دخلت سوريا منذ سقوط الأسد مرحلة جديدة من التفاعلات السياسية والدبلوماسية والإقليمية والدولية، حيث أصبحت محورًا لسلسلة اجتماعات تهدف إلى رسم ملامح المرحلة المقبلة. ورغم تعقّد المشهد وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، تتسارع الخطى نحو بلورة إطار شامل للحل السياسي.
تكتسب هذه الاجتماعات أهمية كبيرة كونها تعكس تغيّرًا في طبيعة التوازنات الإقليمية والدولية تجاه القضية السورية، وتفتح الباب أمام احتمالات جديدة للتواصل مع الإدارة السورية الجديدة. لذا نستعرض في هذا التقرير تفاصيل تلك الاجتماعات وأبعادها في تشكيل مستقبل سوريا.
اجتماع العقبة: محاولة لفرض وصاية على منجزات الثورة
عُقد اجتماع العقبة في الأردن يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بعد حوالي أسبوع من هروب بشار الأسد من دمشق إلى روسيا، ليكون أولى الخطوات في سلسلة اجتماعات إقليمية ودولية لمناقشة تداعيات التغيير السياسي في سوريا.
شارك في الاجتماع ممثلون عن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمبعوث الأممي الخاص بسوريا، كما حضر أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التي تضم الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، إضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبمشاركة وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين وتركيا.
ركز الاجتماع على “احترام إرادة الشعب السوري وخياراته”، ودعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك البدء بتنفيذ الخطوات التي حددها القرار للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد، عبر انتخابات حرة تشرف عليها الأمم المتحدة.
ندّد البيان المشترك الذي صدر عقب الاجتماع بالتوغل الإسرائيلي في مدينة القنيطرة، فيما دعا إلى دعم عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
ومع ذلك، أعربت شريحة واسعة من السوريين عن رفضها لمخرجات هذا الاجتماع، معتبرةً إياها محاولة لفرض وصاية دولية على سوريا والتفافًا على منجزات الثورة، كما أثار تساؤلات عديدة حول نوايا المجتمعين ومدى جدّيتهم في احترام خيارات السوريين ودعمهم لسوريا الجديدة، بالأخص في ظل غياب تمثيل المعارضة السورية التي أسقطت نظام الأسد، واستبعادها بشكل يثير الشكوك.
وأشار المفكر السياسي برهان غليون إلى أن عقد الاجتماع في العقبة، بحضور دول دعمت نظام الأسد، دون مشاركة السوريين، “يوحي بإرادة فرض الوصاية ويُظهر الاجتماع كمؤامرة أكثر من كونه تضامنًا مع السوريين”.
اجتماع روما: مساعٍ غربية لتوحيد الرؤى
الاجتماع الثاني عُقد في روما يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بمشاركة وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، لتقييم التطورات الأخيرة بعد سقوط النظام، مع التركيز على دعم الانتقال السياسي في البلاد وصياغة رؤية أوروبية مشتركة لضمان حماية المصالح الغربية في المنطقة.
تمحور الاجتماع حول مراجعة المواقف الدولية بشأن سوريا، في أعقاب زيارة رئيسة الوزراء الألمانية آنا لينا بيربوك إلى دمشق يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2024، فيما ركز المجتمعون على تنسيق الجهود لتحقيق انتقال سياسي شامل ومستدام، وتوحيد الرؤى بشأن مستقبل سوريا، مع الالتزام الكامل بالإطار المرجعي الذي حدده قرار مجلس الأمن رقم 2254.
وشدّدوا على ضرورة إطلاق خطوات عملية لإعادة بناء مؤسسات الدولة السورية، وتوفير بيئة آمنة تمهّد لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يضمن تمثيل جميع مكونات الشعب السوري ومغادرة “المقاتلين الإرهابيين الأجانب”.
ومن أبرز ما تمّت مناقشته، كان التنسيق الأوروبي الأمريكي فيما يتعلق بإعادة الإعمار ورفع العقوبات عن سوريا بشكل “مشروط بإنجازات ملموسة على صعيد الحل السياسي”.
وأكّد وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاياني، على أهمية معالجة مسألة العقوبات المفروضة على سوريا، قائلًا إن “العقوبات اليوم ليست أمرًا مفروغًا منه لأن الأوضاع السياسية تغيّرت”.
كما أشار وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، في تصريح إذاعي منفصل، إلى أن بعض العقوبات المفروضة على سوريا “قد تُرفع سريعًا”.
اجتماع الرياض: نقطة تحول بمشاركة سورية
حقق اجتماع الرياض يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2024، تغييرًا بارزًا عمّا سبقه، بعد مشاركة وزير الخارجية السوري الجديد أسعد الشيباني لأول مرة، إلى جانب وزراء خارجية وممثلي 17 دولة.
ويشكّل هذا الاجتماع خطوة نوعية في الجهود الدولية والإقليمية، لرسم ملامح المرحلة المقبلة في سوريا، بالتواصل مباشرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام الأسد.
ناقش الاجتماع مساعي تحقيق الاستقرار بمشاركة كل الأطراف الأجنبية والعربية لدعم تطلعات الشعب السوري بكافة أطيافه، بحضور وزراء خارجية تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، والعراق ولبنان والأردن ومصر وبريطانيا وألمانيا، في حين شاركت الولايات المتحدة وإيطاليا على مستوى نائب وزير الخارجية.
وسعت الدول المشاركة إلى استكشاف استعداد الحكومة السورية الجديدة، للتعاون في تنفيذ مسار سياسي شامل يضمن الاستقرار وعودة آمنة للاجئين.
وأكد الشيباني في كلمته أن “ما خلفه النظام السابق من إرث ثقيل، من فساد إداري ومالي، ومن هياكل مؤسساتية عفا عليها الزمن، يتطلب منا جهدًا استثنائيًا لإعادة بنائها بشكل شامل”، وقال: “إننا في الإدارة السورية الجديدة نعتبر أن المشاركة الواسعة لجميع الفئات في الحياة السياسة والاجتماعية تمثل حقًّا دستوريًا لكل سوري، فنحن ندعو الجميع إلى المشاركة الفعّالة في بناء سوريا المستقبل”.
تركزت النقاشات في الاجتماع على كيفية دعم إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية بشكل يعزز قدرتها على توفير الخدمات الأساسية، وتنسيق الجهود لرفع العقوبات عن سوريا، إذ طالب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان كافة، الأطراف الدولية برفع العقوبات الأحادية والأممية المفروضة على سوريا، والبدء عاجلًا بتقديم كافة أوجه الدعم الإنساني والاقتصادي.
في السياق ذاته، كانت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، قد قالت في وقت سابق عبر منصة “إكس” إن “تخفيف العقوبات عن سوريا مدرج على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي”، كما عبّرت عن تطلعها للمشاركة في اجتماع الرياض، وعزمها على تبادل وجهات النظر مع وزراء خارجية دول الخليج والشرق الأوسط خلال الاجتماع.
وصرّحت وزيرة الخارجية الألمانية آنا لينا بيربوك، إن العقوبات المفروضة على حلفاء بشار الأسد الذين “ارتكبوا جرائم خطيرة” يجب أن تظل قائمة، مشيرة إلى أن برلين اقترحت “نهجًا ذكيًا لإزالة جزئية للعقوبات، حتى يتسنى للشعب السوري الشعور بانفراجة بعض الشيء”.
اجتماع بروكسل: نقاشات تمهيدية في ملف العقوبات
من المتوقع أن يشكل اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، المقرر عقده في 27 يناير/ كانون الثاني 2025، نقطة تحول في سياسة العقوبات الأوروبية تجاه سوريا.
وحسب وثيقة اطّلعت عليها وكالة “رويترز”، دعت 6 دول أوروبية هي ألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا وفنلندا والدنمارك، تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، وإجراء تسهيلات في قطاعات حيوية مثل النقل والنفط والغاز وبعض الأنشطة المصرفية.
وأكدت الوثيقة، التي من المتوقع مناقشتها في اجتماع بروكسل القادم، على أهمية بحث مسألة رفع العقوبات عن هيئة تحرير الشام على مستوى الأمم المتحدة، وذلك بالتنسيق مع الشركاء الدوليين المقربين، مع الإبقاء على العقوبات المفروضة على إدارة الأسد وداعميه.
إلا أن الاتحاد يربط القرار بشروط معقدة، أبرزها تنفيذ تدابير تحترم حقوق الإنسان، وحماية الأقليات، وضمان تمثيل المرأة في الهيئات السياسية، حيث أوضحت كايا كالاس، خلال لقائها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على هامش مؤتمر الرياض، أن الاتحاد الأوروبي يتطلع إلى:
- تشكيل حكومة جامعة تضم كافة الأطياف السورية.
- حماية حقوق الأقليات والمرأة.
- ضمان انتقال سياسي حقيقي يحترم تطلعات الشعب السوري.
وشددت كالاس على أن العقوبات ستظل أداة ضغط لضمان تنفيذ هذه الإصلاحات بشكل كامل وفعّال.
وفي حال نجاح هذا الاجتماع، قد يمثل خطوة نحو بناء علاقة جديدة بين سوريا والمجتمع الدولي، ما قد يساهم في تحقيق استقرار يمهّد لإعادة دمج سوريا في النظام العالمي.
كما يفتح هذا التقاطع بين الدعم الدولي والسعي المحلي الباب أمام مرحلة من البناء، حال استطاعت الإدارة السورية الجديدة تحقيق انتقال سلمي يلبّي تطلعات الشعب السوري، مع حل الفصائل المسلحة وضبط السلاح تحت سيطرة الدولة، بالإضافة إلى إطلاق حوار وطني شامل لإعداد دستور جديد.
هذه الخطوات لا تشكل فقط جوهر المطالب دولية، إنما أيضًا شروط أساسية لضمان استقرار البلاد، وتحقيقها لن يسهم فقط في رفع العقوبات، بل سيضع سوريا على أولى الخطوات في مسار التعافي.