تشكّل العملية العسكرية الأخيرة في بيت حانون مشهدًا صارخًا يعكس الفشل الكبير لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد كشفت الأحداث الأمنية المتلاحقة في هذه المنطقة عن حجم الإخفاق الاستخباراتي والميداني الذي طغى على عمليات الجيش، خصوصًا أن بيت حانون كانت أولى محطات العدوان في إطار حرب الإبادة المستمرة.
وصف رئيس الأركان السابق والوزير المستقيل من مجلس الحرب غادي أيزنكوت، العمليات على الأرض بعد مرور سنة و4 أشهر بـ”الإخفاق”، عادًّا أنها مؤشر واضح على وجود خلل في خطة الحرب، كما أشار يوسي يهوشع، مراسل الشؤون العسكرية في “قناة i24” العبرية، إلى أن “الأمور لا تسير على ما يرام في غزة”، وأضاف أن الوضع الميداني يحتاج للمزيد من الاستيضاح مع استمرار العمليات، مستشهدًا بشهادات الجنود الذين يقاتلون شمال القطاع، والتي وصفها بـ”الصعبة للغاية”.
تحمل بيت حانون أهمية استراتيجية بالغة من حيث موقعها ومكانتها، وضراوة المعارك فيها، مقارنة بحجم المخططات الإسرائيلية التي جعلت منها الهدف الأول في العدوان، وفي طموحات قادة الاحتلال بتحويل بيت حانون إلى منطقة عازلة وأرضية لإعادة الاستيطان التي لم تصمد أمام زخم العمليات فيها، فيما تحمل أهمية استثنائية إلى جانب مواجهة المخططات الإسرائيلية، تمس جوانب أخرى مرتبطة بالقيمة المستقبلية للمناطق العازلة التي يسعى الاحتلال إلى فرضها، ضمن أي اتفاق مستقبلي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
معارك دامية و”بضاعتهم رُدّت إليهم”
خلال معارك بيت حانون، لم تنفك منصات المستوطنين تورد أرقام القتلى، ما بين 4 قتلى، تلاهم خمسة، ثم سبعة من جنود وضباط جيش الاحتلال وإصابة الآخرين بجروح متفاوتة، في خسائر تعدّ واحدة من أكبر الضربات التي تلقاها جيش الاحتلال منذ بداية العملية العسكرية في قطاع غزة.
وذكرت تقارير عبرية أن حدثًا وُصف بأنه “صعب جدًّا” وغير مسبوق وقع في قطاع غزة، إذ قتل 4 جنود من لواء “ناحال”، و2 من كتيبة “نتساح يهودا” التابعة للواء كفير، إضافة إلى قتيل من لواء “جفعاتي”، وفي وقت لاحق أكّد جيش الاحتلال مقتل 4 من ضباطه وجنوده وإصابة ضابط وجندي آخرين بجراح خطيرة، جرّاء مواجهات عنيفة في شمالي قطاع غزة.
حسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فإن إحدى العمليات الكبرى استهدفت موكبًا قياديًا كان يضم نائب قائد لواء “ناحال”، وقد مرّت القوة عبر طريق كان يفترض أنه آمن، قبل أن تتعرض لتفجير عبوة ناسفة شديدة القوة، تبعها إطلاق نار كثيف وقذائف صاروخية، كما أشارت إلى تحقيقات الجيش بشأن إمكانية استخدام المقاومين أنفاقًا لم تكتشف للوصول إلى موقع الاستهداف.
وفي تفاصيل عملية أخرى، أكدت الصحيفة أن جنود الجيش الاسرائيلي قُتلوا نتيجة وضع عبوة ناسفة قوية على مركبة عسكرية في بيت حانون، أعقبها هجوم بالأسلحة النارية.
منذ بداية الشهر الحالي، قُتل 15 جنديًا إسرائيليًا في معارك مع المقاومة في بيت حانون، ما يعكس تصاعدًا في الخسائر التي يتكبّدها الجيش الإسرائيلي مع استمرار العمليات العسكرية في القطاع.
نقلت صحيفة “معاريف” العبرية عن ضباط كبار بجيش الاحتلال أن آلاف الذخائر التي أسقطها سلاح الجو الإسرائيلي في قطاع غزة لم تنفجر، وأشارت الصحيفة إلى أن المقاومة تعيد استعمال تلك الذخائر في تصنيع عبوات ناسفة تستخدم ضد القوات الإسرائيلية.
ووفقًا للصحيفة، فإن نحو 10% من الصواريخ والقنابل التي أطلقها الجيش الإسرائيلي على غزة لم تنفجر، وفي بعض المناطق تصل هذه النسبة إلى أكثر من ذلك.
وقد أظهر مقاتلو المقاومة الفلسطينية القدرة على استغلال هذه الذخائر، إذ سبق أن استخدموا صاروخًا من نوع “جي بي يو” غير منفجر لتفخيخ منطقة وشنّ هجوم على قوة إسرائيلية، وأكد أحد مقاتلي القسام في تسجيل مصور: “بضاعتكم رُدّت إليكم”.
تمظهرات الفشل الذريع
في تقرير أعدّه ألموغ بوكير، مراسل “القناة 12” العبرية، نقل شهادات ميدانية لجنود جيش الاحتلال في بيت حانون، وصفوا فيها واقع القتال الصعب والمعقد، إذ قال أحد الجنود: “نقاتل في بيئة مراقبة بالكاميرات من قبل المسلحين، إذ زرعوا عبوات ناسفة في كل زقاق ويفعلونها من داخل الأنفاق. شبكتهم تحت الأرض تعمل بكامل طاقتها”.
تضيف الشهادات التي نقلها مراسل “القناة 12”: “منذ أسبوع ونصف لم نرَ المسلحين بالعين المجردة، ولم نتمكن من تحديد مواقعهم تحديدًا مباشرًا. لقد زرعوا بيت حانون بالكامل بكمية هائلة من العبوات الناسفة ومخلفات قنابل سلاح الجو، وكل زقاق وكل تقاطع مليء بأحدث الكاميرات، بما في ذلك كاميرات حرارية تغطي 360 درجة. إنهم يختارون أهدافهم بدقة ويرصدون تحركاتنا عبر الكاميرات. إذا كانت هناك طائرة مسيَّرة لا يفعّلون العبوات، أما إذا كانت هناك قوة عسكرية فيفعّلونها فورًا. وبمجرد وصول فرق الإنقاذ يخرجون لإطلاق النار عليها”.
وصف أيضًا محلل الشؤون السياسية في “القناة 12” العبرية، أمنون أبراموفيتش، العمليات العسكرية الإسرائيلية في شمالي قطاع غزة بأنها “مطاردة وراء أشباح”، وأكد صعوبة القضاء على جميع عناصر المقاومة، مشيرًا إلى أن الشهر الماضي شهد مقتل 16 جنديًا إسرائيليًا، دون احتساب المصابين بجروح خطيرة.
كانت بيت حانون هدفًا رئيسيًا في حرب الإبادة التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي وقربها من حاجز إيريز (بيت حانون) الذي يمثل بوابة القطاع الشمالية.
من جهته، أشار مراسل “القناة 14” العبرية إلى أن أسلوب العمليات العسكرية المطولة في شمالي القطاع قد باء بفشل ذريع، وأوضح أن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من منع المقاومة من إعادة بناء قدراتها أو إطلاق الصواريخ نحو مستوطنات الغلاف، كما أكد أن تزايد أعداد القتلى في صفوف الجيش يعكس فشلًا في استراتيجيات القيادة العسكرية ورئيس الأركان.
كشفت المعارك الأخيرة في بيت حانون عن قدرة نوعية لدى المقاومة على التأقلم مع ميادين القتال، واستخدام المستجدات الميدانية لخدمة الاحتياجات العملياتية، بما يتيح لها إعادة تشكيل مشهد المواجهة مع كل التحام مع جيش الاحتلال، مستندة إلى تكتيكات وأساليب جديدة.
إضافة إلى ذلك، إن وجود هذا القدر من المقاومين والبنية التحتية المجهّزة لاستهداف أرتال جيش الاحتلال المتقدمة، يعدّ دليلًا واضحًا على حجم الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في رصد المناطق القريبة من الحدود، خاصة أنها مناطق باتت مكشوفة بشكل كامل نتيجة التدمير الواسع لبنيتها الحضرية ومبانيها وحتى مزارعها وأشجارها، وتحولت إلى نقطة قوة تكتيكية للمقاومة.
بيت حانون لمحة تاريخية
تقع بيت حانون شمالي القطاع وتتبع محافظة شمال غزة، وترتفع عن سطح البحر 50 مترًا، ويحدّها من الشمال الشرقي خط الهدنة 1948، ومن الجنوب الغربي بلدة بيت لاهيا.
وتبعد عن مركز المحافظة 3 كيلومترات شرقًا، ويعدّ موقعها استراتيجيًا لعدة أسباب، من أبرزها وجود حاجز إيريز (بيت حانون) الذي يربط القطاع بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وقربها من مستوطنة سديروت في غلاف غزة، وموقعها على مقربة من السياج الحدودي الذي أقامته “إسرائيل”.
بيت حانون من المدن عالية الكثافة السكانية، وبلغ عدد سكانها عام 2023 حسب موسوعة القرى الفلسطينية 62 ألفًا و916 نسمة، وتعود أصول سكانها إلى مصر والخليل وحوران ووادي موسى وقبيلة الحويطات والعدوان، ويعرف أهلها بشهامتهم وشجاعتهم ونجدتهم للملهوفين.
تعدّ الزراعة النشاط الاقتصادي الرئيسي في بيت حانون، إذ إن 45% من أراضيها مخصصة للزراعة، وتشتهر بخضراواتها وحمضياتها وأشجار اللوز والتين والتفاح. ومع ذلك، تسبّب العدوان الإسرائيلي المتكرر في تجريف أراضيها الزراعية، فقد خسرت مساحات شاسعة منها. وخلال انتفاضة الأقصى في العام 2000، جرف الاحتلال 7 آلاف و500 دونم من أراضيها، واستهدف مساحات إضافية خلال جولات المواجهة المتكررة.
إلى جانب الزراعة، تضم بيت حانون منطقة صناعية تمتد على مساحة 261 دونمًا، وتضم صناعات متنوعة مثل الخرسانة والبلاط والأقمشة والبلاستيك والأدوية ومستحضرات التجميل، إضافة إلى الحدادة والنجارة، حيث تأثرت هذه الأنشطة بدرجة كبيرة نتيجة الحصار والعدوان الإسرائيلي.
احتُلَّت بيت حانون، كحال ما تبقى من قطاع غزة والضفة الغربية، في عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967 بعد هزيمة الجيش المصري، وبقيت تحت الاحتلال لمدة 38 عامًا، إلى أن انسحب الأخير في العام 2005 ضمن خطة فك الارتباط بغزة.
خلال انتفاضة الأقصى، لعبت بيت حانون دورًا بارزًا في المقاومة الشعبية والعسكرية، إذ شهدت البلدة مواجهات يومية مع قوات الاحتلال، وتعرضت أراضيها الزراعية لتجريف ممنهج، كما استخدم الاحتلال محيط البلدة لإقامة مواقعه العسكرية التي شكلت تهديدًا مستمرًّا للسكان.
شكلت بيت حانون محطة انطلاق رئيسية للعديد من العمليات الفدائية التي استهدفت مواقع جيش الاحتلال وتحصيناته شمال غزة، إضافة إلى الكمائن التي استهدفت قوافل وآليات جيش الاحتلال على الشريط الحدودي ومحيط موقع إيرز العسكري، كما شكلت المنطلق الأول لصواريخ المقاومة محلية الصنع في نماذجها الأولى.
في حرب العام 2008، كانت بيت حانون واحدة من أكثر المناطق تضررًا، إذ استهدفت بالقصف المدفعي والغارات الجوية، ما أدّى إلى تدمير مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والمنازل. وفي حرب العام 2012 تكرر المشهد مع قصف عنيف استهدف البنية التحتية والأحياء السكنية، ما أوقع عشرات الشهداء والجرحى.
وفي حرب العام 2014، عانت البلدة من أكبر موجة نزوح جماعي، فقد اضطرت آلاف العائلات إلى ترك منازلها بسبب القصف المستمر، إذ كان استهداف المنازل ممنهجًا، وأدّت هذه الحرب إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية، فيما قدمت المقاومة في بيت حانون نموذجًا أسطوريًا في المواجهة البرية مع جيش الاحتلال.
كانت أبرز عملياتها البطولية آنذاك عملية الإنزال خلف الخطوط على موقع الـ 16 العسكري، والتي أدت إلى مقتل 4 ضباط إسرائيليين في العملية، فيما حاول المقاومون خطف أحد الجنود، لكن سرعان ما فعّل “إجراء هنيبعل” الذي يلجأ إليه عند حدوث عملية خطف.
في حرب العام 2021، شكلت بيت حانون إحدى المناطق التي شهدت بداية العدوان الإسرائيلي، إذ قصفت بأكثر من 50 غارة جوية خلال الساعات الأولى، ما أسفر عن استشهاد عشرات المدنيين، كما تعرضت منازل المواطنين للاستهداف المباشر، في محاولات لتوسيع نطاق التدمير والترهيب.
الهدف الأول في حرب الإبادة
كانت بيت حانون هدفًا رئيسيًا في حرب الإبادة التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي وقربها من حاجز إيريز (بيت حانون) الذي يمثل بوابة القطاع الشمالية، عدا عن كونها نقطة انطلاق رئيسية لعملية “طوفان الأقصى”، الذي أثبته اكتشاف النفق الكبير الذي امتد من بيت حانون إلى جباليا، والذي لعب دورًا محوريًا في اقتحام موقع إيريز خلال العملية، والذي عقّبت عليه المقاومة بمقطع فيديو بعنوان “وصلتم متأخرين.. المهمة أُنجزت”.
لذا، واجهت بيت حانون دعوات صريحة بالإبادة الشاملة والمسح عن وجه الأرض، كما أنها كانت الهدف الأول لمطامع جماعات الاستيطان، ودعوات ضباط في الجيش الإسرائيلي حاليين ومتقاعدين إلى تحويلها إلى منطقة خالية من السكان، وإنهاء وجودها بوصفها مدينة على وجه الأرض.
مع انطلاق حرب الإبادة وبداية عملية جيش الاحتلال العسكرية الأولى التي استهدفت بيت حانون أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعرضت المدينة لقصف جوي يعدّ الأشرس، أعقبه غزو برّي في 27 أكتوبر/ تشرين الأول، وقد مثلت جولات القصف المكثف تمهيدًا لدخول الدبابات وناقلات الجنود، ما تسبّب في دمار واسع النطاق للبنية التحتية والمنازل.
في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أصدرت المقاومة بيانها الأول حول كمين أوقع خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال داخل البلدة، وأوضحت فيه أن “مجاهدي القسام استهدفوا قوة صهيونية دخلت مبنى تمّ الإعداد له مسبقًا، وتمّت تصفية القوة”، كما بثت القسام مقطعًا مصورًا يظهر إغارة مقاتليها من أحد الأنفاق على قوة للاحتلال بالقرب من السياج الفاصل في البلدة.
رغم إعلان الاحتلال في ديسمبر/ كانون الأول 2023 السيطرة على بيت حانون وتفكيك بنية المقاومة فيها، فإن المقاومة عادت لتفاجئ الجميع بكمائن متتالية أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي.
ففي الوقت الذي سعى فيه قادة الاحتلال إلى تحويل بيت حانون إلى نموذج أول للإبادة الشاملة، كان أهالي المدينة، كما مقاومتها، عناوين صمود وتمسُّك بالأرض بشكل غير مسبوق، ومع كل انسحاب إسرائيلي من بيت حانون، كان سكانها يهمّون بالعودة مباشرة إلى أماكن سكنهم، وإعادة استصلاح وترميم ما يمكن إصلاحه، وإعادة مظاهر الحياة إليها.
مع نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024، ومع توسيع الاحتلال عمليته العسكرية شمالي قطاع غزة لتطال بيت حانون بعد قتال دامٍ في مخيم جباليا، فاجأت المدينة العالم بقصف القدس المحتلة بصاروخين أُطلقا من بين آليات جيش الاحتلال المتقدمة، كما واجهت التقدم بتصدٍّ كبير ومؤثر، وفي بداية يناير/ كانون الثاني 2025 نفّذت المقاومة كمائن متتالية كبّدت نخبة ألوية الجيش الإسرائيلي خسائر تعدّ من الأكبر منذ بداية الحرب.
تعكس المعارك المستمرة في بيت حانون وشمالي القطاع صورة واضحة عن عجز جيش الاحتلال عن تحقيق أهدافه العسكرية، رغم تدميره الواسع للبنية التحتية واستهدافه المدنيين، فيما أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرتها على تطوير تكتيكاتها واستغلال نقاط ضعف الاحتلال، ما يجعل من خيارات استمرار الحرب هي خيارات شديدة الكلفة على “إسرائيل”.
وفي سياق المفاوضات الجارية حول وقف إطلاق النار، ومع إصرار الاحتلال على فرض مناطق عازلة، تؤكد المقاومة في بيت حانون أن مثل هذه المناطق لن تحمل أية قيمة عملياتية أمام عزيمة المقاومين وتصميمهم، حيث سيكونون أقوى من أية جدران أو خطط عسكرية ومناطق عازلة.