طوال فترة التاريخ الإنساني جرت الكثير من المذابح الجماعية والإبادات العرقية؛ جرائم ارتكبتها الأمم المتحضرة على قدم المساواة مع البرابرة، نُزفت الكثير من الدماء وزُهقت الأرواح ومتاحف المناجم البشرية في روندا وكمبوديا ستظل شاهدة على تلك الجرائم أبد الدهر، ولكن هناك إبادات صامتة تتم دون دماء، لا يشعر التاريخ أحيانًا بوجودها ومن خلالها يمحو شعب متفوق ثقافة مجموعة أخرى وهو ما يُعرف باسم “الإبادة الثقافية”.
تعرّف موسوعة Black Studies”” الإبادة الثقافية على أنها إفناء متعمد وممنهج لثقافة شعب ما من قبل مجموعة أخرى وعادة ما تتم تلك الإبادة عبر العنف والإرهاب الجسدي والإغواء والتعذيب النفسي، وترتكز عملية الإبادة على طمس جميع السمات المميزة لثقافة الأقلية تلك السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية هذا بجانب الآداب والفنون وطرق الحياة والعيش والتقاليد والمعتقدات ومنظومة القيم لتصبح تلك الأقلية بلا أي أثر أو تاريخ حقيقي ملموس.
أشهر محاولات الإبادة الثقافية عبر التاريخ الإنساني
كان الأوربيون هم أول من مارس عمليات الإبادة في التاريخ وذلك ضد شعوب الدول التي استعمروها وذلك ضمن معتقدات استعمارية مشوّهة، ولكنهم أحسوا بصدمة مدوية في ثلاثينات القرن الماضي حين نفذت النازية الإبادة الجسدية ضد اليهود في قارة أوروبا وذلك بدعوى تفوق الجنس الآري، حيث نقلت النازية نفس أسلوب الرجل الأبيض مع الشعوب المستعمرة ونفذته ضد الجنس الأبيض وهنا يتضح أن الإبادة كانت طريقة تفكير أكثر منها وسيلة للتعذيب ومع مرور الزمن تحولت عملية الإبادة إلى شكل آخر.
تجربة اليهود في روسيا القيصرية إذ رأت الدولة الروسية حينها أن القضاء على اليهود هو الحل الأوحد لبناء الدولة وعليه قامت روسيا بتدمير كل معالم الثقافة اليهودية في البلاد
ومن أشهر عمليات الإبادة الثقافية والجسدية في التجربة الغربية المذابح التي نُفذت تجاه الهنود الحمر في القارة الأمريكية؛ ففي كتابه “أمركيا والإبادة الثقافية” ذكر المؤرخ الفلسطيني منير العكش كيف قام المستعمرون الأوربيون بمحو ثقافة سكان الولايات المتحدة الأصليين ودمروا أثارهم وكيف كانت شعوب الهنود الحمر على قدر عالي من التحضر والمدينة إذ لم تكن مجتمعات عشوائية كما يتم تصويرها دائماً.
وهناك أيضاً تجربة اليهود في روسيا القيصرية إذ رأت الدولة الروسية حينها أن القضاء على اليهود هو الحل الأوحد لبناء الدولة وعليه قامت روسيا بتدمير كل معالم الثقافة اليهودية في البلاد، أما الصرب فقد قمعوا جميع الشعوب الإسلامية الثائرة في البلقان بداية من البوسنة ووصولاً إلى كوسوفو وكان هدفها هو إبادة تلك الشعوب ثقافياً وذلك عبر هدم المساجد وحرق الكتب الدينية وتدمير الآثار والمكتبات.
الموريسكيون
وقبل أكثر من خمسمائة عام أحكم الإسبان الخناق على الموريسكيين وذلك بعد التصديق على اتفاقية سانتافي التي وقعها الملك فرناندو والملكة إيزابيل وبموجب هذه الاتفاقية تم إجبار الأقلية المسلمة على التنصر من أجل إلغاء الهوية العربية الإسلامية وإدماجهم بشكل كلي في المجتمع الإسباني عبر إبادة ثقافتهم؛ وهو ما تجلى بشدة فيما قام به الكاردينال الإسباني سيثميلوس حيث قام بإحراق آلاف الكتب العربية والإسلامية في ساحة باب الرملة بمدينة غرناطة وليس هذا فحسب بل قام أيضاً بتحويل المساجد إلى كنائس.
وطوال خمسة أعوام في الفترة الزمنية من 1609-1614 أمر فيليب الثالث ملك إسبانيا بطرد جميع السكان المسلمين من الأراضي الإسبانية حيث طرد حوالي 350 ألف رجل وامرأة وطفل قسراً من بيوتهم في واحدة من أكبر عمليات إبعاد المدنيين في التاريخ الأوروبي.
السلطات الصينية تتبع عملية ممنهجة من أجل طمس الثقافة الإسلامية وذلك عبر عبر عزل الأطفال المسلمين عن عائلاتهم
فلسطين.. محاولات محو
هذا ويوجد أيضاً مع فعلته “إسرائيل“ مع فلسطين من محاولات عدة لإبادتهم ثقافياً وجسدياً، وهو الأمر الذي ذكره دافيد بن غوريون ؛ أوّل رئيس وزراء لـ “إسرائيل”، حيث كتب في مذكراته عام 1941: “من الصعب تصور عملية ترحيل كاملة دون إكراه وحشي”، ولذا فقد كان ترحيل العرب أمراً ضرورياً من وجهة نظر بن غوريون لإقامة الدولة اليهودية وقد اعتمدت الخطة الصهيونية وقتها على أمرين؛ أولهما عملية التطهير العرقي عبر تدمير مئات القرى الفلسطينية وثانيهما محاولات تطبيق الإبادة الثقافية وذلك من خلال “عبرنة ” و “أسرلة” فلسطين والقضاء على تراثها الثقافي بتهويد المناطق والشوارع الفلسطينية ونهب المواقع الإسلامية والمسيحية المقدسة والسيطرة على اللغة ونهب المكتبات والتحكم بالإنتاج الثقافي والتعليم، وعبر قطع التواصل بين الفلسطينيين وامتدادهم العربي والإسلامي.
وتتحدث المؤرخة الألمانية ربيكا نوث من خلال كتابها “إبادة الكتب… تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين” عن إبادة ثقافية جرت في المنطقة العربية وخطورة تلك الإبادة أنها لم تتم على يد احتلال عسكري أو أغلبية متفوقة كما جرت العادة ولكنها تمت على يد العراق في زمن صدام حسين وطالت الكويت وذلك أثناء شهور الاحتلال الست؛ حيث قام الجيش العراقي بأوامر مباشرة من صدام حسين بحرق كافة الوثائق الرسمية وسجلات الكليات والصكوك الملكية وشهادات التخرج والدراسات العليا كما تم تدمير 43% من مخازن الكتب في المدارس الكويتية وفُككت المكتبات العامة ونُقلت إلى العراق فخسرت الكويت أكثر من45% من مكتباتها.
مسلمو الإيغور
وأخيراً هناك حالة مسلمو الإيغور فالسلطات الصينية تتبع عملية ممنهجة من أجل طمس الثقافة الإسلامية وذلك عبر عبر عزل الأطفال المسلمين عن عائلاتهم حيث أن الصين ستقوم بتعبئة هؤلاء الأطفال بالثقافة السائدة ولذلك قامت وبحسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC BBC في يوليو 2019بنقل أكثر من 2000 طفل إلى مدارس داخلية بهدف إعادة تأهيلهم وطمس ثقافتهم الإسلامية وزرع أخرى جديدة ترتكز على التأهيل النفسي وتعلم اللغة الصينية فقط مع مسح جميع ما يتعلق بالعقيدة الإسلامية.
لماذا تذعن المجتمعات للإبادة الثقافية للآخرين
حلل أستاذ التاريخ في جامعة ويست شيستر بالولايات المتحدة الأمريكية لورنس دافيدسون في كتابه “الإبادة الثقافية” الأسس النظرية الاجتماعية والنفسية للإبادة الثقافية حيث ذكر أن المجتمعات تذعن عادة للإبادة الثقافية للآخرين بسبب ظاهرة “النزعة المحلية الطبيعية” والمقصود بها أن أولوية معظم الناس تتمحور عادة حول بيئتهم المباشرة وحياتهم اليومية، وهذا التركيز الطبيعي على المحيط والبيئة المحلية يغذي عند الإنسان الشك في المجهول والغريب.
في عام 1933 اقترح المحامي البولندي رافاييل لمكين إدراج الثقافة كعنصر أساسي في الإبادة الجماعية وقد اقترح حينها إطلاق اسم “الفاندالية” Vandalism عليها وذلك نسبة إلى فاندال القبيلة الجرمانية التي اجتاحت روما خلال عام 455 وأبادت جميع آثارها الفنية والأدبية
وفي إطار هذه النظرة المحلية نكتسب نظرتنا لكل العالم الخارجي وسكانه والتي تتسم عادة بالاختزال والنمطية، فكلما ابتعدنا عن محيطنا المحلى ازداد اعتمادنا في المعرفة على معلومات محدودة للغاية ومن مصادر غير معروفة ولأن مساحة جهلنا تجاه العالم الخارجي واسعة للغاية فإننا نعوض ذلك من خلال إخضاع ما لا نعرفه إلى ما نعرفه ضمن السياق الثقافي المحلي المحدد سلفاً ومن ثم يتم تدعيم هذه الصور الثقافية المشوشة عبر رموز الحكومة والإعلام والخبراء وذلك عبر استخدام العواطف المجتمعية الثابتة وهي؛ الحب والخوف والكره والتي من شأنها تسهيل التوافق المجتمعي حيال الصور النمطية.
الوضع القانوني المبهم للإبادة الثقافية
في عام 1933 اقترح المحامي البولندي رافاييل لمكين إدراج الثقافة كعنصر أساسي في الإبادة الجماعية وقد اقترح حينها إطلاق اسم “الفاندالية” Vandalism عليها وذلك نسبة إلى فاندال القبيلة الجرمانية التي اجتاحت روما خلال عام 455 وأبادت جميع آثارها الفنية والأدبية، ولكن اتفاقية الإبادة الجماعية التي وقعت خلال عام 1948 لم تدرج مفهوم الإبادة الثقافية حيث اختلفت الدول عليه فذهبت جميع جهود لمكين سدى.
وفي ميثاق حقوق السكان الأصليين للأمم المتحدة والموقع خلال عام 1994 لم يوجد منع واضح للإبادة الثقافية ولكن يظل الأمر المثير للملاحظة هو ضغوط الولايات المتحدة الهائلة للحيلولة دون الإشارة إلى مفهوم الإبادة الثقافية في ميثاق جنيف.