لعلك صادفت خلال اطلاعك على نبذةٍ مكثفة من تاريخ الجيوبولوتيكيا لتركيا المعاصرة أو في أثناء قراءتك لواحدٍ من إعلانات السفر الترويجية، أو حتى عند سماع إحدى نشرات الأخبار عن ولاية تركية تسمى “هطاي”، أو “لواء إسكندرون” كما يسميها السوريون.
هذه المدينة الواقعة جنوب تركيا، والمطلة على البحر الأبيض المتوسط من الجهة الغربية، وتحدها سوريا من جهتي الشرق والجنوب، ومن الشمال مدن: أضنة وعثمانية وغازي عنتاب، وتجذب آلاف السائحين كل عامٍ، حيث تعد أشبه بمسرح ثقافي مفتوح تتلاقى فوق خشبته 13 حضارة مختلفة وتقدم أرضها نماذج تتجلى فيها أعظم فتراتها التاريخية، خاصة ذات الطابع الديني المقدس، لا سيما المسيحية، على أرضها، أثبت شعبها إمكانية التعايش بين أتباع ديانات وعقائد مختلفة على بقعةٍ واحدة دون السماح لأي شيء أن يعكر صفو تآلفهم وانسجامهم.
ويعود تاريخ مدينة أنطاكيا، عاصمة تلك الولاية، إلى 8000 عام قبل الميلاد وتأسست على يد “سلوقس” أحد رجال الإسكندر الأكبر الذين ساهموا في إظهار إمبراطوريته بعد وفاته، وكانت في تلك الفترة ثالث أكبر مدينة في العالم بعد روما البيزنطية والإسكندرية المصرية.
تضمن لك رحلة سياحية إلى هطاي التعرف على أبرز تلك الحضارات التي وطأت هذه الأرض كالبارثية والساسانية والبيزنطية والعباسية والطولونية والإكسهيدانية والحمدانية والسالجوكينية والصليبية والمماليك على التوالي، حتى دانت إلى السيادة العثمانية إبان حملة السلطان سليم الأول على مصر عام 1517.
ولعل موقعها الجغرافي الإستراتيجي الخطير الذي يظهر فيه مدى تقاربها بسوريا، جعلها محل نزاع منذ ما يقرب المئة عام، خاصة بعد الانتداب الفرنسي على سوريا، إذ تظهر الخرائط الخاصة بالمناطق السورية التابعة للانتداب وقوع “هطاي”، “لواء الإسكندرون” آنذاك، ضمن المناطق السورية ولكن فرنسا تخلت عنها لتركيا بعد استفتاء لتقرير المصير من عصبة الأمم.
تأسست هطاي كدولة مستقلة لها دستورها وعلمها الخاص الذي نسجه مصطفى كمال أتاتورك عام 1938، وفي عام 1939 انضمت هطاي إلى تركيا، وما زالت حتى الآن الخلافات قائمة بين سوريا وتركيا على أحقية كل دولة منهما بها.
ولنترك الآن الجانب السياسي الذي لطالما كثر الحديث عنه، ولنتعرف على أهم معالم مدينة هطاي التي تفوح بعبق التاريخ.
كنيسة القديس بطرس
تعد هطاي عاصمة للكنائس المسيحية الشرقية، كما لقبت بمهد “المسيحية” نتيجة لمرور المسيحيين الأوائل واستقرارهم بأرضها، حيث يوجد بها واحدة من أقدم الكنائس في تاريخ الديانة المسيحية وهي كنيسة “القديس بطرس” الذي يعد من أول الرسل وأول من بشر بالإنجيل في أنطاكيا، وهي عبارة عن كهف منحوت في الجبل لجأ إليه المؤمنون بالمسيحية الأوائل بسبب معاناتهم من الاضطهاد، وفيها أقيم أول اجتماع ديني وألقيت أول خطبة مسيحية وعرف المؤمنون بهذا الدين بالـ”مسيحيين” نحو عام 42 ميلاديًا.
كما تعد تلك الكنيسة الواقعة بهطاي قرب أنطاكيا واحدة من الكنائس التي يتجه إليها المسيحيون بصورة دورية للحج وإحياء ذكرى القديس بطرس في الـ29 من يونيو كل عام، وقد ألحق بتلك الكنيسة لاحقًا نماذج للفسيفساء واللوحات الجدارية التي تعود للقرن الرابع والخامس الميلادي، وتم ترميم واجهة تلك الكنيسة عام 1863من الرهبان الكبوشيين، كما ساهم في الترميم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث.
ونظرًا لعناية تركيا بتاريخها الثقافي، فقد أشرفت وزارة الثقافة بالتعاون مع رئاسة بلدية هطاي، خلال الأعوام القليلة الماضية على عمليات الترميم التي شملت تدعيم الصخور في المغارة وتثبيتها بما لا يضر بمعالمها ويحافظ على عمارتها الأصلية، كما جرى ترميم اللوحات الفسيفسائية في الكنيسة، وتمت عمليات الترميم بعد ضمها إلى اللائحة المؤقتة للتراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم (اليونيسكو)، عام 2011.
مسجد حبيب النجار
بني هذا المسجد الصحابي”أبو عبيدة الجراح بعد فتح المسلمين لأنطاكيا عام 638، ليكون فيما بعد أعظم شاهدًا على مدى تماهي سكان هذه المدينة مع بعضهم البعض منذ القدم دون شعور بأي اضطهاد أو تمييز، فعندما تسأل أيا من البسطاء الذين يدعون ويتوسلون بمن دفن في الأضرحة “هل تعرف من دفن هنا”؟ فتكون الإجابة: “بالتأكيد، فما دام مدفونًا في هذا المسجد، فإنه أحد الأولياء الصالحين من المسلمين الأوائل”.
لكن الغريب في الأمر أن المدفونين في هذا المسجد ليسوا من المسلمين، كما أن من سمي المسجد على اسمه ليس مسلمًا أيضًا، حيث دفن في هذا المسجد اثنان من حواريي المسيح الذين جاءوا إلى هناك للدعوة إلى المسيحية، الذين تم الاختلاف على اسمائهم، فمن المؤرخين من يقول إنهما بولس ويوحنا وآخرون يقولون إنهم يحيى ويونس، ولكن المؤكد أن أول من لقاهم في رحلتهم وآمن بهم هو حبيب النجار الذي استمر في الدعوة إلى المسيحية والإيمان بالله بعد أن وقع الحواريان في قبضة ملك اعتبرهما مهرطقين، ليخلد القرآن حكايته لاحقًا وفقًا لما تقوله الموسوعة الإسلامية الدينية بأن الشخص المعروف بحبيب النجار هو المذكور في الآيات من 13-27 من سورة يس. (وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين).
ويتميز تصميم المسجد الفريد بأنه مجسد لفنون العمارة الإسلامية في العصور الوسطى، كما تدل النقوش الموجودة فيه أنه أول مسجد بني في أنطاكيا، ويحيط بالمسجد عددًا من المدارس العثمانية التي تبدو عليها بساطة التصميم المعبرة عن بساطة الحياة آنذاك.
نفق تيتوس
يعد نفق تيتوس أكبر نفق محفور يدويًا بأدوات بدائية كالمطرقة والإزميل في العالم، ويرجع تاريخ حفر النفق إلى العصر الروماني، حيث أصدر الإمبراطور “فيسباسيان” أوامره حينها إلى نحو ألف أسير بحفر النفق، بغرض حصر مياه السيول المحملة بالرمال والحجارة ومنعها من الوصول إلى الميناء البحري بالمنطقة.
ويحيط بالنفق مناظر طبيعية خلابة تتيح للسائحين فرصة التأمل وكسر حدة الصورة الذهنية لعمليات حفر النفق، ويبلغ طوله ألف و380 مترًا، وارتفاعه 7 أمتار، في حين يصل عرضه إلى 6 أمتار، ويقع على بعد 100 متر من النفق “المغارة الشرقية” التي تحتوي قبورًا لشهداء المسيحية في العصر الروماني وتعد من أهم وجهات السياحة بالمنطقة.
عام 2014 أدرجت منظمة اليونيسكو نفق تيتوس الذي يبلغ من العمر ألفي عام ضمن القائمة الأولية للتراث العالمي، وأكد مدير السياحة والثقافة في ولاية هطاي، حسنو إيشيكور، البدء في خطة بيئية لحماية النفق بالتزامن مع العمل على افتتاح مركز سياحي معد لاستقبال الزوار وتوجيه رحلاتهم، في أقرب وقت ممكن.
متحف هطاي للفسيفساء
ويعد هذا المتحف ثاني أكبر متحف للفسيفساء في العالم، حيث تحكي فيه الحجارة الصغيرة والنقوش الفسيفسائية عن مزيج فريد من الحضارات مثل الأشورية والبيزنطية والرومانية، وافتتح هذا المتحف عام 1948، وتمت توسعته وتجديده ما بين عامي 1969 و1973، عبر وضع أجهزة تقنية ومكيفات لحماية الآثار من الرطوبة.
يضم المتحف نحو 35 ألف أثر من الآثار الحجرية والمنحوتة والعملات إلا أنه لا يتم إلا عرض 3 آلاف منها فقط في حين يفضل الأثريون الاحتفاظ بالفسيفساء الأخرى تحت التراب، وهو ما فتح المجال للتفكير في إنشاء متحف آخر خصيصًا لعرض تلك الآثار. كما يمكنك بالمتحف معاينة أكبر لوحة “موزاييك” في العالم تبلغ أبعادها 3 آلاف و500 متر مربع، متجاوزة بذلك أبعاد لوحة الموزاييك الموجودة في متحف مدينة غازي عنتاب الأثري التي كانت أكبر لوحة موزاييك في العالم.
شجرة موسى
تقع شجرة موسى المقدسة التي يتوافد إليها السائحون بكثافة في منطقة صامنداغ بهطاي، وتقول الروايات إن النبي موسى قد التقى بالخضر (أحد الشخصيات المهمة في فلسفة الإسلام والملهمة للتصوف الإسلامي) عند ساحل صامنداغ، فلما صعدا إلى الجبل معًا، ضرب سيدنا موسى عصاه فانشق نبع من الماء ليشربا منه، وتفرع منه بعد ذلك نهر صغير يسمى “نهر الحياة”، ونبتت فيما بعد بجانب النبع شجرة “تنوب” يقول الباحثون إن عمرها يصل إلى 700 سنة .
في الحقيقة، لا يقتصر تاريخ هطاي وآثارها فقط على المعالم التي تم ذكرها سابقًا بل إن كل ركنٍ فيها شهد مئات الأحداث والشخصيات التاريخية التي مثلت استلهامًا وتأثيرًا في تاريخنا الحديث، ولا تزال تركيا تعمل جاهدةً على اكتشافها وتقديمها للناس وتعريفهم بها.
ومن هذه المعالم التي تمثل رديفًا للمعالم السابقة، ولن تحلو الرحلة أو تكتمل إلا بزيارتها: دير القديس سمعان العمودي ودير يايلاداغي بارليم ودير مونت قيل بارليم ومسجد وقبر الشيخ أحمد القصيري ومجمع محمد باشا الصقلي ومجمع باياس الصقلي والمسجد الكبير وديمير كابي وديمير كوبرو وقلعة هقوص وقلعة بغراس وقلعة باياس وقلعة المنجنيق وبرج سين وقلعة داربيساك.