ليست معارك هينة بل مصيرية وأنصار الثورة يخوضونها ببسالة وتماسك رغم تشتت أصواتهم في لحظات مصيرية بحكم غياب الرؤية المشتركة لمصير الثورة والدستور الذي أنتجته.
آخر هذه المعارك هي معركة المحكمة الدستورية التي فشل البرلمان للمرة الرابعة في انتخابها نتيجة فقدان نصاب التصويت بالثلثين على أعضائها، فقد هرب أعداء الدستور من البرلمان لتفقد الجلسة العامة النصاب القانوني للتصويت وتسقط. كيف يصل نائب إلى البرلمان تحت حكم دستور 2014 ولا يلتزم بأحكامه؟ هذه من ألاعيب جماعة دحلان بن زايد التونسية التي تخون الثورة جهارًا وتعبث بالدستور بلا خجل.
هيئات فاشلة إلى حد الآن
نص دستور 2014 على تأسيس جملة من الهيئات الدستورية ذات دور تحكيمي وتعديلي تم انتخاب عدد منها ويجري التجديد لبعضها ولكنها لا تؤدي مهامها إلا جزئيًا، فقد تسرب إليها أعداء الثورة منذ يوم انتخابها وأفشلوا عملها من الداخل وكشفوا ضعف التنسيق بين أنصار الثورة وضعفهم ولا مانع من القول كشفت هوانهم وأحقادهم البينية، وهي الأحقاد التي يعرفها أعداء الثورة ويتسربون منها منذ البداية.
هيئة مقاومة الفساد لا تقاوم الفساد بل تتمتع بميزانية خرافية تستعملها في الدعاية لمحاربة الفساد دون أن يرى الناس نتيجة عملها في الواقع
مثال ذلك الهايكا أو هيئة التعديل السمعي البصري التي لها سلطة قرار على المشهد الإعلامي برمته، فقد تسرب بعض اليسار إلى الهيئة واتخذها وسيلة لمحاربة إعلام جديد يتهمه بالإسلامية، واقتصر دورهم طيلة فترة 2014-2019 على تصيد الفجوات القانونية التي تمكنهم من رقبة قنوات تلفزية ذات هوى غير يساري، ولا أقول إسلامي، ثم انتهوا عند هوى رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد، فاستعملهم في محاربة قناة “نسمة” المملوكة لمنافس له، فتذكرت الهيئة التهرب الضريبي والعمل غير القانوني للقناة وعملت على إغلاقها.
أما هيئة مقاومة الفساد فلا تقاوم الفساد، بل تتمتع بميزانية خرافية تستعملها في الدعاية لمحاربة الفساد دون أن يرى الناس نتيجة عملها في الواقع، وقد عمل البرلمان منذ أيام على تجديد هيئتها وتم التلاعب بالترشحات بغير وجه قانوني، ويعتبر كاتب المقال نفسه أحد ضحايا هذا التلاعب، فقد قدم ترشحًا استوفي فيه الشروط الشكلية، ولكن سقطت بعض وثائق ملفه في لجنة فرز كامنة في البرلمان، فانكشفت مكامن عمل النظام القديم الذي ظن “الثوريون” أنهم بمنجاة منه، فإذا هو ساكن في مفاصل الإدارة يعبث بشكليات القانون ويضع النواب أمام أمور مقضية لا حيلة لهم فيها ويشاهد تسليمهم العاجز.
المحكمة الدستورية أم المعارك الثقافية والدستورية
للمرة الرابعة يفشل نواب البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وكشف هذا الفشل معركة قديمة كامنة في عمق الدولة التونسية: معركة الحضر والبدو أو معركة الذين يزعمون تملك الدولة كميراث والوافدين الجدد على السياسة الذين لا يحق لهم إلا موقع التابع العبد تقريبًا.
تقدم إلى عضوية الهيئة المحامي العياشي الهمامي وهو مناضل يساري وحقوقي قاوم الديكتاتورية في أوج قوتها واكتسب سمعة طيبة في أوساط كل مناضلي حقوق الإنسان وكان مكتبه مقر هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات وهي أكبر عملية معارضة لنظام بن علي (بعد الإعدام الرمزي والفعلي لحركة النهضة).
انكشاف اللاوعي السياسي فضح عمق الخلاف بين المكونات المدنية والثقافية لتونس المقسومة بين طائفة الحضر التي تعتبر نفسها مالكة الحق في الحكم وأمواج “العبيد” القادمين من وراء الجبال والصحاري
تصر حركة النهضة الإسلامية على ترشحيه وتحضر كتلتها النيابية في كل مرة لتزكيته، ولكن يهرب نواب حركة مشروع تونس ونواب النداء من الجلسة، فتفشل الجلسة لغياب النصاب، ثم انفجر الكامن في خلفية السياسة التونسية.
الكامن أو المسكوت عنه أن الهمامي سليل قبيلة من خارج طائفة الحضر (وأتعمد استعمال مصطلح الطائفة)، وطائفة الحضر رشحت السيدة سناء بن عاشور سليلة أسرة بن عاشور الحقوقية، وترى طائفة الحضر أن هذا البلد لا يحكمه همامي (سليل قبيلة الهمامة) أو فرشيشي (سليلة قبيلة الفراشيش سكان منطقة القصرين) وهم وحدهم من وضع هذا القانون العرقي العنصري منذ زمن خدمتهم لبايات تونس.
انكشاف اللاوعي السياسي فضح عمق الخلاف بين المكونات المدنية والثقافية لتونس المقسومة بين طائفة الحضر التي تعتبر نفسها مالكة الحق في الحكم (تمثلهم سناء بن عاشور) وأمواج “العبيد” (يمثلهم العياشي الهمامي) القادمين من وراء الجبال والصحاري المؤهلة فقط لشغل مكان اليد العاملة الغبية والكريهة (منتجي خادمات المنازل) لطائفة الحضر.
المحكمة الدستورية في تونس عنوان صراع ثقافي أكثر منه سياسي
سادة وعبيد، لا وعي سياسي تونسي لم تنهه الثورة، فعاد في انتخاب هيئة المحكمة الدستورية، نفس هذا الوعي الكامن (أو اللاوعي) هو الذي قبل بالباجي قائد السبسي ابن طائفة الحضر في 2011 ليقود حكومة انتقالية (بعد فض اعتصام الرعاة الزاحفين على العاصمة)، وهي نفس الطائفة العرقية التي التفت حوله لتصعده رئيسًا في 2014.
حرب قديمة تتجدد لم يتم حسمها في الثورة التي عاشتها تونس سنة 1864 (ثورة على بن غذاهم الفرشيشي) ضد بايات تونس، ولم يفعل الزعيم بورقيبة الريفي (باني الدولة الحديثة) إلا أن هادنها وتزوج منها وحكم بالحفاظ على امتيازاتها القديمة وتراثها السياسي والثقافي والعنصري.
المحكمة الدستورية في تونس عنوان صراع ثقافي أكثر منه سياسي، حيث ينكشف بلدان مختلفان حضر وريف أو (بلدية وأقعار والقُعر في لغة حضر تونس هو مرادف الريفي الجلف الجاهل المتخلف الغبي الخادم العبد).
فالأمر إذن يتجاوز انتخاب هيئة دستورية إلى صراع أعمق، من يحكم تونس ويسن قوانينها أو من يراقب دستورية قوانينها (هذه مهمة آل بن عاشور ورثة الفقه والقانون الدستوري الفرنسي على تناقضهما البين)، لكن كيف تتعطل الانتخابات وآل بن عاشور أو حضر العاصمة غير ممثلين بالبرلمان؟
حصل لقاء غريب بين أعداء الربيع العربي والطائفة المحافظة في تونس (ممثلين في الحضر)، فنواب كتلة مشروع تونس يهربون من البرلمان كلما حان أوان انتخاب الهيئات الدستورية فيفشل البرلمان بما يسمح بقراءة سوسيولوجية بسيطة ولكن مباشرة.
سقط حديث التقدمية العربية وسقط كل فكر يزعم الحداثة، وخرج الإسلاميون منتصرين رمزيًا وفعليًا، فهم من يدفع إلى التغيير بتقديم أبناء الريف (الأقعار) إلى موقع القرار
طبقة محافظة تجد مصلحة في التحالف مع طبقة الانتهازيين السياسيين من قبيل حركة مشروع تونس، وهي نفس الفئة السياسية المتحالفة مع حفتر الليبي ومع مشروع الإمارات المخرب للربيع العربي، وتعبد السيسي الانقلابي.
لا مكان هنا للحديث عن التقدمية والحداثة فأعلى أصوات الحداثة التونسية (العربية بالضرورة) متحالفة ضد الربيع العربي ومشروع التغيير مع أعتى الرجعيات العربية ممثلة في ممالك النفط. ولعمري أن هذا من العجائب، بل إنه من الواضحات الكاشفات.
سقط حديث التقدمية العربية وسقط كل فكر يزعم الحداثة وخرج الإسلاميون منتصرين رمزيًا وفعليًا، فهم من يدفع إلى التغيير بتقديم أبناء الريف (الأقعار) إلى موقع القرار والفعل في مواجهة حضر المدن المتكلس والرجعي المالك لامتيازات لم يشق في كسبها، ولكنه حافظ عليها بحكم ضعف من سبق من أهل السياسة من الانتهازيين من أمثال بورقيبة وحكوماته التي جاملت ولم تحسم زمن تأسيس الدولة، فأورثتنا مصائب لم تفلح الثورة بعد في حسمها رغم الجهد.
المحكمة الدستورية إذن معركة تأسيس دولة وليست مجرد إجراء ترتيبي، وما العياشي الهمامي الريفي (القعر) إلا رمز لهذا الصراع وسيحسم لصالح الثورة رغم الحرب الكامنة، فقد أعلنت الثورة عناوينها.