تصعيد جديد يشهده الحراك الثوري السوداني بالمليونية الحاشدة التي دعت إليها قوى المعارضة، أمس السبت، لإحياء ذكرى مرور 40 يومًا على فض اعتصام القيادة العليا للجيش الذي أسفر عن مقتل وإصابة المئات، تصعيد يراه البعض يحمل الكثير من الدلالات بشأن ما تحمله الفترة المقبلة.
تساؤلات عدة فرضتها هذه الخطوة التي تتزامن مع ما يثار بشأن قرب توقيع الاتفاق المزمع بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، إذ أعلن “تجمع المهنيين السودانيين” على صفحته الرسمية على “فيسبوك” تسلمه نسخة من الإعلان الدستوري المتفق عليه، لكنه أشار في الوقت ذاته أنها “غير نهائية”.
تضع مليونية الأربعينية (العدالة أولاً) تحديًا جديدًا أمام الاتفاق الذي يبدو أنه لن يرى النور قريبًا حتى إن كُتب بالأحرف الأولى في ظل حزمة من العراقيل التي تُصعِّب عملية تمريره، هذا في الوقت الذي لا تزال مشاعر فقدان الثقة تخيم على طرفيه، وما بين المماطة والإسراع من وتيرة الضغوط يبدو أن معارك تكسير عظام ربما يشهدها الشارع السودني خلال الفترة المقبلة.
مليونية حاشدة
كعادة المرات السابقة، فقد لاقت الدعوة التي أطلقتها القوى الثورية للمشاركة في مليونية اليوم تفاعلاً كبيرًا من الشارع السوداني بمختلف انتماءاته، وبات التفاعل معها منذ ليلة أمس، حيث خرج الآلاف من السودانيين في عدد من المناطق للتنديد بالمجزرة والمطالبة بمحاسبة المتورطين فيها.
ففي شارع الستين الرئيسي بالعاصمة الخرطوم، أشعل المتظاهرون الشموع إحياءً لذكرى أولئك الذين قتلوا في مقر الاعتصام في 3 من يونيو/حزيران الماضي، في حين أضاء آخرون هواتفهم المحمولة، وفي منطقة مدني وسط البلاد خرجت 3 مواكب متجهة إلى ميدان التليفزيون الولائي، وردد المتظاهرون هناك هتافات تطالب بالقصاص لدماء الشهداء، بحسب شهود عيان، وهو ما حدث أيضًا في مدن الأبيض وبورتسودان، إضافة لمنطقة الحاج يوسف شرقي الخرطوم.
وفي مدينة أم درمان، استبق طلاب جامعة العلوم والتقانة وطالبات جامعة الأحفاد المليونية بالتظاهر في شوارع المدينة، كما وقف طلاب جامعة الرازي دقيقة حداد على روح أحد زملائهم، محجوب التاج، وساروا في موكب إلى منزله بمنطقة الصحافة، جنوب الخرطوم.
#العدالة_اولا pic.twitter.com/t5RqaDAWNa
— Almgdad Jafar (@AlmgdadJafar) July 14, 2019
المتظاهرون رددوا العديد من الهتافات الثورية منها “الدم قصاد الدم لو حتى مدنية”، فضلاً عن الهتاف الأشهر “مدنية”، هذا الهتاف الذي يحارب الثوار لتحويله لواقع عملي في أعقاب سيطرة المجلس العسكري على مقاليد الأمور بعد إطاحة نظام عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان الماضي.
التحركات أثارت حفيظة السلطات الأمنية السودانية، الأمر الذي دفعها لمحاولة السيطرة على الأوضاع قبل تفاقهما، عبر الدفع بتشكيلات مسلحة لضمان عدم خروج التظاهرات عن التصور المرسوم لها، فوفق شهود عيان جابت عدد من المركبات التابعة لقوات الدعم السريع، تحمل رجال مسلحين ببنادق وعصي هجومية، شارع الستين وشوارع أخرى في المدينة، فيما استخدمت أخرى الأسلاك الشائكة لإغلاق طريق رئيسي يؤدي إلى مجمع وزارة الدفاع، وهو موقع معسكر الاعتصام الذي فضته قوات الأمن سابقًا.
تقديم الجناة للمحاكمة
البيان الصادر عن تجمع المهنيين شدد على “ضرورة التحقيق الشفاف العادل في جريمة فضّ الاعتصام، وتقديم الجناة الذين أمروا وخططوا ودبروا ونفذوا المجازر والانتهاكات في فجر الـ3 من الشهر الماضي في أثناء فض الاعتصام”، كما شدد كذلك على محاسبة ومحاكمة المفسدين من أجل استرداد الأموال المنهوبة.
وأضاف البيان “مواكب اليوم تأتي تأكيدًا على أن الرفاق الذين ارتقوا باقون بقاء فعلهم الوطني العظيم، وخالدون خلود ثورة شعبنا وسموها وإرادتها الماضية، وأن شعبنا الأبي لن يستكين حتى يرى العدل ماثلاً ودولة القانون فاعلة”، مشيرًا إلى أنه “وبتحقيق العدالة والإنصاف، نضع لبنة أولى نحو الانطلاق إلى براحات البناء على أساس سليم متين، في فضاءات الحكم المدني الخلاق”.
التفاعل الكبير الذي حققته تلك الدعوة والشعارات المرفوعة يعكس حجم الإصرار الكبير الذي أبداه الثوار بشأن محاسبة المتورطين في جريمة الفض
تظاهرات الأمس كان مقرر لها منذ أسبوعين تقريبًا وفق ما ذكره القيادي في حزب المؤتمر السوداني مالك أبو حسن لـ”الجزيرة”، مضيفًا أنه لا يمكن لقوى الحرية التراجع عن المطالبة بتحقيق العدالة، لأنه دون محاسبة لن يكون هناك تحول ديمقراطي في السودان.
فيما أشار حسن الفتاح، أحد المشاركين في المليونية، أن التفاعل الكبير الذي حققته تلك الدعوة والشعارات المرفوعة يعكس حجم الإصرار الكبير الذي أبداه الثوار بشأن محاسبة المتورطين في جريمة الفض، لافتًا في تصريحاته لـ”نون بوست” أن لا يمكن بناء اتفاق سياسي على أنقاض مجزرة لا يزال أبطالها أحرارًا يتحركون بين الناس.
وأضاف الناشط السوداني أن المعركة لم تنته بعد وأنه من الواضح أن هناك جولات أخرى قادمة في ظل ما وصفه بـ”مماطلة العسكر” في تسليم السلطة لمدنيين، كاشفًا أن الاتفاق المزمع به الكثير من القنابل الموقوتة التي يرفضها قطاع كبير من القوى الثورية.
الدم بالدم بالدم شهداء رمضان حرّم موكب العدالة أولا ✌ بحري شمبات
13/7 #اربعينية_مجزرة_القيادة pic.twitter.com/jk4Rab11H2
— W i Z (@MojtbaMo) July 14, 2019
تأجيل الاتفاق
بينما كان السودانيون يجوبون شوارع العاصمة السودانية وأطرافها مطالبين بالقصاص من المتورطين في مذبحة القيادة العامة، أعلن الوسيط الإفريقي إلى السودان، محمد الحسن ولد لبات، تأجيل اجتماعات المجلس العسكري الانتقالي وقوى “إعلان الحرية والتغيير” إلى اليوم الأحد.
ولد لبات في مؤتمر صحفي له مساء أمس السبت قال: “المجلس العسكري قبل طلب قوى التغيير بتأجيل اجتماعات اليوم للمزيد من التشاور”، دون تفاصيل أو تقديم إجابات عن أسئلة الصحافيين، فيما نفى المجلس في وقت سابق صحة أنباء تأجيل اجتماع مرتقب السبت مع قوى المعارضة، موضحًا أن الاجتماع سيناقش الوثيقة الدستورية وفقًا لما حددته الوساطة الإفريقية الإثيوبية، دون الإشارة إلى ما إذا كان سيشهد الاجتماع توقيعًا على “اتفاق الخرطوم”.
البيان الصادر عن المهنيين أشار إلى أنه “شرع في دراسة الوثيقة وإبداء عدد من الملاحظات المُهمة، بجانب الاعتراضات على بعض نقاطها، وسيتم صياغة هذه الملاحظات بالشكل القانوني، ومن ثم تسليمها في اجتماع يوم الأحد 14 من يوليو/تموز للشركاء في قوى الحرية والتغيير للاتفاق على موقف مشترك بشأن الوثيقة”.
وشدد في الوقت ذاته على ضرورة “التحقيق في كل الانتهاكات التي وقعت منذ سقوط المخلوع عمر البشير، وأبرزها مجزرة 8 رمضان و29 رمضان”، النقطة التي اعتبرها البعض شرطًا أساسيًا لقبول الاتفاق السياسي بعد تنقيحه من الثغرات التي تضمنها وفق ما ذهب البيان.
الحزب الشيوعي السوداني، وهو أحد مكونات تحالف قوى الحرية والتغيير، في بيان له أمس أبدى رفضه المسودة النهائية للاتفاق، مشيرًا إلى أنها لا تمنح أغلبية الثلثين لقوى الحرية في المجلس التشريعي المرتقب، كما أنها تبقي على القوات السودانية في اليمن، وهو الذي أعلن قبل ذلك معارضته تولي الأعضاء الحاليين في المجلس العسكري عضوية المجلس السيادي.
ونص الاتفاق السياسي على تشكيل مجلس عسكري يضم 5 عسكريين و6 مدنيين، ويرأس عسكري المجلس لمدة 21 شهرًا، ثم يرأسه مدني لمدة 18 شهرًا، كما يقضي الاتفاق بتشكيل حكومة كفاءات، على أن يتم لاحقًا الاتفاق على مجلس تشريعي يسن القوانين.
في السنوات الأخيرة ظهرت عدة تناقضات ذات طابع مختلف، فمن جانب كان البشير ونظامه قريبًا جدًا من قطر وتركيا ويتمتع بدعم الدولتين، شارك الجيش السوداني أيضًا في حرب اليمن لصالح موقف السعودية والإمارات
عقبات وتحديات
منذ الوهلة الأولى لإعلان اتفاق الخرطوم فرضت العديد من التحديات نفسها للحيلولة دون إتمامه أو نسفه من جذوره حال عدم التعاطي معها بجدية، كان على رأسها الواقع الاقتصادي المتردي الذي كان السبب الرئيسي في اشتعال الشرارة الأولى للثورة، ثم فقدان الثقة المتبادلة بين طرفي النزاع على السلطة، هذا بخلاف الضغوط المحتمل ممارستها من القوى الخارجية لا سيما المناهضة للثورة التي تدعم المجلس العسكري بكل ثقلها على رأسها السعودية والإمارات.
هذه التحديات تعززت بشكل كبير بما كشفه المجلس الانتقالي قبل يومين بشأن إحباطه محاولة انقلابية قام بها عدد من منتسبي المؤسسة العسكرية من ضباط حاليّين وضباط محالين إلى التقاعد، وذلك عبر بيان مقتضب لم يتطرق إلى تفاصيل بشأن هوية الانقلابيين ورتبهم العسكرية إلى جانب عدم وجود معلومات عن مواقعهم في هيكلية الجيش.
الفريق أوّل ركن جمال عمر، عضو المجلس العسكري، الذي أعلن في خطاب متلفز نبأ فشل المحاولة الانقلابية في كلمة مباشرة بثّها التليفزيون الرّسمي لم يذكر مثلاً متى وقع الانقلاب، ولا هويات المشاركين فيها، فيما أعلن أنه سيتم تقديمهم إلى المحاكم، هذا الغموض في تفاصيل البيان أثار الكثير من التساؤلات لدى رجل الشارع.
البعض ذهب إلى أن ما حدث لا يعدو كونه رسالة أراد العسكر إيصالها للقوى المدنية للتحذير من التمادي في الضغوط الميدانية عبر تعزيز الحراك الثوري، وأن المجلس سيقف بالمرصاد لكل من يحاول تشويه صورته، خاصة بعد مئات المقاطع المصورة التي تم بثها على مواقع التواصل الاجتماعي عقب عودة الإنترنت التي تسجل وتوثق المجازر التي ارتكبها العسكر بحق المعتصمين.
آخرون ذهبوا إلى أن ما حدث يكشف وبصورة واضحة صراع مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية، ومنها ما يتعلق بالصراع الفكري والإيديولوجي داخل الجيش الذي جاء إثر المنافسة الحادة بين ديكتاتور العقود الثلاث الأخيرة البشير، وحلفائه السابقين من القوى الإسلامية الذي أطاح بهم خلال فترة العقدين الأخيرين من حكمه، وفق ما ذهب إليه الخبير الألماني في الشؤون السودانية توبياس زيمون.
زيمون أشار إلى أنه في السنوات الأخيرة ظهرت عدة تناقضات ذات طابع مختلف، فمن جانب كان البشير ونظامه قريبًا جدًا من قطر وتركيا وكان يتمتع بدعم الدولتين، شارك الجيش السوداني أيضًا في حرب اليمن لصالح موقف السعودية والإمارات، وهو أمر من الممكن أن يكون قد ترك مخلفات داخل الجيش، ما يمكن أن يثير صراعًا بين قوى الأمس وميزان القوى اليوم، وفق تصريحاته لـDW عربية، التي كشف فيها أن الوضع داخل المؤسسة العسكرية السودانية لم يكن على قلب رجل واحد كما يصوروا.
محاولة الانقلاب الغامضة، شحيحية المعلومات والبيانات، يبدو أنها لن تكون نهاية المطاف، هذا إن لم تضع القيادة العسكرية السودانية حدًا لها بكشف أسماء المشاركين فيها ومن يقف خلفهم، كما أنها لن تكون الأخيرة في مسلسل الانقلابات في السودان.
وفي المجمل، يبدو أن الأوضاع لن تهدأ في القريب العاجل وأن الطريق نحو تفعيل الاتفاق المزعوم لن يكون مفروشًا بالورود في ظل القنابل الموقوتة التي تعترض طريقه، وبين عناد العسكر وإصرار المحتجين يبقى الشارع السوداني مشتعلاً لحين إشعار آخر، تكون الغلبة فيه لأصحاب النفس الطويل.