أثارت نشرة التعرفة الجمركية للبضائع المستوردة التي صدرت عن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في حكومة تصريف الأعمال السورية، جدلًا واسعًا بين الأوساط الشعبية، كونها تندرج في سياق التطلعات الحكومية الهادفة إلى تحسين واقع الاقتصاد على المدى البعيد، تاركة خلفها آثارًا مباشرة على التجار والصناعيين والمستهلكين.
تختلف نسبة ضرر المستهلك من منطقة إلى أخرى وفقًا لارتفاع الأسعار، بينما يتعرض التاجر إلى خسائر بنسبة متفاوتة تبعًا لكمّيات البضائع المخزنة في مستودعاته بالمناطق المحررة حديثًا، والبضائع المشحونة لتجار مناطق شمال غرب سوريا التي شهدت اضطرابات في الأسعار، ما تسبّب في تذمر المواطنين، إضافة إلى تضرر الصناعيين.. فما الآثار الاقتصادية المباشرة والبعيدة؟
تطلُّعات الحكومة
جاءت النشرة عقب لقاءات جمعت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة تصريف الأعمال، مع عدد من التجار والصناعيين السوريين، الذين أبدوا تخوفهم من منافسة البضائع المستوردة، لا سيما البضائع التركية من المعابر الحدودية الشمالية، والتي استقطبت تجار حلب ودمشق في شراء البضائع الأجنبية (التركية) خلال الأسابيع القليلة الماضية.
تحتوي نشرة التعرفة الجمركية على أكثر من 6 آلاف صنف للبضائع الأولية والجاهزة المستوردة، وبدأ العمل بها ضمن الأمانات الجمركية والمنافذ البرية والبحرية والمطارات السورية منذ تاريخ صدورها في 11 ديسمبر/ كانون الثاني الجاري.
ومطلع عام 2025 استلمت حكومة تصريف الأعمال المعابر الحدودية مع تركيا في ريف حلب الشمالي (باب السلامة، الحمام، الراعي، جرابلس)، ونقلت إدارتها كليًا من الحكومة السورية المؤقتة، لتكون تحت إدارة الهيئة العامة لإدارة المنافذ البرية والبحرية السورية.
وعبّر مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ مازن علوش، عن تطلعات حكومة تصريف الأعمال في توحيد الرسوم الجمركية، بهدف حماية المنتج المحلي من خلال التشجيع على الصناعة عبر الرسوم المخفضة للمواد الأولية، إضافةً إلى تطبيقها على الرزنامة الزراعية لحماية الفلاح والقطاع الزراعي باعتبارهما من أهم القطاعات السورية.
اعتبر علوش أن توحيد الرسوم يهدف إلى جذب تعزيز ودعم الاستثمار المحلي، من خلال تقديم إعفاءات للمستثمرين وأصحاب المعامل الذين اضطروا إلى إخراج معدّاتهم أو منشآتهم ويرغبون في إعادتها إلى البلاد، أو الذين يرغبون في إدخال معامل جديدة متكاملة، حسب تصريحاته لوكالة الأنباء السورية “سانا“.
وأكد أن النشرة خفضت الرسوم المعمول بها سابقًا بنسبة تتراوح بين 50 إلى 60%، ما ينعكس على المواطنين بشكل مباشر، ويعزز قدرتهم على الاستهلاك وتلبية احتياجاتهم بأسعار معقولة، ما يسهم في رفع مستوى معيشة جميع المواطنين، وضمان حياة كريمة.
آثار اقتصادية مباشرة
شهدت الأسواق السورية اضطرابات عقب صدور تعرفة جمركية موحدة، حيث ارتفعت أسعار المنتجات الغذائية والبضائع المستوردة من المعابر الحدودية مع تركيا المحاذية لمناطق شمال غربي سوريا (المحررة سابقًا)، فيما أضرب التجار والمستوردين في إدلب وسرمدا وأعزاز عن العمل، احتجاجًا على تغير التعرفة الجمركية (كانت شبه معدومة).
وانخفضت أسعار السلع في المناطق المحررة حديثًا، بسبب تخفيض الرسوم الجمركية، مثل الزيت النباتي بنسبة 30%، واللحوم بنسبة 75%، والأرز بنسبة 40%، والشاي 55%، أما بخصوص مواد إعادة الإعمار والبناء أُعفيت الآليات الثقيلة، وخُفضت رسوم الحديد بنسبة 45% للطن، والأسمنت بنسبة 25% للطن الواحد، مقارنة مع الرسوم الجمركية المعمول بها سابقًا إبّان حكم النظام البائد.
بينما في القطاع الزراعي انخفضت رسوم طن السماد من 80 دولارًا إلى 10 دولارات، فيما بلغت تعرفة استيراد الجرارات الزراعية إلى 1880 دولارًا، بينما خفضت رسوم استيراد قطع تصنيع الجرارات بسبب وجود معمل جرارات في سوريا، ما يعني دعم للمنتج المحلي، رغم ذلك تركت آثارًا اقتصادية على التجار رغم انخفاض الأسعار على المستهلكين.
يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم، أن صدور التعرفة الجمركية بشكل مفاجئ دون سابق إنذار يؤثر على التجار والصناعيين والمستهلكين، ما يحدث اضطرابات بأسعار المنتجات في الأسواق، ووقوع التجار في خسائر تختلف من منطقة إلى أخرى.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن التجار في شمال غربي سوريا اعتقدوا أن الوضع سيبقى على حاله لفترة تزيد عن سنة، ما دفعهم إلى شراء بضائع (في طريق الشحن)، لكن التعرفة الجديدة ستنقلب عليهم لأنهم سيدفعون تعرفة جمركية مرتفعة مقارنة مع وضعها السابق، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع لتعويض الخسائر”.
وأضاف: “إن التاجر في المناطق المحررة حديثًا لديه بضائع قبل سقوط النظام البائد، وسيضطر إلى بيعها بسعر منخفض توازيًا مع أسعار البضائع المستوردة وفقًا للتعرفة الجمركية الحديثة، رغم أنه دفع ضريبة جمركية مرتفعة أثناء استيرادها سابقًا، وبالتالي تكبّد خسائر”.
وعن تضرر الصناعيين، اعتبر الكريم أن النشرة أفقدتهم مرونة منافسة العالم الخارجي، لأن السلع المستوردة تتضمن ضرائب البلد المصنع ورسم النقل فقط، بينما في سوريا يوجد تكاليف إضافية، مثل مواصلات وعمّال وكهرباء وقطع أجنبي، وبالتالي سترتفع الكلفة الإنتاجية، ويبقى هامش الربح محدودًا، ما يدفع الصناعي للمطالبة في اتخاذ إجراءات لحماية المنتج الوطني، وبالتالي ارتفاع الأسعار من جديد، أو إغلاق المعمل، ما يزيد من حجم البطالة بين الشباب.
ويشير الباحث إلى أن تضرر الصناعيين والتجار يرفع الأسعار، ما يخفض القدرة الشرائية لدى المواطنين في ظل الظروف الاقتصادية الحاكمة، ويزيد من حالة التذمر، لذلك كان الأولى على الحكومة إعفاء السلع الأساسية والمحروقات من الرسوم الجمركية لكي يكون سعرها مخفض للمستهلك، في حين تكون المواد الرفاهية والجاهزة التي تحتاج إلى قطع أجنبي عالية، أو التي يمكن الاستغناء عنها حاليًا ذات رسوم مرتفعة، ما يسمح للصناعيين بالمنافسة والحفاظ على المنتجات المحلية.
في المقابل، يرى الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، أن توحيد التعرفة الجمركية مهم للغاية، لأن استمرار العمل في الاعتماد على الاستيراد سيشكل خطرًا على المنتج المحلي، ما يفقد الصناعيين إمكانية التصنيع، ويدفعهم إلى الهجرة بسبب وجود السلع الجاهزة المستوردة في الأسواق.
ويقول خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن تطبيق آلية الاستيراد التي كان معمول بها في مناطق شمال غربي سوريا لا يمكن، لأن تلك المنطقة كانت محاصرة ومحتاجة للاستيراد من أي مصدر، بهدف تقديم منتجات وسلع أساسية بأسعار منخفضة للمستهلكين، وهي فكرة ناجحة لمرحلة ما تحكمها ظروف محددة”.
ويضيف أن نشرة الجمرك خفضت رسوم مواد أولية بينما رفعت رسوم مواد جاهزة، ما يعني ارتفاع أسعار البضائع المستوردة وانخفاض أسعار البضائع محلية الصنع، وبالتالي زيادة الانتاج وتوفير فرص عمل للشباب وتحسن سعر الصرف، لأن التاجر له نسبة من المبيعات ولا يتأثر بارتفاع الرسوم الجمركية.
تأثيرات اقتصادية بعيدة
التأثيرات الاقتصادية البعيدة تتناسب مع تطلعات حكومة تصريف الأعمال التي تهدف إلى النهوض بواقع الاقتصاد السوري، لكنها تحتاج إلى فترة ليست قصيرة قد تمتد لعدة أشهر، في وقت يعيشه فيه السوريون ظروفًا اقتصادية ومعيشية صعبة تجاوزت فيها نسبة الفقر حدود 90%، ونسبة البطالة إلى أكثر من 88% بحسب تقارير منظمات أممية وسورية.
واعتبر يحيى السيد عمر أن الرسوم الجمركية إجراء ضمن سلسلة من إجراءات عديدة تهدف لتصحيح الخلل في الاقتصاد السوري، والهدف النهائي حماية الاقتصاد الوطني والانعكاس إيجابًا على حياة الناس، وقد تستمر لعدة أشهر لإيجاد فارق حقيقي.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن تأثير التعرفة في محافظة إدلب مختلف عن تأثيرها في باقي المناطق لأن التعرفة الجمركية السابقة شبه معدومة، بينما في مناطق الدولة كانت مرتفعة، والمحصلة أن التعرفة بالفعل قد ارتفعت في إدلب وانخفضت في باقي المناطق”، وأضاف أن الخطوة لا بدَّ منها، ولا يمكن تأجيلها، لأن غياب التعرفة الجمركية يغرق السوق بالمنتجات الأجنبية، وتتحول الدولة لسوق تصريف مع إنتاج شبه معدوم.
في المقابل، يرى الباحث يونس الكريم، أن التعرفة الجمركية تحمل إشارات إيجابية للعالم الخارجي بأن سوريا بدأت تعيد بناء نظام عملها، بينما تعمل في الداخل على موازنة الأسعار بين أسواق المناطق المختلفة، ما يؤدي الى منع الفروقات السعرية للسلع بين المحافظات، وبالتالي استقرارها، ما يدفع إلى استقرار ايرادات الدولة وتقلُّص العجز في ميزانيتها.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن توحيد التعرفة الجمركية يزيد المنافسة للحصول على أكبر شريحة ممكنة من الزبائن من قبل التجار والصناعيين، وبالتالي ستنعكس على المستهلك وتحسن قدرته الشرائية، ما يساهم في تحسن الليرة السورية، وبالتالي انخفاض حجم التضخم في البلاد على المستوى المتوسط والبعيد”.
وأوضح أنه رغم إيجابيات التعرفة الجمركية في تخفيض أسعار السلع وزيادة القدرة الشرائية على المدى البعيد والمأمول، إلا أن نجاح الخطة يتعلق بقدرة البنك المركزي على توفير قطع أجنبي للحفاظ على سعر الصرف الذي يدخل في دفع التعرفة، إضافة إلى سعر المنتج، في ضوء العقوبات الاقتصادية.
حيث تحرم التاجر من الاعتمادات المستندية عند الشراء ودفع رسوم إضافية، لكي تنجز عبر شركة وساطات لدفع أثمان البضائع، وبالتالي سوف يشعر التاجر الصناعي أنه دخل من جديد في دوامة الظروف التي كانت تحكم النظام البائد، باستثناء وجود أتاوات الفرقة الرابعة والاحتكار من قبل أمراء الحرب.
ختامًا، تشكل التعرفة الجمركية أحد أهم مصادر الدخل والاستقرار الاقتصادي في الدولة التي تمكنها من سداد التزاماتها تجاه المواطنين، نظرًا إلى فوائدها في ضبط السوق والأسعار والحفاظ على المنتج المحلي، ما يعني تنشيط الوضع الصناعي والتجاري، لكن في حالة المستوى الاقتصادي والمعيشي للسوريين تبدو مرهقة للغاية، بسبب تأثيراتها المباشرة على المواطنين، لذلك لا بدَّ من اتخاذ إجراءات حكومية موازية تستطيع الدولة موازنة احتياجات الشعب من خلالها لسدّ العجز المترتب عن تغيُّرات الأسعار.