ما إن اختتم رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني زيارته الأخيرة إلى طهران الأسبوع الماضي، حتى بدأت الأصوات تتعالى في الداخل العراقي حول مخرجات هذه الزيارة حول الهدف الأهم، والمتمثل بسلاح الفصائل المسلحة الموالية لإيران.
ورغم أن السوداني كان يطمح للحصول على ضوء أخضر إيراني من المرشد الأعلى علي خامنئي، للبدء بمعالجة هذه المعضلة، إلّا أن الموقف الإيراني الداعم لبقاء الحشد الشعبي عطّل هذا الطموح، ونقل الكرة مرة أخرى للداخل العراقي، وتحديدًا قوى الإطار التنسيقي.
إذ يدرك السوداني أن هذا الموقف الإيراني سيجعله في مواجهة الإدارة الأمريكية، وهذا ما حدث، إذ إنه بعد ساعات من عودة السوداني من طهران، وصلت مساعدة نائب وزير الخارجية الأمريكية لشؤون العراق وإيران فيكتوريا تايلور، إلى بغداد، وأجرت نقاشات موسعة مع المسؤولين العراقيين بخصوص مخرجات هذه الزيارة.
إذ إنه ممّا لا شك فيه، أن الولايات المتحدة تدرك تمامًا أن بقاء العراق مترددًا في اتخاذ مسافة أمان عن إيران، سيجعله المحطة الرئيسية للمواجهة المرتقبة بين طهران وواشنطن، خصوصًا أن إدارة دونالد ترامب المقبلة ستحاول تشكيل الحالة الإيرانية في العراق، وبالشكل الذي يتناغم مع الخسارات الإيرانية في لبنان وسوريا.
طهران لا تفكّر في التراجع
إن المتتبع للمواقف الإيرانية التي صدرت على هامش زيارة السوداني إلى طهران، يلمس تحديًا إيرانيًا واضحًا على المضيّ بسياسة الهيمنة في الداخل العراقي، بغض النظر عن تبعات الاستمرار بهذه السياسة، خصوصًا في ظل الظرف الصعب الذي تواجهه طهران اليوم.
فحديث خامنئي عن الحفاظ على سلاح الحشد الشعبي، وإشارته إلى ضرورة مقاومة الاحتلال الأمريكي، وتأكيده على أن العراق يشكّل جبهة مهمة من جبهات المقاومة، إنما يشير لتصميم إيراني واضح على جعل الساحة العراقية ساحة رئيسية للمواجهة مع واشنطن في المرحلة المقبلة.
إن التأكيد الإيراني على ترسيخ هذه الصورة لدورها ودور حلفائها في العراق، إنما ينطلق من حاجة إيرانية بضرورة جعل العراق كحائط صدّ لدرء أي تصعيد قد تُقدم عليه إدارة ترامب في المرحلة المقبلة، ولعلّ هذا ما تأكد عندما وقّعت إيران على العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية مع حكومة السوداني على هامش الزيارة الأخيرة، في تحدٍّ واضح لسياسة العقوبات الأمريكية.
ففي الداخل الإيراني يدور نقاش عام حول ضرورة الإبقاء على الوضع الحالي في العراق، حتى تتضح الملامح الرئيسية لإدارة ترامب المقبلة، وبالتالي إن الضرورة الإيرانية تدفع بعدم التفاعل مع الضغوط الأمريكية المفروضة على العراق، وتحديدًا في موضوع سلاح الفصائل المسلحة.
وحتى في هذا الملف، نجد أن إيران أظهرت تحولًا مهمًّا في سلوكها الأخير، وذلك عبر الفصل بين سلاح الحشد الشعبي وسلاح الفصائل المسلحة، ففي الوقت الذي تحدثت فيه، وعبر لسان خامنئي، عن ضرورة الحفاظ على سلاح الحشد الشعبي، فإنها سكتت عن سلاح الفصائل المسلحة، وهو موقف إيراني متعمَّد من أجل تعقيد المسألة في الداخل العراقي، وخلق مزيد من الضبابية أمام إدارة ترامب المقبلة.
تدرك إيران أن العراق هو القيمة الاستراتيجية العليا المتبقية لإيران في الشرق الأوسط، فكل أطروحة “محور المقاومة” تتوقف اليوم على الحالة الإيرانية في العراق، وأن نهاية إيران في العراق تعني نهاية إيران في الشرق الأوسط، الذي أصبح اليوم بيئة معادية لإيران، حتى في دور هيمنتها السابقة، وتحديدًا في سوريا ولبنان.
وبالتالي إن إدراك طهران أن واشنطن ليست بوارد تكرار الحل العسكري الذي حدث في سوريا ولبنان في العراق، لأسباب متعلقة بأمن المصالح الأمريكية في العراق، يدفع طهران إلى استغلال هذه النقطة والبناء عليها، في عدم تقديم تنازلات مبكرة لإدارة ترامب.
الولايات المتحدة تدخل على الخط
أبدت الولايات المتحدة تحفظًا واضحًا على مخرجات زيارة السوداني الأخيرة لطهران، ولعلّ هذا ما دفع القائم بأعمال السفارة الأمريكية في بغداد إليزابيث كيندي توردو قبل يومين، للحديث عن عزم ترامب إرسال مبعوثه الخاص للعراق في الأيام المقبلة، من أجل نقل رسالة عاجلة للسوداني بخصوص الفصائل المسلحة، والعلاقة مع إيران، والموقف من الوضع السياسي الجديد في سوريا.
إن مثل هذا الاهتمام الأمريكي إنما يعبّر عن رغبة أمريكية بضرورة تعديل السلوك السياسي العراقي، وبالشكل الذي يجعله متمايزًا عن السلوك الإيراني في العديد من الملفات والقضايا، وتحديدًا الملف السوري.
إذ تدرك الولايات المتحدة أن الضرورة الاستراتيجية تفرض اليوم إبعاد بغداد عن طهران التي ما زالت تصرُّ على خطابها التصعيدي في سوريا.
فنظرًا إلى الحدود الجغرافية الطويلة التي تربط العراق بسوريا، والتداخلات الاجتماعية والثقافية بين البلدَين، قد يؤدي أي تعقيد في الموقف العراقي حيال دمشق إلى استنزافات كبيرة للولايات المتحدة، التي أجرت منذ الأسبوع الماضي سلسلة من التحركات العسكرية على طول الحدود العراقية السورية، وتحديدًا بين قاعدتي “عين الأسد” غرب العراق، و”الشدادي” شرق سوريا، من أجل ضبط إيقاع التوازنات العسكرية هناك.
وفي هذا الإطار أيضًا، تدرك الولايات المتحدة المخاطر الكبيرة التي يمكن أن تقدم عليها طهران في سوريا، وذلك نظرًا إلى التخادم الكبير الذي يربط طهران بكل من قوات سوريا الديمقراطية، وبعض فلول النظام السوري السابق في الساحل، وإمكانية توظيف ورقة “داعش” لإرباك الداخل السوري، وإن مثل هذه المخاطر لا يمكن احتواؤها إذا لم يتم احتواء الدور الإيراني في العراق.
إن إنتاج مثل هذه المقاربة تبدو صعبة للغاية، في ظل إصرار جزء كبير من قيادات الإطار التنسيقي والفصائل المسلحة على عدم إجراء أي تحول في علاقات بغداد مع طهران، بالشكل والصورة التي تريدها واشنطن، فمثل هذا التصور بالنسبة إليهم لا يعرّض مصالح إيران في العراق للخطر فحسب، بل مصالحهم الخاصة أيضًا، والتي أنتجت علاقة عضوية بينها وبين الحالة الإيرانية في العراق.
خلاف عراقي معقد
لا يزال الخلاف داخل الإطار التنسيقي معقدًا للغاية، في كيفية إنتاج موازنة بين رغبات طهران بالحفاظ على سلاح الفصائل المسلحة، وضغوط واشنطن لإنهاء هذا السلاح.
ففي الوقت الذي طرح فيه كل من نوري المالكي وقيس الخزعلي فكرة دمج الفصائل المسلحة بالحشد الشعبي، وبالتالي الإبقاء على الحشد الشعبي، وإنهاء الفصائل المسلحة، رأى عمار الحكيم وحيدر العبادي أن مثل هذه الخطوة قد تفتح الباب على نطاق واسع أمام إدارة ترامب المقبلة، في استهداف الجميع دون تمييز، وأنه بدل أن تتحدث إدارة ترامب عن حلّ الفصائل المسلحة اليوم، فإن دمجها مع الحشد الشعبي سيدفعها للحديث عن حل الحشد الشعبي في المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، رغم حديث الجميع داخل الإطار التنسيقي عن ضرورة إعادة هيكلة وضع الفصائل المسلحة، إلّا أنه لا توجد حتى الآن آلية واضحة بهذا الخصوص، والسبب هو أن بعض قيادات الإطار التنسيقي، وتحديدًا المالكي والخزعلي، ويدعمها بعض قادة الفصائل المسلحة بهذا التوجه، تنطلق من فكرة إن ملف الفصائل المسلحة سيبقى في مأمن، طالما أن القوات الأمريكية باقية في العراق.
ما يعني أن إدارة ترامب ستفكر كثيرًا قبل أي تصعيد عسكري ضد الفصائل المسلحة في المرحلة المقبلة، من أجل درء أي مخاطر تتعرض لها قواتها في العراق، بل إن هذه الخشية ستدفعها أيضًا لضبط أي هجوم إسرائيلي محتمل على العراق، ما يدفع إلى عدم الاستعجال بتقديم التنازلات بالوقت الحالي.
يبدو واضحًا أن هناك موقفًا معقدًا للغاية تواجهه قيادات الإطار التنسيقي بالوقت الحالي، فهي تجد نفسها اليوم ما بين ضاغطَين، إيراني وأمريكي في آن واحد، ومثل هذا الوضع سيجعل العراق أمام حسابات معقدة للغاية في المرحلة المقبلة، إذ إن الفشل في معالجة مسألة سلاح الفصائل المسلحة عراقيًا، سيجعل من مسألة حل هذه المشكلة خاضعة للحسابات الإيرانية والأمريكية في المرحلة المقبلة، دون أي مراعاة للوضع العام في العراق.