قيسارية، واحدة من أقدم المدن في التاريخ، حالها كحال مدن غزة وأريحا الفلسطينية وبابل العراقية وبيروت ودمشق وغيرها، تعود المدينة إلى زمن الكنعانيين عام 30 سنة قبل الميلاد، وهم أول من سكنوا الأرض الفلسطينية وبلاد الشام، لها حوادث وقصص تروي صراعات الأمم مع بعضها عبر التاريخ، منها الإمبراطوريات الأوروبية والعربية والإسلامية وغيرها، وما زالت معالمها شاهدة على تاريخ هذه المدينة المحتلة، رغم تقلبات العصور وتعثر الزمن.
على مر التاريخ، أقام عدد من المؤرخين والعلماء والحكام في هذه المدينة، وبعضهم كان له أثر بالغ في تغيير مجرى التاريخ، فقد أقام فيها لفترات مؤسس الدولة الرومانية أوغسطس، وكذلك أول ملك مكلف على فلسطين من الرومان حينها هيرودوس الأول الذي نفذ أول مذبحة بحق المسيحيين انتقامًا من النبي عيسى، ثم اتخذ ابنه هيرودوس أنتيباس من قيسارية مقرًا لقلعته، وهو من أعدم سيدنا يحيى عليه السلام، كما أقام فيها الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد حيث اتخذ منها ومن مدينة عكا المجاورة لها، قلعة لمملكته الصليبية في سواحل بلاد الشام وأنطاكيا، بعد هزيمة جيشه وتحرير بيت المقدس من القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي عام 1190 ميلاديًا، وغيرهم الكثير من الحكام والأساطين عبر التاريخ.
تاريخ المدينة وبناؤها
تعرضت فلسطين للاحتلال الروماني بعد هزيمة اليونان على أرضها عام 56 قبل الميلاد، إلا أن هذه المدينة دخلها الروم بعد 20 سنة من احتلالهم لفلسطين، حيث كان أول من عمّرها بالسكان الوالي على شمال فلسطين هيرودوس أنتبياس عام 20 ق.م، وذلك بأوامر من القيصر الروماني أوغسطس وهو أول إمبراطور للدولة الرومانية وأحد مؤسسيها، ولهذا سُميت المدينة قيصارية أو قيسارية حديثًا، تيمنًا بمهنة ذلك الإمبراطور.
حاول الرومان طيلة بضع سنوات استرجاع فلسطين من اليهود، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، حيث كانت تشكل قيسارية عائقًا أمام أي عمليات تقدم من الشمال حيث الأراضي السورية واللبنانية
قصة الثورة اليهودية الكبرى والأولى لليهود من على أرض قيسارية
من على أرض هذه المدينة بدأت أولى حروب الرومان مع اليهود، فمنها انطلقت شرارة الثورة اليهودية الشعبية الكبرى عام 63 ميلاديًا، وتمددت في سائر أرجاء فلسطين، واستطاع اليهود دحر الرومان من 90% من الأراضي الفلسطينية حينها وأهمها القدس ونابلس وقيسارية والناصرة وبيت لحم وغزة، وكان معقل قوة الثورة اليهودية حينها قيسارية والقدس، وتعد ثورة اليهود بقيسارية أولى درجات تقهقر الإمبراطورية الرومانية التي امتد نفوذها من أوروبا لمصر.
حاول الرومان طيلة بضع سنوات استرجاع فلسطين من اليهود، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، حيث كانت تشكل قيسارية عائقًا أمام أي عمليات تقدم من الشمال حيث الأراضي السورية واللبنانية، بينما كانت مدينة غزة تشكل الدرع الواقي لجنوب فلسطين وحاميتها من أي تقدم روماني من الأراضي المصرية، ولكن دخول الرومان للقدس، كان مشروطًا بإخماد ثورة اليهود في قيسارية أولاً.
في تلك الفترة كان نيرون حاكمًا لدولة الرومان واشتهر بجريمته المعروفة باسم “محرقة روما” وكانت كل أصابع الاتهام من الشعوب البيزنطية تشير إليه، فاستغل نيرون ثورة اليهود في فلسطين لصالحه، وذلك بوضعهم ككبش فداء إزاء هذه المحرقة، وخاصة أن عداء اليهود حينها قد زاد من حدته تجاه الإمبراطورية الرومانية، فوعد شعبه بمحاسبة المتهمين، ليحرك أسطولاً كبيرًا من جيشه تجاه سوريا التي كانت تحت سيطرته، وذلك للاتجاه لفلسطين ودخول قيسارية عام 65 ميلاديًا، وقد كانت محرقة روما حجته لإبادة اليهود المعادين لإمبراطوريته ابتداءً من فلسطين.
بدأ الرومان يهتمون بقيسارية من جديد، وأعادوا إعمارها وتشييدها، وما زالت قيسارية تحتضن أكبر معالم الرومان في فلسطين وأكثرها
ظل حصار قيسارية مدة ثلاثة أعوام كاملةً منذ أن بدأ الحرب الفعلية عليها، حتى دخولها عام 68 ميلاديًا، فقام الرومان بذبح 20 ألف يهودي من أهل قيسارية، وسبيهم واستعبادهم لمدة أسبوع كامل، وكان سقوط قيسارية مجددًا بأيدي الرومان بعد 5 سنوات من دحرهم منها، مفتاحًا لطريق توجههم نحو القدس، ثم توجهوا للقدس، حيث دخلوها بمدة وجيزة وذبحوا 30 ألف من أبنائها أيضًا، واستمر دخولهم لنابلس والناصرة وذبحوا الأضعاف فيها، وفعلوا ذات الأمر بغزة، وقتل خلال ذلك العام قرابة ربع مليون يهودي في فلسطين الذين كانوا يتخذون من قيسارية معقلاً لثورتهم.
بدأ الرومان يهتمون بقيسارية من جديد، وأعادوا إعمارها وتشييدها، وما زالت قيسارية تحتضن أكبر معالم الرومان في فلسطين وأكثرها، حيث لا يخلو شارع من شوارعها من أي معلم روماني، رغم تعثرات الزمن وتقلباته.
أهم المعالم التاريخية في قيسارية
بحسب ما يوضح المؤرخ الفلسطيني الدكتور سليم المبيض، فإن أبرز معالم هذه المدينة هو “المدرج الروماني” الذي سبق ذلك المدرج الشهير في الأردن بـ60 عامًا، وكان أحد أهم إنجازات نيرون في فلسطين، ويتسع المسرح لـ4000 متفرج، وكان خاصًا بصراع الثيران أو صراع البشر “قاتل ومقتول” كحلبة صراع أو ميدانًا لسباق الخيل، ويوجد خلف المدرجات غرف حجرية، يُقال إنها كانت تخصص لتجهيز المقاتلين أو غرف لتغيير ملابسهم، وكانت أحيانًا تخصص للإعدام أمام الجمهور حسب القضايا التي تتماشى عليها دولة الرومان حينذاك.
تضم المدينة معبدًا وثنيًا قديمًا للرومان أُنشئ في القرن الرابع للميلاد، قبل أن يتحول لكنيسة مع بداية القرن الخامس
وميناء قيسارية القديم يعتبر من أقدم خمسة موانئ في العالم، والثاني فلسطينيًا بعد ميناء “البلاخية” في غزة، وعلى الرغم من أن 90% من ذلك الميناء اندثر نتيجة الأمواج الكاسرة التي غمرته تحت المياه عبر مراحل التاريخ المتنقلة، فإن محيطه يحتوي على قنطار “قيسارية” وهي أول قناة في العالم لنقل المياه بعد قنطار “جسر الشيطان” في إسبانيا، هذه القنوات برية بُنيت بسماكة ما جعلتها راسخة على مدى الزمن، وكانت هذه القناطير كقناة نقل المياه من بحر مدينة عكا شمال فلسطين، إلى سكان قيسارية التي كان يتخذها الرومان عاصمة لهم.
تضم المدينة أيضًا معبدًا وثنيًا قديمًا للرومان أُنشئ في القرن الرابع للميلاد، قبل أن يتحول لكنيسة مع بداية القرن الخامس، ويتوسط المعبد بركة زراعة سمكية الأولى من نوعها في العالم، وما زالت موجودة على هيئتها الأولى حتى يومنا هذا.
المدرج الروماني في قيسارية
ولعل هذا المعبد القديم كان مقامًا لقادة الرومان أو الإفرنج الذين تناوبوا على احتلال المدينة أو فلسطين عبر التاريخ، منهم السلطان الأول لدولة الرومان أوغسطس وكذلك قائد الحملة العسكرية الصليبية على بلاد الشام جودنفري وتشارلز قلب الأسد وغيرهم.
استغرق دخول قيسارية وفتحها من المسلمين قرابة 6 سنوات، فكانت المدينة الوحيدة التي دخلها المسلمون بالقتال وقسرًا، على عكس كل المدن الفلسطينية
وقد وجدت عدة تماثيل بشرية مصنوعة من الرخام والعاج، ويوضح الباحث في التاريخ الفلسطيني القديم الدكتور علاء أبو عامر في حديث خاص لـ”نون بوست” أن هذه التماثيل تعود للقادة الرومانيين، وغالبًا تدل على أوغسطوس، الإمبراطور الأول للدولة الرومانية التي بُنيت قيسارية في عهده، أو الحاكم المكلف من طرفه على فلسطين هيدوروس أنتبياس أو قائد الدولة الرومانية فيما بعد نيرون الذي استرجع فلسطين من الثورة اليهودية الكبرى وأعاد احتلالها مرة أخرى.
الصراع الإسلامي الصليبي على المدينة طيلة قرون
يُقال إن المسلمين بعدما فتحوا غزة كأول مدينة فلسطينية عام 635 ميلاديًا، والقدس عام 637 ميلاديًا بقيادة خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، والقائد العسكري عمرو بن العاص، اتجهوا لفتح هذه المدينة سنة 640 ميلاديًا وكانت حينها المرة الأولى التي يحط العرب فيها زوارًا وضيوفًا على هذه المدينة، ويُقال أيضًا إن جيوش المسلمين والعرب التي فتحت قيسارية حينها دخلتها عبر القناطير الرومانية لنقل المياه.
استغرق دخول قيسارية وفتحها من المسلمين قرابة 6 سنوات، فكانت المدينة الوحيدة التي دخلها المسلمون بالقتال وقسرًا، على عكس كل المدن الفلسطينية كالقدس وغزة والخليل وفلسطين كافة التي دخلها المسلمون باتفاقيات سلام مع البيزنطيين.
ويوضح الباحث في التاريخ الفلسطيني الدكتور عدنان أبو عامر، أن المسلمين كان لهم أثر في هذه المدينة، فقد أعادوا بناءها وترميمها، لكنها حظيت بأقل اهمام من المدن الفلسطينية الأخرى، وقد كان الإنجاز الأكبر للمسلمين في هذه المنطقة، هو بناؤهم المسجد الأموي في قيسارية، على يد الخليفة عبد الملك بن مروان عام 700 للميلاد، وأُعيد ترميم هذا المسجد مجددًا في عهد المماليك على يد الظاهر بيبرس في القرن الثالث عشر للميلاد.
بقيت قيسارية الصليبية حينها تشكل أكبر تهديد للبلاد الإسلامية والعربية، فعندما حرر صلاح الدين الأيوبي عام 1187 بيت المقدس وضواحيها من الإفرنج، لم يُكمل تحريره لباقي فلسطين، بل بقيت القوات الإفرنجية في قيسارية وعكا
ويتابع أبو عامر “فيما بعد، احتل الصليب المدينة عام 1100 ميلادي عقب سقوط بلاد الشام تحت أيديهم وارتكابهم أبشع المذابح في التاريخ بحق أبنائها، وجعلوا من قيسارية ومدينة عكا على أطرافها، عاصمة لهم، واتخذوا منها قلاعًا تحصينية لقواتهم”.
وبقيت قيسارية الصليبية حينها تشكل أكبر تهديد للبلاد الإسلامية والعربية، فعندما حرر صلاح الدين الأيوبي عام 1187 بيت المقدس وضواحيها من الإفرنج، لم يُكمل تحريره لباقي فلسطين، بل بقيت القوات الإفرنجية في قيسارية وعكا، ومن هناك عبر مينائي قيسارية وعكا، استطاع الإفرنج احتلال مدينة دمياط المصرية عام 1128، ورغم أنها حُررت فيما بعد، فإن مملكة الصليب في قيسارية أعادت احتلال القدس بعد تحريرها من صلاح الدين الأيوبي بـ40 عامًا، وتحديدًا عام 1244، حتى هُزموا مرة أخرى في معركة “غزة الكبرى” من نفس العام.
عام 1250 تولى المماليك حكم الدولة الإسلامية في مصر وبلاد الشام عقب انهيار الدولة الأيوبية، بل ساروا إلى بغداد أيضًا وصولاً لشمال العراق ناحية الموصل، وذلك عقب هزيمتهم للتتار، وعلى الرغم من أن سلطان المماليك سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الذي تولى الحكم من بعده، يعتبران أصحاب الانتصارات الأكثر والأكبر في تاريخ المسلمين وخاصة على التتار والمغول والصليب ما بين بلاد الشام والعراق وصولاً لإقليم الشيشان ومنغوليا، فإنهم عجزوا عن دخول مملكة شمال غرب فلسطين، التي تمثل قيسارية وحيفا وعكا.
أعاد المماليك تشييد مسجد المسلمين الأوحد بقيسارية بعد دخولهم إليها عام 1291 وما زال المسجد قائمًا بطرازه الأموي والمملوكي حتى يومنا هذا
بدأ الظاهر بيبرس عام 1263 إلى عام 1266 بالهجوم على قيسارية وعكا بالتناوب، ولكنه فشل طيلة السنوات الثلاثة من اقتلاع حصونها، رغم أنها تعرضت للهدم بشكل شبه كامل من خلال غاراته عليها، واستنكف القتال حينها، وظل المسلمون يحققون الانتصارات والتقدم بين الهند والسند عقب تلك الحادثة طيلة 60 عامًا، فيما عجزوا طيلة هذه العقود عن دخول مملكة شمال فلسطين، حتى دخلوها أخيرًا عام 1291 على يد القائد المملوكي سيف الدين قلاوون، وقد كانت حربًا ضروس بين الجهتين، راح فيها آلاف الضحايا، ولم يتمكن الإفرنج حينها من دخول فلسطين طيلة سبعة قرون حتى عام 1914 حينما احتلتها بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى.
أعاد المماليك تشييد مسجد المسلمين الأوحد بقيسارية بعد دخولهم إليها عام 1291 وما زال المسجد قائمًا بطرازه الأموي والمملوكي حتى يومنا هذا، ضاربًا بذلك عبق التاريخ، وقد حولته سلطات الاحتلال الاسرائيلي عبر مؤسسة “تطوير قيسارية” في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلى أكبر حانة للخمور في البلاد، بل مصنعًا لـ60 نوعًا من الخمور المنتشرة في شتى بقاع الأرض، ويقام فيه بشكل شبه سنوي معرضًا للمزاد العلني على مستوى دولي لبيع الخمور، في الوقت الذي يسعى فيه مسلمو الأراضي المحتلة إلى إعادة المسجد لواجهته الدينية بلا جدوى.
وبخلاف ذلك، فقد أهملت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هذه المدينة، ولم تعيرها اهتمامًا كباقي المدن العربية المحتلة، فبعيدًا عن مصطلح الصهيونية، فإن الاحتلال وقادته يسعون دومًا لتهويد الدولة الفلسطينية بزعم أن لليهود حقوقًا بها، متجاهلين تمامًا أن هذه المدينة شكلت اللبنة الأولى للثورة اليهودية الكبرى وتاريخهم في العالم العربي.