تواصل حرائق الغابات التي اندلعت منذ أيام في ولاية كاليفورنيا الأمريكية (غرب) اشتعالها بشكل مرعب، في ظل فشل جهود الدفاع المدني في احتوائها حتى كتابة تلك السطور، مخلفة 11 قتيلًا (حصيلة أولية غير نهائية) واحتراق أكثر من 12 ألف منزل، فيما دُمرت أحياء كاملة كانت تعد من أغنى المناطق في الولاية، حيث سُوت بالأرض وتحولت إلى رماد.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات المقاطع المخيفة لتأثير تلك الحرائق التي التهمت عشرات الأفدنة في مدينة لوس أنغلوس الغنية، أكبر مدن كاليفورنيا وثاني أكثر مدن الولايات المتحدة اكتظاظًا بالسكان بعد نيويورك، حيث دمرت ألسنة النيران منازل وقصور العديد من المشاهير والممثلين، وحتى الآن ما تم السيطرة عليه من تلك الحرائق لا يتجاوز 11% فقط وفقًا لـCalFire.
من المبكر جدًا تقييم حصيلة الخسائر الناجمة عن تلك الحرائق، إلا أن التقديرات الأولية تشير إلى أنها قد تتراوح بين 135 و150 مليار دولار، ما يجعلها واحدة من أكثر الحرائق تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة، كما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي وصفها بأنها “أكبر حرائق الغابات وأكثرها تدميرًا في تاريخ كاليفورنيا”، مؤكدًا أن “التغير المناخي حقيقة واقعة”.
لحظة هروب سيارات الإطفاء وفرق الإنقاذ جراء اقتراب الحرائق منهم في أحد تلال لوس أنجلوس بولاية #كاليفورنيا الأمريكية#الجزيرة_مباشر #أمريكا pic.twitter.com/4HAjxNlWXM
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) January 11, 2025
ومنذ عام 2010 شهدت أمريكا 58 ألف حريق غابات، أسفر عنه احتراق 7 ملايين فدان سنويًا، وخسائر قدرت بنحو 16.5 مليار دولار كل عام، بحسب دراسة لخدمة أبحاث الكونغرس، فيما أرجع مرصد الجفاف الأمريكي تلك الحرائق إلى الظروف المناخية التي حملها مسؤولية الارتفاع في حجم وتأثير الحرائق خلال السنوات الأخيرة.
يبدو أن الولايات المتحدة على موعد مع ثمن مكلف لتغولها على البيئة وعبثها بالمناخ، فالقوى الصناعية الكبرى لا تجد أي غضاضة في نسف التوازن البيني والإخلال بالمنظومة المناخية طالما كان المقابل نهضة اقتصادية وإنعاش الخزائن بالأموال وتحقيق رخاء معيشي لحفنة من الملايين، حتى لو كان ذلك على حساب باقي سكان الأرض من مليارات البشر.
فأمريكا إلى جانب الصين والهند والاتحاد الأوروبي يساهمون بأكثر من 55% من إجمالي الانبعاثات في العالم خلال العقد الماضي، بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، كما أن الوقود المستخدم من تلك البلدان في ثورتها الصناعية يتسبب في 3 أضعاف الوفيات التي تتسبب بها حوادث السير، وفق ما كشفته دراسة لمركز الأبحاث حول الطاقة والهواء والنظيف.
تغير المناخ كلمة السر
بداية تُعرف الأمم المتحدة تغير المناخ بأنه “التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس”، وتنقسم تلك التحولات إلى قسمين، الأول: تلك الناتجة عن ظواهر طبيعية كالتغيرات في الدورة الشمسية، الثاني: التحولات الناجمة عن العنصر البشري وتلك التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر التي ترجع في الأساس إلى حرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز، والذي ينجم عنه غازات دفيئة تكون بمثابة غطاء يلتف حول الكرة الأرضية، ما ينجم عنه حبس حرارة الشمس وارتفاع نسبي في درجات الحرارة، وحرائق الغابات.
وفق هذا التعريف فإن الحرائق التي تشهدها الولايات المتحدة مؤخرًا تندرج علميًا تحت عنوان “التغير المناخي” فهي أحد الإفرازات السلبية للنهضة الصناعية الأمريكية التي جاءت على حساب العوامل البيئية، وهو ما توصل إليه فريق بحثي بقيادة علماء من مختبر أرغون في أمريكا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حيث كشفوا في البحث الذي نُشر في دورية “إيرسز فيوتشر” وبناء على دراسة 13 ألف حريق غابات في أمريكا الشمالي والولايات المتحدة خلال الفترة من 1984 – 2019 أن الحرائق ستزداد بمعدل 10 أيام إضافية كل سنة وفي بعض المناطق كالسهول الكبرى الجنوبية والغربية في أمريكا سيرتفع معدل الحرائق ليصبح أكثر من 40 يومًا إضافيًا كل عام، معظمها سيكون في أشهر الربيع والصيف.
وتوصل الباحثون إلى أن التغيرات المناخية قد تدفع حرائق الغابات لتمتد إلى أشهر الشتاء، وبشكل خاص مع انخفاض معدلات الأمطار عن قبل، مما يترتب عليه جفاف النباتات وبالتالي سهولة الاحتراق والاشتعال، هذا بخلاف ما تُحدثه التغيرات المناخية من جفاف وموجات حارة تؤدي إلى تجفيف النبات بمستويات كبيرة، مما يسهل اشتعالها.
وفي دراسة لفريق علمي من العلماء عام 2020 واستنادًا إلى مراجعة بحثية لـ57 دراسة سابقة في هذا المجال، توصلت إلى وجود علاقة قوية وترابط كبير بين تغير المناخ وزيادة تواتر وشدة طقس الحرائق، أو ما يطلق عليه الظروف الملائمة لنشوب حرائق غابات، مثل درجات الحرارة المرتفعة وانخفاض الرطوبة وانخفاض هطول الأمطار والرياح العاتية، لافتة إلى أن موجات الحر والجفاف المتكررة ستؤدي إلى زيادة احتمال نشوب حرائق الغابات من خلال تعزيز طقس الحرائق.
تحذيرات مسبقة.. آذان صماء
في نوفمبر/تشرين ثاني 2022 حذر مؤلفو التقييم الوطني للمناخ، الذين يمثلون مجموعة واسعة من الوكالات الفيدرالية، من التبعات الناجمة عن العبث بالمناخ والظروف البيئية، لافتين إلى أن التغيرات المناخية بيئة خصبة للعديد من الكوارث المتفاقمة وبعيدة المدى، ذات الخسائر الاقتصادية والبشرية الهائلة.
وكتب المؤلفون في تقريرهم الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” قائلين إن “الأشياء التي يقدرها الأمريكيون أكثر من غيرهم معرضة للخطر، فالعديد من الآثار الضارة التي يعاني منها الناس في جميع أنحاء البلاد ستزداد سوءًا مع زيادة الاحترار، وستظهر أخطار جديدة”، موضحين كيف أن الكوارث التي يغذيها المناخ أصبحت أكثر تكلفة وأكثر شيوعًا.
تغطية صحفية| جو بايدن: لوس أنجلوس أصبحت مثل ساحة الحرب بسبب الحرائق، وهذه هي أكبر الحرائق وأكثرها تدميرًا في تاريخ الولاية pic.twitter.com/Q2JwdNbHYo
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 11, 2025
من جانبه قال عالم الأبحاث في “بيركلي إيرث” زيك هاوسفاثير، أحد مؤلفي التقييم، إن درجة الحرارة في أمريكا – باستثناء ألاسكا – ترتفع بنحو الثلثين أسرع من كوكب الأرض ككل، وهو ما يضع الأمريكان جميعهم في مواجهة الأخطاء الناجمة عن تغير المناخ، بدءا من موجات الحر الخانقة في الغرب الأوسط إلى الفيضانات القاتلة في الجنوب الشرقي، ومن ارتفاع درجة حرارة المحيطات على طول الساحل الشمالي الشرقي وصولًا إلى حرائق الغابات في الغرب.
التقرير كشف أن الجفاف وموجات الحرارة العالية جراء التغيرات المناخية خلال الفترة بين 1980 – 2021 تسببت في خسائر اقتصادية قدرت بنحو 300 مليار دولار، هذا بخلاف موجات النزوح الكبيرة، حيث مغادرة الناس في المدن التي شهدت تلك الكوارث (أعاصير وفيضانات وحرائق) لمنازلهم بحثًا عن أماكن أكثر استقرارًا، محذرًا من أن يؤثر العبث بالبيئة إلى تزايد معدلات الهجرة، وخلص التقرير إلى أنه “من المتوقع أن تؤدي حرائق الغابات الأكثر حدة في كاليفورنيا، وارتفاع مستوى سطح البحر في فلوريدا، والفيضانات المتكررة في تكساس إلى نزوح ملايين الأشخاص، بينما تستمر التغيرات الاقتصادية التي يحركها المناخ في الخارج في زيادة معدل الهجرة إلى الولايات المتحدة”.
الانسحاب من اتفاقية المناخ.. مؤشر كارثي
في 2015 قادت الولايات المتحدة، بقيادة باراك أوباما حينها، عشرات الدول في مختلف أنحاء العالم للتوقيع على اتفاق باريس للمناخ، وهو الاتفاق الذي تم تدشينه للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، في محاولة لإبطاء تغير المناخ، وكان البعض ينظر إلى تلك الخطوة على أنها إعلان صريح بخطورة التغيرات المناخية وضرورة إعادة النظر في ممارسات القوى الصناعية العالمية الأكثر تلويثًا للبيئة.
الغريب أنه ومع الأيام الأولى لتولي رجل الأعمال الإمبراطوري دونالد ترامب السلطة في أمريكا في يناير/كانون الثاني 2017 كان القرار الأبرز المتخذ هو انسحاب بلاده من الاتفاق، وهو القرار الذي كشف النقاب عن الكثير من المسكوت عنه بشأن توجه الإدارة الجديدة إزاء قضايا البيئة والمناخ، فالرجل بات واضحًا انتصاره للاستثمار الصناعي والنهضة الاقتصادية دون أي اعتبارات بيئية.
ومع تولي جو بايدن الحكم في يناير/كانون الثاني 2021 أعاد أمريكا للانضمام إلى الاتفاقية مرة أخرى في 19 فبراير/شباط من نفس العام، حيث تبنت الإدارة الديمقراطية بعض المقاربات البيئية الخاصة، ووضعت الملف البيئي على قائمة الأولويات رغم التراجع في مستوى ومعدلات أداء الإدارات البيئية لأسباب اقتصادية وأخرى تتعلق بدعم أوكرانيا ببعض الأنظمة الدفاعية المدنية التي أثرت لاحقًا على قدرات وإمكانيات الولايات المتحدة.
ومع عودة ترامب للمشهد مرة أخرى، في ظل توجهاته المعادية للبيئة، تتصاعد المخاوف من تأثير تلك التوجهات على أداء إدارته الجمهورية في هذا الملف الحيوي، خاصة أنه يستقبل ولايته الجديدة بموجة حرائق قد تكون الأعنف في أمريكا منذ سنوات طويلة، الأمر الذي يثير القلق من تفاقم الكوارث البيئية الناجمة عن التغيرات المناخية وتداعياتها على مجالات الاقتصاد والصحة والسياحة مستقبلًا.. فهل ينسحب مجددًا؟
العبث بالمناخ.. سجل مشين
– تمثل الولايات المتحدة 11% من الانبعاثات الضارة على مستوى العالم (تقديرات أخرى تشير إلى 13%)، وبذا تحتل المرتبة الثانية – بعد الصين – في قائمة مجرمي المناخ أصحاب الانبعاثات العالية.
– 69% من الشعب الأمريكي يرى أن بلاده تواجه تغيرات مناخية قاسية، فيما يُرجع 55% منهم ذلك إلى سلوكيات الدولة والمواطنين على حد سواء.
– تسببت عشرات الآلاف من المصانع التي تستخدم الوقود الأحفوري بأمريكا في ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1 درجة فهرنهايت (0.56 درجة مئوية) خلال فترة 1950-2009، الأمر الذي كان سببًا في حدوث العديد من الكوارث البيئية مثل ذوبان الجليد في البحيرات والأنهار والفيضانات والأعاصير، ما زاد من معدلات النزوح الداخلي للشعب الأمريكي.
– تصدرت أمريكا قائمة البلدان الأكثر في الانبعاثات الضارة خلال الفترة بين 1850 – 2007 بنسبة 28.8% تليها الصين بـ9.0%، ثم روسيا بـ8.0%، تليها ألمانيا بنسبة 6.9%، ثم المملكة المتحدة بنسبة 5.8%، اليابان بنسبة 3.9%، فرنسا بنسبة 2.8%، الهند بنسبة 2.4%، كندا بنسبة 2.2%، فيما حلّت أوكرانيا في المرتبة العاشرة بنسبة 2.2%.
– يأتي الفحم الأحفوري على قائمة الوقود التقليدي الأكثر تسببًا في حدوث التغيرات المناخية، حيث يتسبب في 32% من الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل، و20% عن الصناعة، ورغم المناشدات التي تطالب بالتقليل من تلك الاستخدامات والبحث عن مصادر طاقة نظيفة، فإن هذا الملف ما زال يعاني من انقسامات حادة في الداخل الأمريكي بين مؤيد ومعارض.
– نشرت وكالة “رويترز” في 2020 تقريرًا كشفت فيه عن أن مصنعًا واحدًا لصهر الألومنيوم في مقاطعة نيومدريد، إحدى المقاطعات في ولاية ميزوري الأمريكية (غربًا)، يُخرج أقذر هواء في الولايات المتحدة بحسب بيانات لوكالة حماية البيئة الأمريكية التابعة للحكومة الفيدرالية، إذ أنتج وحده حوالي 30 ألف طن من ثاني أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين في عام 2019، وبحكم أن هذا المصنع يعد أحد أبرز وجهات التوظيف في أمريكا، إلا أن عدم التزامه بالمعايير البيئية، أدى إلى ارتفاع معدلات الوفيات في المقاطعة بسبب مرض الانسداد الرئوي المزمن عن بقية أنحاء الولاية بنسبة 87% بحسب بيانات وزارة الصحة الأمريكية.
– في 2023، كشفت دراسة لفريق علمي من جامعة ماساتشوستس أمهيرست UMass Amherst، أن مليونيرات أمريكا مسؤولون عن 40% من انبعاثات الكربون التي تغذي تغير المناخ، من بينهم مؤسس شركة مايكروسوفت بيل جيتس، والمخرج ستيفن سبيلبرج، والممثل ليوناردو دي كابريو، والعديد من الآخرين، بسبب بصماتهم الكربونية الضخمة.
وبحسب ما نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية فإن نجمة البوب الشهيرة تيلور سويفت، صُنفت كأكبر ملوث بشري للبيئة بثاني أكسد الكربون خلال عام 2022، إذ استقلت 170 رحلة طيران على متن طائرة خاصة خلال نصف عام فقط، وذلك بين شهري يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز 2022
– تعهد الرؤساء الأمريكيون طيلة السنوات الماضية بالعمل من أجل تقليل الانبعاثات الضارة، بداية من أوباما الذي وضع خطة للحفاظ على البيئة خلال قمة كوبنهاغن للمناخ في ديسمبر/كانون الأول 2009، تتضمّن تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 17% دون مستويات عام 2005 بحلول عام 2020، وبنسبة 42% دون مستويات عام 2005 بحلول عام 2030، وبنسبة 83% دون مستويات عام 2005 بحلول عام 2050، وصولًا إلى بايدن الذي أكد دعمه لتنفيذ مثل تلك الخطط، لكن دون مُنجز ملموس على أرض الواقع.
– تتكبّد الولايات المتحدة خسائر فادحة بسبب الظواهر البيئية وما ينجم عنها من كوارث مدمرة، فبحسب بيان صادر عن البيت الأبيض العام الماضي سيؤدي التغير المناخي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا بنسبة 7.1% بنهاية هذا القرن، والتي تساوي تريليونَي دولار سنويًّا.
محصلة لما سبق..
تكشف الحرائق التي تُشعل غرب الولايات المتحدة، وما سبقها من فيضانات وأعاصير مدمرة، والمشاهد المرعبة للنزوح الجماعي وتدمير عشرات الآلاف من المنازل والمنشآت، والتي يبدو أنها لن تكون الأخيرة، عن فداحة الثمن التي تدفعه أمريكا لتغولها الواضح على البيئة وأضرارها المرتكبة بحق المناخ، وهو الثمن الذي يفوق بمراحل تلك المكاسب المحققة من استخدام الوقود الأحفوري والممارسات الضارة بيئيًا ليبقى السؤال: هل من مُلجم لهذا التغول الذي تدفع البشرية بأسرها كلفته الباهظة؟ وأي مستقبل لتلك الكوارث في ولاية ترامب الكاره للبيئة والمعادي للمناخ؟