عادت أزمة كينيا والصومال، لتتصدر بورصة الأخبار والأحداث، بعد تدخل رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، لحل الأزمة التي تفجرت بين البلدين، وتصاعدت بشكل كبير قبل أشهر، بعد إعلان الصومال بيع حقول نفطية بحرية، في مزاد علني بلندن، ما أدى لتدهور العلاقات الدبلوماسية بين البلدين؛ سحبت كينيا سفيرها لدى مقديشو، وطالبت في المقابل السفير الصومالي بمغادرة البلاد، واعتبرت ما يحدث مؤشرًا مهمًا على استفزازها، قبل حسم قضية الحدود المأزومة بين البلدين اللذين لم يتمكنا حتى الآن، من ترسيم الحدود البحرية بينهما، منذ استقلال الصومال عام 1960.
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي ارتفع نجمه مؤخرًا بعد تدخله في الأزمة السودانية وصبره على تعقيداتها، قبل أن ينجح بالنهاية، بالمشاركة مع الاتحاد الإفريقي في وضع تصورات ترضي جميع الأطراف، يحاول حل النزاع ودفع رئيسي البلدين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، حتى لا تزيد العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتين، تدهورًا أكثر من ذلك، وحماية للمصالح الإثيوبية التي قد يطالها الأذى، إذا استمرت الأزمة قيد الحسم الدولي.
الوساطة الإثيوبية كلفت مبعوثين، للذهاب إلى كينيا والصومال، لدعوة الرئيسين الصومالي محمد عبد الله فرماجو والكيني أوهورو كينياتا للاجتماع بأديس أبابا في 13 من يوليو الحاليّ، وآبي بذلك يسابق الزمن من أجل إبعاد القضية عن الساحة الدولية، حتى لا تبقى رهن مصالح اللاعبين الدوليين في هذه المنطقة على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
تعود الأزمة في المنطقة إلى ما حدث للصومال من الثلاث قوى الاستعمارية، فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، الذين قسموه بعد حصوله على الاستقلال عام 1960 ووزعوا أقاليمه على خمس جهات
كان لافتًا أن الصومال الذي أقدم على هذه الخطوة يقدم تنازلات بالفعل ويحاول استثمار الوساطة الإثيوبية، وهو يسبق بقدم عن كينيا، ليفسح المجال أمام التسوية معها وهو في وضع يمكّنه من الحديث بنبرة أعلى وأكثر ثقة، على خلاف الفترة الماضية التي أعلن فيها التصعيد ونقل القضية إلى قاعات محكمة العدل الدولية للبت فيها، ولم يشمل التنازل حتى الآن، تغييرًا في موقفه من قضية النزاع الحدودي أو اعتماده على جهة أخرى للفصل القانوني غير المحكمة الدولية، بحسب مسؤول الإعلام في الرئاسة الصومالية عبد النور محمد أحمد.
إذن.. ما الذي يدفع آبي أحمد للتدخل؟ وما سر ما يحدث؟ ولماذا الصومال الذي لا يعرف عنه العالم العربي الكثير، تنظر له كينيا بمطامع عدة، ومعها العديد من القوى الإقليمية والدولية في هذه المنطقة الساخنة من العالم؟
أصل الأزمة
تعود الأزمة في المنطقة إلى ما حدث للصومال من الثلاث قوى الاستعمارية، فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، الذين قسموه بعد حصوله على الاستقلال عام 1960 ووزعوا أقاليمه على خمس جهات: أوجادين أو الصومال الغربي لصالح إثيوبيا، وإقليم إنفدي (NFD) لصالح كينيا، فضلاً عن الصومال الفرنسي أو “جيبوتي” والصومال الإيطالي، والصومال البريطاني.
كانت الدول الغربية تهدف من خلف هذه الشيطانية في التقسيم، إيجاد موطئ قدم لنفسها في البقاء بمنطقة القرن الإفريقي إلى ما لا نهاية، بعد حصول الصومال على الاستقلال، وهو ما حدث بالفعل
تحكمت المصالح الغربية دون غيرها في طريقة الرسم هذه، فلم تراعي الدول الكبرى مصالح السكان أو توحد الدولة التي مزقوها بشكل غير مسبوق، لدرجة أنهم وضعوا لجيبوتي على سبيل المثال شروطًا مجحفة تحول دون انضمامها مستقبلاً إلى الصومال الأم، بهدف إبقاء هذا التمزق، قيد صراع مستمر بين الصوماليين وكل من إثيوبيا وكينيا وجيبوتي.
الخلاف الحدوي البحري بين الصومال وكينيا
كانت الدول الغربية، تهدف من خلف هذه الشيطانية في التقسيم، إيجاد موطئ قدم لنفسها في البقاء بمنطقة القرن الإفريقي إلى ما لا نهاية، بعد حصول الصومال على الاستقلال، وهو ما حدث بالفعل، إذ تعيش الأجيال المتلاحقة منذ عام 1960 على أمل توحد كامل تراب الوطن تحت راية “الصومال الكبير”، إلا أن صعود كينيا، كلاعب إقليمي، في منطقة القرن الإفريقي، يجعل من مصلحتها إبقاء الوضع على ما هو عليه.
ساعد النزاع الحدودي البحري بين الصومال وكينيا، الذي ظهرت بوادره في عهد الرئيس شريف شيخ أحمد، على تضخم هذه النظرة الكينية لطبيعة الصومال في المنطقة، لذا لجأت الحكومة الكينية عام 2009 إلى الدعوة لتوقيع مذكرة تفاهم مع الصومال، لترسيم الحدود البحرية وفق شروط رفضها البرلمان الصومالي واعتبرها محاولة من كينيا لنهب مناطق بحرية صومالية، ما يشكل تهديدًا على سيادة الصومال.
بحسب اتهامات البرلمان الصومالي آنذاك، استغلت كينيا ضعف بلادهم، لتحديد سير الحدود البحرية إلى الشرق، بمحاذاة خط العرض من النقطة التي يلتقي فيها البلدان على الأرض، بعكس رؤية الحكومة والبرلمان الصومالي اللذين يؤكدان أن خط الحدود يجب أن يستمر من جنوب الشرق إلى البحر بمحاذاة الصومال، فشلت المحاولة الكينية في فرض رؤيتها أمام هذا التصميم الصومالي، لتعود الأحداث إلى الواجهة مرة أخرى بتدخل كينيا عسكريًّا في جنوب الصومال أكتوبر2011، لمحاربة حركة الشباب المجاهدين، بزعم اتهامها بخطف وقتل موظفي إغاثة أجانب داخل أراضيها، وفي ديسمبر من العام نفسه قررت ضم قواتها إلى قوات بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال.
في 2012 تجدد النزاع من جديد، بشأن الحدود البحرية بين الدولتين، إذ حددت كينيا ثمانية امتيازات بحرية وطرحت رخصًا خاصة بهم للتنقيب عن البترول، ومن هؤلاء يقع سبعة داخل المنطقة المتنازع عليها مع الصومال
وفي غمره انشغال العالم بأحداث الربيع العربي 2011، كانت المرة الأولى التي تتدخل فيها كينيا عسكريًا في الصومال بشكل مباشر، مع أن المناوشات العسكرية بين البلدين ليست حديثة، وإنما تعود إلى مرحلة استقلال كينيا عن بريطانيا، بسبب ضم الاستعمار البريطاني إقليم إنفدي الشمالي الصومالي لها، ورفضها إعادته عقب استقلال الصومال، رغم سيطرة النزعة الصومالية – 90% من سكانه صوماليون ـ مما أدى إلى اندلاع مناوشات عسكرية بين البلدين خلال الفترة 1963- 1966، لتتوجه كينيا في النهاية إلى إثيوبيا، لإنشاء جبهة مشتركة ضد المطالب الصومالية.
لماذا تجدد النزاع في 2012؟
في 2012 تجدد النزاع من جديد، بشأن الحدود البحرية بين الدولتين، إذ حددت كينيا ثمانية امتيازات بحرية، وطرحت رخصًا خاصة بهم للتنقيب عن البترول، ومن هؤلاء يقع سبعة داخل المنطقة المتنازع عليها مع الصومال، ومع توافد الشركات الدولية والبدء في عمليات التنقيب، طالبهم الصومال بحسم بالانسحاب من المنطقة التي تقع في مياهه الإقليمية.
توقفت جميع الشركات الدولية عن عمليات التنقيب في المنطقة المتنازع عليها، إلا أن شركة “إي إن آي” الإيطالية، رفضت وقف أعمالها، مما دفع الصومال إلى تقديم شكوى رسمية ضدها للحكومة الإيطالية، لممارستها أعمالًا تتعارض مع القوانين التي تنظم الحدود البحرية، ولكن المثير أن روما لم ترد على طلب الحكومة الصومالية، لتتوجه الأخيرة على الفور إلى نظيرتها الكينية وتطالبها بوضح حل نهائي للنزاع الحدودي البحري بين الدولتين عبر المفاوضات والقنوات الدبلوماسية ودون تدخل أي جهات خارجية.
بعد مارثون طويل من المباحثات، أعلنت الحكومة الصومالية فشل مفاوضاتها مع حكومة كينيا، لحسم النزاع الحدودي البحري، وعلى الفور قدمت شكوى إلى محكمة العدل الدولية في 28 من أغسطس 2014 ضد كينيا، لحسم النزاع التاريخي بواسطة المحكمة الدولية.
كانت أول جلسة استماع لمحكمة العدل الدولية، خلال الفترة من 19-23 من سبتمبر 2016، وقدم الصومال وثائق تثبت الحد البحري الصحيح، بينما قدمت كينيا مذكرة مضادة، تؤكد فيها أن مطالبة الصومال تتناقض مع تقليد الدولتين الذي يبلغ 35 عامًا
وتقدر المساحات المتنازع عليها بين الدولتين، بنحو 142.000 كيلومتر مربع، تمثل ما يقارب 19% من إجمالي الأراضي الصومالية، وفقًا لتقرير مركز مقديشيو للدراسات والبحوث الذي أصدره بعنوان “قراءة في قضية النزاع الحدودي البحري بين الصومال وكينيا”.
كانت أول جلسة استماع لمحكمة العدل الدولية، خلال الفترة من 19-23 سبتمبر 2016، وقدم الصومال وثائق تثبت الحد البحري الصحيح، بينما قدمت كينيا مذكرة مضادة، تؤكد فيها أن مطالبة الصومال تتناقض مع تقليد الدولتين الذي يبلغ 35 عامًا، وأكدت أن الحدود البحرية بين البلدين، تمتد على طول خط عرض بدلاً من الخط المتساوي الذي يطالب به الصومال الآن، وفقًا لاتفاق خط العرض الموازي الصادر عام 1979.
عقدت المحكمة الدولية الجلسة الثانية في أواخر عام 2017، وفاز الصومال بأولى جولات النزاع، ولم تفلح مزاعم كينيا في إقناع قضاة محكمة العدل الدولية، الأمر الذي جعلها تدفع بعدم اختصاص محكمة العدل الدولية في الفصل بالأزمة، وعادت لتتحدى الأحكام الدولية، ومضت قدمًا في مشاريعها النفطية، في الوقت الذي تعطلت فيه محكمة العدل الدولية، ولم تصدر حكمها النهائي في هذا النزاع حتى الآن.
تملك كينيا أوراقًا عدة في الصومال، تضغط بها لحسم الخلاف مع الجار العنيد، على رأس أوراقها القوات الكينية التي شكلت عاملاً مهمًا في تحقيق الاستقرار بالصومال
في منتصف فبراير الماضي، توترت الأجواء بشدة، إثر اتهام كينيا للحكومة الصومالية، بإخضاع مساحات في المنطقة المتنازع عليها للمزاد العلني، واستدعت نيروبي سفيرها من الصومال، وأمرت نظيره الصومالي بالخروج من كينيا، مما مثل نقطة ساخنة جديدة في العلاقات الثنائية.
أوراق كينيا في الصومال
تملك كينيا أوراقًا عدة في الصومال، تضغط بها لحسم الخلاف مع الجار العنيد، على رأس أوراقها القوات الكينية التي شكلت عاملاً مهمًا في تحقيق الاستقرار بالصومال، خلال الفترات الماضية، وترجيح كفة الدولة في حربها مع حركة الشباب الإسلامية، ومع تصاعد الأزمة بين البلدين، استدعت كينيا قواتها منذ أوائل عام 2019، وتركت أماكنها في عدة قواعد بجنوب الصومال، ما أتاح الفرصة لعناصر حركة الشباب، للعودة إلى معاقلهم الجنوبية التي طُردوا منها سابقًا، بعدما ساهمت القوات الكينية منذ أكتوبر 2011، في قمع هجمات الشباب، وكان للجنود الكينيين الدور الأكبر في زعزعة استقرارها، وتغليب كفة الحكومة الصومالية عليها.
تمنع كينيا العضو المؤثر في منظمة مجتمع شرق إفريقيا “EAC“، الصومال من الانضمام إلى المنظمة وتعطل مساعيه للانضمام
تملك كينيا ورقة أخرى في بالغ الأهمية، وهو مخيم داداب للاجئين الذي يضم أكثر من 200000 صومالي، ولجأت لإعلان غلقه مؤخرًا بعد تفجر الخلاف مع الصومال، وقد يؤدي هذا الإغلاق إلى إعادة اللاجئين الصوماليين إلى أماكن عنيفة داخل بلدهم الأم، ما قد يدفعهم للانضمام إلى حركة الشباب ويزداد الوضع تعقيدًا على الدولة الصومالية التي قد تغرق للأبد في رمال حركة الشباب المتحركة دائمًا.
بجانب ذلك، تمنع كينيا العضو المؤثر في منظمة مجتمع شرق إفريقيا “EAC“، الصومال من الانضمام إلى المنظمة وتعطل مساعيه للانضمام، خاصة أن معاهدة إنشاء المنظمة تلزم جميع الدول الشريكة بإحلال السلام والأمن، بما ينعكس على أحلام الأمن والسلام في شرق إفريقيا كبوابة عبور للتنمية، لذا تتخذ كينيا موقفًا معارضًا لعضوية الصومال والشرط واضح، الحصول على “فوز” شامل على الخصم أولاً، وبعدها يأتي كل شيء!