منذ سقوط نظام الأسد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لوثائق استخبارية، وضع سوريون أيديهم عليها بعد دخولهم الأفرع الأمنية، لتكشفت تلك الوثائق أن أعين المخابرات في عهد الأسد المخلوع كانت تراقب كل شيء، وأن حياة السوريين بتفاصيلها الدقيقة كانت موضوعة تحت مجهر المراقبة المستمرة دون أن يعرفوا ذلك.
اللافت في تلك الوثائق هو حجمها المرعب، إذ توزعت على مستودعات كبيرة تتبع للأفرع الأمنية، وهو ما يفسر عمليات الاعتقال الواسعة التي كانت تجري بحق السوريين، وتقويض تحركاتهم وحريتهم، في ظل اعتماد النظام الكامل على قبضة تلك الأفرع الحديدية المتغلغلة بأدق تفاصيل حياة السوريين الخاصة والعامة.
آلية مراقبة ممنهجة
اعتمدت الأجهزة الأمنية على آلية مراقبة ممنهجة ومنظّمة، ساهمت في تطويق الحركة المجتمعية والسيطرة على جميع جوانب الحياة اليومية العادية للمجتمع، إذ لم تخل دائرة خدمية أو مؤسسة حكومية أو حتى خاصة، من أعين المخبرين لمراقبة أفرادها ونشاط عملهم بشكل دقيق وشامل دون ترك أي تفصيل صغير.
ومن غاب عن تلك الأعين تكفّل فرع الاتصالات أو ما يعرف بـ”الفرع 255″ بالتجسس على مكالماته الهاتفية الأرضية والنقالة، دون أي مراعاة للخصوصية، فأبسط الشبهات كفيلة باعتقال الكبير والصغير.
وهناك ما يعرف بـ”التجسس المسحي أو المناطقي”، أي التنصت على مكالمات السوريين في منطقة تشهد أحداثًا عسكرية أو أمنية، ما يعني التسبب في اعتقال عدد كبير بناءً على كلمات معينة متداولة في المكالمات تستغلها المخابرات.
فيما يعرّف الأسلوب الثالث بـ”التنصت التسلسلي”، بمعنى وضع الأجهزة النقالة بشكل تسلسلي للأرقام من قبل فرع الاتصالات للتنصت، وغالبًا ما كان يجري التنصت يوميًا على قرابة 4 آلاف مكالمة، يدوّن محتواها ثم يرفق برقم خط الهاتف ومنطقة التغطية، ويطلب الحصول على مالك الرقم، ويرفق كل ذلك ضمن ملف أمني يرسل إلى الفرع المختص لملاحقة المطلوبين.
وقد نُظمت هذه الآلية ضمن تصنيفات كبيرة مرقّمة وفهرسة دقيقة، فيها جميع البيانات اللازمة والمحدّثة بين الفترة والأخرى للشخص المراقب أو الجماعات أو الكيانات سواء داخل سوريا أم خارجها، من خلال المخبرين المنتشرين في المدن والقرى وخاصة الأسواق والجامعات والتجمعات السكنية والمساجد والحدائق، إذ تحول هؤلاء المخبرون إلى شبكات كبرى انتشرت على نطاق واسع وكانت سببًا رئيسًا في عمليات اعتقال ضخمة.
كما أظهرت الكثير من الوثائق كيف أجبر نظام الأسد أفراد العائلة الواحدة على مراقبة بعضهم، وشجع الوشاية على الأقارب والجيران والأصدقاء، كما كشفت أسماء المناهضين للنظام المخلوع والمهجرين إلى الشمال السوري، وحتى اللاجئين في دول كتركيا ولبنان والأردن.
وحملت الكثير من الأوراق والوثائق ختم “سري للغاية”، الذي يعني مستوى تصنيف أمني عالٍ للشخص المراقب، وأنها ذات معلومات حساسة ودقيقة متعلقة بتهديد أمن الدولة، فيما تنوعت عناوين السجلات ما بين سجل “أسماء من يرتاد الجوامع وخاصة عند صلاة الفجر”، سجل “الفكر السلفي”، سجل “عبدة الشيطان”، سجل “خريجي الشريعة”، سجل “المخبرين” والكثير من السجلات الأخرى.
الوثائق تحكي الكثير
من خلال تسجيل الأفرع الأمنية تفاصيل دقيقة عن حياة المشتبه بهم عن طريق التجسس الهاتفي أو اختراق أجهزة الحواسيب الشخصية أو عبر الجواسيس، خرجت تقارير مرعبة أعدها المخبرون بروايات شاملة ودقيقة، كرواية قيام والدة مشتبه به بإصلاح سيارتها في مرآب معين، وزيارة مشتبه به آخر لأقاربه بشكل منتظم.
والأكثر دهشة من ذلك العثور على تقرير أمني ضمن مكتبة عملاقة أرشيفية سرية يوضح ممارسة رجال المخابرات رقابة على منشورات وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص معارضين لنظام الأسد البائد، وذلك عبر تصوير المنشورات والإعجابات لتوثيق مناسبتها والتعليقات عليها وأسماء المعلِّقين، وعلى أساسها جرى اعتقال وملاحقة أصحابها، فقد جاء في تقرير أمني: “المدعو فلان أعجب برمز الضحك بعد شتم السيد الرئيس”.
كذلك بيّنت إحدى الوثائق ملاحقة مخبر أمني لأحد السوريين في مدينته والتقاط صورة له مع أصدقائه داخل مطعم، أما الحادثة الأبرز التي كشفتها وثيقة أمنية، وتوضح ممارسة الرقابة حتى على الأطفال، فهي اعتقال طفل في الـ12 من عمره لأنه مزق صورة لبشار الأسد ورماها في القمامة، بعد وشاية من معلمه.
وفي حادثة أخرى تمّ توثيق اعتقال صبي في الـ15 من عمره عند نقطة تفتيش عام 2015، بعد العثور على مقطع فيديو على هاتفه اعتُقد أنه “يسيئ للأسد”، حيث قُدّم الصبي للتحقيق وانتزعت منه اعترافات بعد تعذيب نفسي وجسدي عن 70 شخصًا من أصدقاء وأقارب له في الحي معارضين للأسد، شملت تلك الاعترافات معلومات دقيقة عن أعمارهم، وطبيعة أنشطتهم، وحتى أوصاف ملابسهم.
ويكشف محضر تحقيق آخر مع أحد المشتبه بهم في عام 2015، أنه بعد عثور المخابرات على فيديو بهاتفه “يسخر من شخص الرئيس”، قدم المشتبه به، وهو مقاتل سابق، تفاصيل عن 70 شخصًا بما في ذلك أعمارهم وطول لحية المقاتلين، كما قدّم وصفًا للون الحذاء الرياضي لوسيط رشاه لوضعه على قائمة المقاتلين السابقين الذين تصالحوا مع النظام.
“سنونوات” و”عصافير” الرعب
يطلق مصطلح “السنونوات” في الأدبيات السياسية الإيرانية على النساء والفتيات اللاتي تجندهن أجهزة الاستخبارات الإيرانية للإيقاع بالمعارضين، وهو مصطلح متداول بكثرة هناك، لما شكلت تلك “السنونوات” من مساهمات فعالة في الإيقاع بمعارضين إيرانيين حتى لو كانوا خارج إيران.
ويبدو أن نظام الأسد المخلوع لم يوفّر حتى النساء والفتيات من اصطياد المعارضين، فحسب وثيقة أمنية أن امرأة من عائلة متوسطة أشارت للمخابرات إلى أن لديها مصدرًا داخل المعارضة يملك معلومات ثمينة عن الإرهابيين – حسب وصفها – تعطي الملفات السرية صورة عن الفساد، داخل مؤسسات الأمن.
فيما كشف تقرير كتب عام 2016 وموجّه إلى رئيس شعبة المخابرات السياسية في حمص، أن فتاة كانت تتجسس على أفراد عائلتها، وأن عددًا من المعلومات تم التحقيق فيها والتأكد من صحتها، كما أخبرت عن عدم قدرتها على زيارة فرع المخابرات السياسية خوفًا من اكتشاف عائلتها، وتعرض حياتها للخطر.
يشير تقرير نشره موقع “صنداي تايمز”، إلى أن السوريين كانوا كثيرًا ما يستخدمون مصطلح “العصافير”، للإشارة إلى الجواسيس والمخبرين الذين يتجسسون على مواطنيهم من أجل المال أو السلطة أو لأسباب أيديولوجية.
لكن من غير المعروف عددهم، إلا أن الوثائق تظهر أن كثرتهم في المجتمع أدت حتى لتجسسهم على بعضهم بعضًا، أحيانًا دون علمهم، إضافة لكون بعضهم جزءًا من حركة الاحتجاج عام 2011، ثم تمكّنهم من اختراق مجموعات مسلحة معارضة التي انتشرت بعد ذلك خلال سنوات الحرب.
وقد بينت عدة وثائق اعتقالهم من الأفرع الأمنية للاستجواب، قبل أن يطلق سراحهم بعد اكتشاف أنهم عملاء سريّون لأجهزة الأمن، مع ملاحظة بقاء الأفرع الأمنية متخوفة منهم خشية أن يكونوا عملاء مزدوجين.
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار العميد عبد الله الأسعد، إلى أن نظام الأسد المخلوع منذ عهد والده كان قائمًا على التجسس على السوريين، لأنه يعرف يقينًا أنه غير مؤهل لقيادة السوريين لذلك رسخ حكمه بفكرة “فرق تسد”.
وعزا العميد الأسعد ذلك إلى رغبة الأسد بإحداث شرخ في المجتمع السوري والبنية المجتمعية والأسرية، والدخول السلبي في العادات والتقاليد وخصوصيات المجتمع المدني والبدوي وتخريب أسسه، عبر وضع المهمشين والمتأخرين دراسيًا وعقليًا في مراكز حساسة ثم ضرب طوق من الخوف حولهم تارة ليمارسوا أفعالًا جاسوسية حتى لو انتهكوا العادات والتقاليد والأعراف الدينية والقانونية، وبذلك أصبحت الجاسوسية سمة المجتمع.
ويشترك الخبير في الشؤون الأمنية، نوار شعبان، في أن ظروف استلام الأسد الأب الحكم عبر انقلاب عسكري ثم الانقلاب على أصدقائه، كان كفيلًا بوضع أسس عملية المراقبة الدقيقة والتجسس الشديد، لذلك وجد أن التضييق الأمني هو الأداة المناسبة للشرائح المجتمعية الموالية له والمعارضة.
مضيفًا لـ”نون بوست”، أن السبب بذلك أيضًا هو إدراكه أن تثبيت سلطته لا يكون إلا بالاعتماد على دوائر معينة مقربة منه، والتي ارتأت ممارسة رقابة صارمة على كل الشرائح الاجتماعية وعملها ونشاطها سواء التجاري أو التعليمي أو الرياضي أو الفني أو المدني، أو حتى العسكري والأمني الذي كان مطوقًا أيضًا بالمراقبة من أجهزة أكثر ولاءً وقربًا من البيت الحاكم، وهو ما جعل مبدأ خروج العنصر من تلك الدائرة المخابراتية أشبه بالمستحيل والموت بآن واحد.
عقلية “الغستابو” الألماني
أثارت الملفات المكتشفة ومشاهد تكدسها في رفوف عملاقة وطويلة، لا سيما تلك التي تعود لثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم استياءً واسعًا، تجاه البيروقراطية المبالغ بها التي تتسم بها المخابرات السورية، إذ إنه كيف للأجهزة الأمنية أن تدير الدولة بنظم إدارية تعود للقرن الماضي، في وقت صارت فيه النظم التكنولوجية والذكاء الاصطناعي هي الأساس في عمل المخابرات.
أم أنّ تحسّب تلك الأفرع وخوفها من عمليات التجسس والهاكر عبر منصة الإنترنت هو ما دعاها للمداومة على الطرق التقليدية في عمليات الحفظ والرصد والمراقبة والتجسس كطرق النازيين وجهاز الشرطة السرية النازية في ألمانيا “الغستابو”، الذي تستلهم منه الأفرع الأمنية السورية كل التكتيات والوظائف والأساليب المشابهة، وخاصة كتابة التقارير التي تجمع عادة من مواطنيين عاديين، كالبائعين المتجولين وسائقي سيارات الأجرة القادرين على تناول المعلومات التفصيلية بدقة.
من المعروف أن حافظ الأسد كان يتميز باستضافته للقيادي النازي مع ألويس برونر، وهو ضابط عمل نائبًا لرئيس قوات الحماية الخاصة النازية، كان قد هرب إلى سوريا (أيام الوحدة مع مصر، وبقي في سوريا حتى توفي فيها عام 2010) ووضع نفسه في خدمة المخابرات السورية وساهم ببناء منظومة الأسد العنيفة بما فيها من مناهج القمع والتجسس.
يشير الباحث شعبان إلى أن “الغستابو” الذي يتميز بشبكة واسعة من المخبرين عندما يذكر عادة، يذكر كنموذج للشرطة السرية المستبدة، خاصة أنه لعب دورًا حاسمًا في تنفيذ الهولوكوست وإرهاب المعارضين للنظام النازي، ما ساهم في تثبيت الديكتاتورية النازية مستخدمًا تكتيكات مثل التعذيب، والمراقبة، والتجسس لإخضاع السكان وقمع المعارضة.
وبالمثل فقد كانت الأجهزة الأمنية السورية نسخة طبق الأصل من هذا الجهاز، من حيث الأبنية تحت الأرض والصلاحيات المطلقة وغير المراقبة قانونيًا، حتى باتت القلب المركزي لإدارة البلاد وضرب المعارضين للنظام بأقسى الوسائل، بعد تمكنها بقدرة فريدة من جمع وتنظيم وتحليل الكميات الهائلة من المعلومات التي كانت تتجمع لديها عن الجهات التي كان تخضعها للمراقبة، حسب الباحث شعبان.
لكن شعبان يؤكد أن هذا الأرشيف العملاق والتفاصيل الشخصية لحياة الشخص المستهدف بحذافيرها هو أسلوب تخطى أساليب الأنظمة الديكتاتورية، لأن الرصد تعدى لمراقبة المقربين بدءًا من عائلته وصولًا للدائرة الأبعد من أصدقائه وجيرانه، وحتى أصدقائه المنسيين أو الأشخاص الذين يقيم معهم علاقة اجتماعية عابرة، وهذا ما يمكن وصفه بأنه أعنف أدوات الدكتاتورية البوليسية المتوحشة.
ماخور الاستخبارات العالمية
تعرف الأجهزة الأمنية السورية بأنها ماخور الأجهزة الاستخباراتية العالمية، لأنها تقوم بأعمال متوحشة لا يمكن أن تقوم بها تلك الأجهزة العالمية المتقدمة بسبب القيود القانونية في دولها.
وحسب ما كشفته منظمة حقوقية أمريكية، فإنّ سوريا واحدة من 54 بلدًا شاركت في برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وهو برنامج خاص بتسليم المعتقلين وتعذيبهم في السجون السوداء بأساليب مختلفة، بما في ذلك فتح سجون سرية على أراضيها والمساهمة في القبض على المشتبه بهم ونقلهم واستجوابهم وتعذيبهم وتقديم المعلومات الاستخباراتية وفتح مجالها الجوي للرحلات السرية.
وباعتبار أن النظام المخلوع قدم نفسه كوكيل أمني في المنطقة يمتلك قاعدة بيانات ضخمة، وأرشيفًا لكل المطلوبين والخطرين بالاعتماد على آلية مراقبة ممنهجة تدخل بيوت السوريين والتفلت من أي قيود قانونية، بات يعلم يقينًا أن استدامة وجوده مرتبطة بهذه المنظومة المتوحشة.
لكن مع سقوطه وتكشف الحقائق والأدلة عن هذا الكم الهائل من الوثائق والأوراق الأمنية والأرشيف المرعب التي يحوي قصص حياة مئات آلاف السوريين، وأسباب وظروف اعتقالهم، كانت الدعوات مكثفة للحفاظ على هذا الأرشيف وجمعه بمكان آمن بعيدًا عن البعثرة والعبث، باعتباره دليلًا على جرائم الأسد المخلوع وأركان نظامه التي ارتكبت جرائم حرب بحق الشعب السوري على مدى عقود وليس فقط خلال الـ14 سنة الماضية.