على مر السنوات الماضية، ارتبط اسم الإمارات العربية المتحدة بالانقلابات والاغتيالات والمؤامرات والاعتقالات، كما برز أيضًا في قضايا التجسس والمراقبة الإلكترونية، فإذا قمنا بعملية بحث بسيطة عن هذا الموضوع على محرك البحث، جوجل، فسنجد كمًا هائلاً من الأخبار المتداولة عن عمليات اختراق إلكترونية لحسابات داخلية وخارجية لصالح المخابرات الإماراتية، وسوف ندرك مباشرة مدى تورطها وهوسها بالتكنولوجيا التجسسية.
لم يكن ذلك ممكنًا دون سعي بعض شركات التكنولوجيا الكبرى إلى بيع تقنياتها للإمارات على اعتبار أنها واحدة من الدول التي لا تمانع استخدام هذه الأدوات للتجسس على سكانها وجيرانها، مع العلم أن البعض الآخر يرى أن التعامل معها ليس مشجعًا أو آمنًا، مثل شركة “موزيلا” المالكة لمحرك البحث “فايرفوكس” التي رفضت طلب الإمارات بأن تصبح واحدة من حراسها في مجال أمن الإنترنت، خوفًا من عمليات القرصنة الإلكترونية.
الإمارات تتعقب تحركات الجميع ولا تستثني أحدًا
في الأشهر الأولى من العام الحاليّ، كشفت شركة “يوغوف” البريطانية للدراسات نتائج استطلاع رأي، تظهر أن غالبية سكان الإمارات يظنون أن هواتفهم الذكية تتجسس عليهم وتراقبهم، وكانت نسبتهم بالتحديد نحو 55%، وتأتي الحواسيب الشخصية في المركز الثاني، لا سيما تلك التي تحتوي على كاميرات مثبتة، حيث تنبع هذه المخاوف من قمع السلطات الإماراتية للنشطاء الحقوقيين والسياسيين والصحفيين الذين يسلطون الضوء على انتهاكاتها.
مثلما حدث مع الناشط الإماراتي أحمد منصور المعتقل منذ عام 2017، رغم تقديم كبرى المنظمات الحقوقية العالمية عريضة للإفراج عنه، ولكن ذلك لم يجد نفعًا. وكما حدث مع غيره من الإماراتيين الذين كانوا مستهدفين ومراقبين بواسطة برامج تجسس على مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، تسمح للإمارات بمراقبة مراسلاتهم وتحركاتهم، وبحسب منظمة “سيتزن لاب” المتخصصة في تعقب التجسس الرقمي ضد المجتمع المدني، فإن تكلفة اختراق هواتف الآيفون، تقدر بمليون دولار لكل هاتف، وهو رقم هائل، لكنه كما يبدو لا يساوي شيئًا أمام هوسها في المراقبة.
ومن أجل تحقيق ذلك، تجتهد شركة الأمن المسماة “دارك ماتر” في تجنيد جيش من الخبراء الأمنيين واستئجار عدد من القراصنة الماهرين من كبار عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل وسامسونج لمراقبة مواطنيها وزرع البرمجيات الخبيثة لتحديد مكان واختراق خصوصية أي شخص في أي وقت. وفي هذا الخصوص، استعرض تقرير نشره “ذا إنترسبت” إحدى رسائل التوظيف التي أرسلتها “دارك ماتر” للخبراء الأمنيين المرشحين للعمل في الشركة الإماراتية، وكانت بعض العروض تصل إلى نصف مليون دولار سنويًا، كما كشفت الرسائل الأخرى عروضًا تشمل حياة خالية من الضرائب، مع توفير سكن في دبي ورعاية صحية وتعليم للأطفال ومواصلات مجانية.
وبالطبع لا تكشف الشركة أهدافها الخفية المرتبطة بأجندة ودوافع الحكومة، فعلى الرغم من أن المتحدث باسم “دارك ماتر” قال: “الشركة ملكية خاصة، ولا تتلقى أي تمويل من الدولة”، فإن العديد من التقارير الصحفية لفتت انتباهنا إلى الروابط القوية التي تجمع بين الشركة والحكومة، واصفةً إياها بـ”السيطرة القوية” للحكومة على الشركة التي لا يبعد مقرها إلا طابقين عن الهيئة الوطنية للأمن الإلكتروني في أبو ظبي.
كشفت مجلة “فورين بوليسي” أن موظفين إماراتيين جددًا يتلقون دورات تدريبية عن التجسس الإلكتروني وأدواته على يد مجموعة من الخبراء الغربيين، كجزء من مساعي الحكومة لإنشاء دولة بوليسية تراقب الجميع من أفراد ومؤسسات وشوارع
ومع ذلك، تسوق “دارك ماتر” لنفسها في المؤتمرات والمقابلات التليفزيونية على أنها تقدم خدمات دفاعية واستخباراتية عن الشبكات والاتصالات الإلكترونية حمايةً للأمة والوطن ومواكبةً لتطورات تكنولوجيا الأمن السيبراني، على اعتبار أنها “منقذ” الشركات والمؤسسات الإماراتية من التهديدات الخارجية، مشيرةً إلى الهجمات التي تعرضت لها عدة بنوك في عام 2015، وأعاقت الحركة المصرفية في البلاد بشكل مؤقت آنذاك.
جدير بالذكر أن “دارك ماتر” لن تكون الذراع الحكومي الوحيد، فقد كشفت مجلة “فورين بوليسي” أن موظفين إماراتيين جددًا يتلقون دورات تدريبية عن التجسس الإلكتروني وأدواته على يد مجموعة من الخبراء الغربيين في موقع قريب من وسط مدينة أبو ظبي يسمى “الأكاديمية”، كجزء من مساعي الحكومة لإنشاء دولة بوليسية تراقب الجميع من أفراد ومؤسسات وشوارع.
كيف تسلح الإمارات نفسها إلكترونيًا؟
بالجانب إلى مساعي الإمارات لتطوير برامجها التجسسية الخاصة لمراقبة منتقديها ومنافسيها في الداخل والخارج، تجري هذه الدولة الصغيرة العديد من التنسيقات والتعاونات السرية والعلنية لشراء برامج تجسسية من الخارج، ومن أشهرها نظام “عين الصقر” أو “فالكون آي” الذي كشف علاقة أمنية سرية بين “إسرائيل” والإمارات، لتأمين مرافق النفط والغاز ووضع كل شخص تحت الرقابة من اللحظة التي يغادر فيها عتبة بابه إلى اللحظة التي يعود فيها إلى منزله. وكل ما يقوم به من عمل ومعاملات اجتماعية وتصرفات وسلوكيات يسجل ويحلل ثم يحفظ في الأرشيف. يبدو ذلك ضربًا من الخيال العلمي، ولكنه يحدث فعلًا في أبو ظبي.
ورغم أن الإمارات لا تعترف بـ”إسرائيل” كدولة، فإن تقريرًا لـ”ميدل إيست آي” كشف اتفاقية تجمع بين رجل الأعمال ماتي كوتشافي، صاحب شركة “إيه جي تي” الأمنية، والإمارات التي تستضيفه بشكل دائم ومستمر على أراضي إمارة أبو ظبي منذ عام 2008، بهدف توفير “كاميرات المراقبة والسياجات الإلكترونية والمجسات لرصد ومراقبة البنى التحتية الإستراتيجية وحقول النفط”، ولحماية “كل المرافق الحيوية داخل إمارة أبو ظبي”، وبتكلفة تقدر بما يقرب من 816 مليون دولار”.
يضاف إلى ذلك، برمجية “بيغاسوس” التي تملكها شركة “إن أو إس” الإسرائيلية وتبيعها للحكومات لأغراض تجسسية، لا سيما للدول التي تستهدف المعارضين السياسيين مثل الإمارات، فقد كشف الناشط الحقوقي أحمد منصور، استخدام الإمارات لها بعدما استلم رسالة على هاتفه تطلب منه الدخول على الرابط للحصول على صورة ومقاطع مصورة قصيرة خاصة بعمليات تعذيب داخل السجون الإماراتية، ولكنه لم يفتح الرابط وبعثه إلى “سيتزن لاب” التي أشارت إلى أن الإمارات استخدمت هذه البرمجة مرارًا في التجسس على صحفيين وسياسيين ومفكرين وقادة، وأبرزهم أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وغيرهم.
تستعين الإمارات المسماة بـ”بلد الأمن والأمان” بضباط سابقين في المخابرات الأمريكية للعمل في وحدة “كارما” للعمليات الإلكترونية في أبو ظبي من أجل اختراق هواتف وحواسيب شخصية للعديد من المسؤولين السياسيين البارزين في الساحة الدولية
ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي تسلح بها “إسرائيل” الإمارات إلكترونيًا، فلقد كشفت مؤسسة “سكاي لاين” الدولية، عددًا من محاولات تجسس قامت بها الإمارات على موظفي منظمة العفو الدولية وحذرت من تعاون شركة “فيرينت” الإسرائيلية مع الإمارات في مجال مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي وتقييد حرية الرأي والتعبير، على اعتبار أن نشاطاتها غير الأخلاقية ستجعل أمنها رهينة في أيدي الإسرائيليين.
من جهة أخرى، تستعين الإمارات المسماة بـ”بلد الأمن والأمان” بضباط سابقين في المخابرات الأمريكية للعمل في وحدة “كارما” للعمليات الإلكترونية في أبو ظبي من أجل اختراق هواتف وحواسيب شخصية للعديد من المسؤولين السياسيين البارزين في الساحة الدولية، مثل محمد شيمشك النائب السابق لرئيس الوزراء التركي، ويوسف بن علوي بن عبد الله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سلطنة عمان.
وبديهيًا، أدت هذه الاختراقات إلى نشوء توترات بين الإمارات وعدد من الدول التي تعتبر صديقة للحكومة الإماراتية إلا أن حمى التجسس التي أصيبت الدولة لم تسعفها في التفريق بين الخصم والصديق، لا سيما بعدما تعمقت مخاوفها من نشوب أي مطالب شعبية أو ثورية في البلاد تهدد نظامها الحاكم، ما دفعه إلى زيادة جرعة التأهب الأمني افتراضيًا وواقعيًا. وبذلك لم تعد الأسلحة الإلكترونية حكرًا على الدول العملاقة والغنية، بل باتت منتجًا تسعى خلفه أصغر الدول لشرائه وتصنيعه واستخدامه في شتى المجالات التي تستدعي تدخلها -بحسب منظورها-، وفي بعض الأحيان، قد تدفعها سياساتها الديكتاتورية لاستخدامها ضد كل من ينتقدها أو يخالف نظامها الحاكم.