمنع النساء من العثور على عمل. وحسب شهادة مهاجر سوري يدعى محمد وادي فإن زوجته تعرضت للتحرش لمجرد تقديمها طلبا للعمل. وشعرت مصففة الشعر التي عملت في جميع صالونات تصفيف الشعر في سوريا أنها ستضطر إلى خلع حجابها أينما عملت في ألمانيا. وما زاد مخاوفها تعرضها للدفع على سكة القطار من قبل صبيين ألمانيين، ولكن: “والد أحدهما لم يبد أي ندم. وبالطبع، كان لذلك تأثير على زوجتي، وهي تشعر بالإحباط الشديد الآن”.
بالنسبة لأمان فقد حصلت بعد خمس محاولات على تدريب. وقالت إن البحث عن وظيفة قارة تركها في حالة من الإحباط. لكنها مع ذلك، لن تسمح لكل ما مرت به أن يؤثر على كيفية تربيتها لابنتها، التي تصر على أنها ستتاح لها الحرية في تقرير ما إذا كانت سترتدي الحجاب أم لا. سيكون هذا جيلًا جديدًا. لديه جذورنا لكنه ينمو في بلد مختلف. وفي الختام قالت أمان متحدثة عن ابنتها: “يمكنها أن تختار من تريد أن تكون. وسنرى ما إذا كان هذا الاختيار الشخصي يتعارض في نهاية المطاف مع قدرتها على العثور على وظيفة في المستقبل”.
المصدر: فورين بوليسي