بدأت في مطلع الثمانينيات موجة جديدة من التطور التكنولوجي اتسمت بدخول الحوسبة الرقمية في المزيد من مناحي الحياة اليومية، وانتشرت الحواسيب، تبعًا لذلك، بما يتجاوز استخدامها التقليدي خلال العقود السابقة التي تلت اكتشاف هذه التقنية، حيث اقتصر استخدامها آنذاك على المؤسسات الحكومية والأجهزة العسكرية والأمنية وبعض المؤسسات الأكاديمية، وهو ما قاد، بالتبعية، إلى إنشاء سوق خاصة بالبرمجيات اعتمدت في قوامها على منتجين اثنين، الحواسيب نفسها (Hardware) من جهة، والأنظمة والبرمجيات المشغلة لها (Software) من جهة أخرى.
وإن كان بالإمكان حماية الأجهزة والماكينات من النسخ والتقليد من خلال قوانين الملكية الفكرية في مطلع الثمانينيات، إلا أن ذلك لم ينطبق على البرمجيات وأنظمة التشغيل، إذ وفرت (الهندسة العكسية) خيارًا للمنافسين تمثل بنسخ مميزات ووظائف البرمجيات وأنظمة التشغيل وإعادة إنتاجها مرة أخرى باستخدام أكواد برمجية مختلفة دون أي خوفٍ من الملاحقة القانونية، إذ لم تتطور قوانين الملكية الفكرية بعد للتماشي مع التطور المتسارع في سوق الحواسيب والبرمجيات.
هدِفت اتفاقيات ترخيص المستخدم النهائي بدايةً لفرض قيود خاصة على إجراء الهندسة العكسية (بما يشمل النفاذ إلى الكود المصدري للبرمجيات، وإضافة ميزات لها وإعادة بيعها أو حتى استخدامها بشكل شخصي)، وتقييد الحق في إعادة بيع ترخيص الاستخدام
تسبب هذا القصور القانوني في معضلةٍ لشركات البرمجيات التي عجزت في ظل قوانين الملكية الفكرية التقليدية عن حماية جهود مبرمجيها من السرقة، وحدَّت من قدرتها على ملاحقة ناسخي برامجها قضائيًا، حيث سيكون القضاء مجرد ثقب أسود يلتهم جهود الشركة ومواردها المالية، أدى هذا الوضع المعقد نهايةً إلى استدعاء شركات البرمجيات لحل قانوني قديم، تمثل في اتفاقية ترخيص المستخدم النهائي.
لم تضمن (اتفاقية ترخيص المستخدم النهائي) للشركات حفظ حقوق برامجها وحظر استخدام الهندسة العكسية فحسب، بل مكنتها لاحقًا من التوغل قانونيًا، ولو شكلًا على الأقل، إلى حقوق المستخدمين وخصوصيتهم، وهو الأمر الذي لم يبدُ حينها إلا تحولاً في طبيعة عقد الشراء المنظم لوصول المستخدمين للبرمجيات، من امتلاكهم لها، إلى امتلاك رخصةٍ لاستخدامها فحسب.
وإذ هدفت اتفاقيات ترخيص المستخدم النهائي بدايةً لفرض قيودٍ خاصةٍ على إجراء الهندسة العكسية (بما يشمل النفاذ إلى الكود المصدري للبرمجيات، وإضافة ميزات لها وإعادة بيعها أو حتى استخدامها بشكلٍ شخصي)، وتقييد الحق في إعادة بيع ترخيص الاستخدام، إلا أن بنودها أصبحت لاحقًا تنظم أمورًا عديدة، بدايةً من الاستخدام ومرورًا بالتخزين والنسخ وحفظ الحقوق والبرامج المجانية وحل الاسترداد والترقيات والنقل وحقوق الملكية وحدود المسؤولية، وانتهاءً بالقانون الحاكم للاتفاقية.
استكمالًا لما تنتهجه الشركات من توغل قانوني في مواجهة المستخدمين، فإنها عادةً ما ترفق بندًا ينص على إخلاء مسؤوليتها تجاه أي ضرر قد يتعرض له المستخدم بسبب المنتج
وتمنح أغلب اتفاقيات المستخدم النهائي التي يُوافَق عليها عادةً دون الاطلاع عليها، صلاحية للشركات لجمع بيانات ومعلومات تخص المستخدمين، فيما تنص بعض الاتفاقيات على حق الشركة في تجديد الاشتراك بشكل تلقائي، وسحب المال من حساب المستخدم البنكي دون أي تنبيه.
واستكمالًا لما تنتهجه الشركات من توغل قانوني في مواجهة المستخدمين، فإنها عادةً ما ترفق بندًا ينص على إخلاء مسؤوليتها تجاه أي ضرر قد يتعرض له المستخدم بسبب المنتج، كما ترفق بعض الشركات بنودًا خاصة ببعض الدول تتكيف مع القوانين المعمول بها، وتذهب بعض الشركات بعيدًا في هذا التوغل، إذ تُضمِّن اتفاقيتها بنودًا تنص على ضرورة التزام المستخدم بعدم انتقاد المُنتج بشكل علني، وإلا فإنه معرض للمقاضاة من قبلها.
إضافةً إلى ذلك فإن أغلب اتفاقيات ترخيص المستخدم النهائي تتضمن بندًا يمنح الشركة حقًا في تغيير شروط الاتفاقية وتعديلها، دون إشعار مسبق، وهذا ما تتبعه شركة آبل مثلًا في اتفاقيات ترخيص المستخدم النهائي الخاصة بمنتجاتها وبرامج تشغيلها.
استخدام الاتفاقية لا يقتصر على شركات البرمجة فقط، بل يمتد ليشمل شركات تقدم منتجات وخدمات مختلفة، تهدف وعبر الاتفاقية إلى شرعنة وقوننة كل ممارسات الشركة وتوغلها تجاه المستخدمين وحقوقهم
اتفاقيات ترخيص المستخدم النهائي، وإن كانت عقودًا قانونيةً ذات غرضٍ إعلامي بين مستخدم منتج أو خدمة ومزود يمنح الترخيص لاستخدامه، إلا أن مبنى بنودها إجبارية ويتم صياغتها بالعادة من القسم القانوني للشركة، وهي بنود غير قابلة للتفاوض مع المستخدم، وللمستخدم إما الرفض أو القبول، واستخدام الاتفاقية لا يقتصر على شركات البرمجة فقط، بل يمتد ليشمل شركات تقدم منتجات وخدمات مختلفة، تهدف وعبر الاتفاقية إلى شرعنة وقوننة كل ممارسات الشركة وتوغلها تجاه المستخدمين وحقوقهم، ولكن ماذا إن كان من يسيء استخدام الاتفاقية دولةً وكان المنتج الذي تُساء استخدام اتفاقيته أكثر خطرًا من مجرد مجموعة من الأكواد البرمجية؟
سلاح غير شرعي: انتهاك شهادات المستخدم النهائي
أبريل من العام 2015، وفي قرية “لج عبد الله” اليمنية، أقصى الشمال الغربي من العاصمة صنعاء، يُظهر تسجيل مصور نشره مقاتلون حوثيون اغتنامهم لأسلحة هجومية، بعد نجاحهم في إسقاط طائرةٍ تابعةٍ لقوات التحالف العربي كانت تقوم بإيصالها عبر إنزال جوي إلى مليشيا محلية تابعة لها، تنوعت الغنائم ما بين رشاشات ألمانية الصنع، وأخرى تُصنعها السعودية بموجب رخصة من شركة (هكلر آند كوخ) الألمانية.
أبرز تلك التحقيقات كان فيلمًا وثائقيًا نشرته فضائية “دويتشه فيله” بنسختها العربية، من إعداد الصحفي المصري محمد أبو الغيط، وإنتاج شبكة “أريج للصحافة الاستقصائية”
لم يتوقف تأثير الفيديو والعملية نفسها عند حدود الخسارة الميدانية، إذ وجدت السعودية نفسها أمام مساءلة ألمانية رسمية عن انتهاكها لاتفاقية شهادة المستخدم النهائي الموقعة بينها وبين شركات أسلحة ألمانية، الشهادة التي تُعد بمثابة التزام قانوني دولي يلزم الطرف المُشتري بعدم تحويل السلاح إلى طرفٍ آخر، وهو ما أظهرت تقارير وتحقيقات صحفية عدة انتهاك السعودية والإمارات له في اليمن وفي سوريا من قبلها.
أبرز تلك التحقيقات، كان فيلمًا وثائقيًا نشرته فضائية “دويتشه فيله” بنسختها العربية، من إعداد الصحفي المصري محمد أبو الغيط، وإنتاج شبكة “أريج للصحافة الاستقصائية”، الفيلم الذي حمل اسم “المستخدم الأخير”، يُظهر نتائج جهد تعقبي قام به الصحفي أبو الغيط على مدار عام كامل، تتبع فيه مسار أرقام مسلسلة لأسلحة غربية حديثة تُشكل الذخيرة الأساس للمجموعات المسلحة المدعومة من التحالف العربي في اليمن، تضمنت تلك الأسلحة: مدرعات أمريكية وكاسحات ألغام بريطانية ورشاشات ألمانية وبلجيكية زبنادق قنص نمساوية وبنادق هجومية بلغارية وقنابل سويسرية وقذائف صواريخ إسبانية وقذائف (RBG – 32) المُصنعة في الأردن تعاونًا مع شركة روسية.
معظم تلك الأسلحة جزء من ذخيرة جيشي السعودية والإمارات، ولم يحصل عليها زبائن في المنطقة سواهما، وهذا ما أكدته أغلب الشركات في ردها على المزاعم التي أشارت إلى انتهاك السعودية والإمارات لشهادات المستخدم النهائي الموقعة معها.
السعودية التي لم تفق من تبعات تحقيق “دويتشه فيله”، المتزامن مع تقارير أممية تدين جرائمها الإنسانية والأخلاقية والقانونية في حربها على اليمن، حتى وجدت نفسها أما ضغطٍ جديد، تفجر على إثر تحقيق حصري نشرته (CNN)
وأغلب الشركات اكتفت بهذا الرد دون التطرق لمسألة الانتهاكات القانونية، في حين تباينت ردود الفعل بين دولةٍ وأخرى، ففي حين اتسمت قرارات ألمانيا، بشأن وقف تصدير أسلحتها للسعودية، بتضاربها وعدم جديتها، فإن مجلس الدولة البلجيكي كان حاسمًا بسحب تراخيص تصدير أسلحة للسعودية من شركة بلجيكية، فيما فتحت الحكومة السويسرية تحقيقًا وأكدت عدم درايتها باستخدام أسلحة سويسرية في اليمن، ونوهت إلى أن كل صادرتها من الأسلحة تتطلب شهادة المستخدم النهائي، التي تتضمن الالتزام بعدم نقلها لطرفٍ ثالث إلا بتصريحٍ مكتوب من السلطات السويسرية.
السعودية التي لم تفق من تبعات تحقيق “دويتشه فيله”، المتزامن مع تقارير أممية تدين جرائمها الإنسانية والأخلاقية والقانونية في حربها على اليمن، حتى وجدت نفسها أمام ضغطٍ جديد، تفجر على إثر تحقيق حصري نشرته (CNN)، يؤكد ما جاء في تحقيق “دويتش فيله”، ولكن مع التركيز على الأسلحة الأمريكية الصنع، وهي عربات (MRAP) المضادة للألغام، التي تصنعها شركة (Navistar)، مزود العربات المدرعة الأول للجيش الأمريكي، ومدرعات من طراز (Oshkosh M-ATV)، كانت كل من السعودية والإمارات قد اشترت منها أكثر (2600) مدرعة ما بين الأعوام 2011-2014، حسب بيانات معهد إستوكهولم لدراسات السلاح.
وعلى إثر التحقيق أجريت جلسة استماع مع القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال جوزيف فوتيل، قال حينها: “الجيش سيبحث عن كثب مزاعم التحقيق”، دون أن يعني ذلك سحب الدعم الأمريكي للتحالف في حربه على اليمن، فيما نفى حينها التحالف العربي انتهاكه لشهادات المستخدم النهائي للأسلحة الأمريكية.
تعود بدايات ظهور فكرة شهادات المستخدم النهائي بالأساس إلى حقل تجارة الأسلحة، كان ذلك بهدف ضبط عمليات بيع الأسلحة ونقلها وتسربها
بينما برر في حالات معينة أن المجموعات المسلحة جزء من القوات اليمنية، التي تشرف الإمارات عليها بشكلٍ مباشر، وبالتالي فإن المعدات كانت في الحيازة الجماعية للتحالف، وسعت السعودية والإمارات لاحقًا لشراء أسلحة أوروبية شرقية من بلغاريا وصربيا وغيرهما، في سبيل تخفيف الضغط السياسي والدبلوماسي والقانوني الدولي عليهما إلا أن ذلك لم يساعد نهائيًا في التخلص من المشكلة، فهي أيضًا حكمت عمليات تصدير أسلحتها بواسطة شهادات المستخدم النهائي.
تعود بدايات ظهور فكرة شهادات المستخدم النهائي بالأساس إلى حقل تجارة الأسلحة، كان ذلك بهدف ضبط عمليات بيع الأسلحة ونقلها وتسربها، عدا أن تدفق الأسلحة، حتى الرسمية منها، دون مراقبة، يزيد الأوضاع الميدانية والسياسية تعقيدًا بلا شك، وهو أمر ليس محل اهتمام وقلق الدول المصدرة للسلاح، لكن قلقها نابع من وقوع الأسلحة في يد مجموعات ودول معادية لها، كالذي يحدث في اليمن، وهو ما يقلق الأمريكيين بحق، فاقتراب خصوم أمريكا في المنطقة أكثر من أسرار تكنولوجيتها العسكرية، معرفة كيفية عملها ومكوناتها، واستغلالها من أجل الهندسة العكسية، وتطوير نماذج محلية منها عدا عن كشف الثغرات الأمنية فيها.
من ناحية أخرى استخدمت الدول والشركات شهادات المستخدم النهائي لشرعنة عمليات بيع الأسلحة من جهة، وتقديم المعونات العسكرية من جهةٍ أخرى، عدا عن استغلالها للمتاجرة المحلية بالسلاح عبر علاقات أمراء الحروب بالهيئات الحكومية في الدول التي تعاني من الفوضى الأمنية، مثلما حصل خلال الحرب الأهلية الإسبانية وحرب الخليج، ولاحقًا في كل من ليبيا وسوريا واليمن والعراق.