اعتادت الساحة المصرية مع اقتراب الذكرى السنوية لثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، أن تشهد حالة من السيولة السياسية والأمنية، استنفار مُعتاد منذ عام 2013، حملات قمع واعتقالات تزيد وتيرتها تزامنًا مع الذكرى، وموجات شيطنة تقودها رموز الإعلام واللجان الإلكترونية لتشويه لكل ما يمتّ ليناير والثورة بصلة.
ورغم نجاح السلطات الحاكمة في مصر من خلال الآلة الأمنية المشددة واستراتيجية الترهيب الممنهجة واحتكار المشهد من كافة مساراته، في تقليل الزخم الثوري الجماهيري عامًا تلو الآخر، حتى بات إحياء مثل تلك الذكرى رفاهية لا يقدر أنصارها على تحمل تبعاتها وكلفتها الباهظة، إلا أن كل تلك المحاولات لم تنجح في طمس الهوية الينايرية من العقلية المصرية بشكل كامل، حتى وإن بقيت على رجل عرجاء لا تقوى على التحرك.
واطمأنَّ النظام المصري وإعلامه ونخبته السياسية والثقافية لاستسلام أنصار الثورة لسلطة الأمر الواقع، خاصة بعدما تشتّتوا ما بين قتيل ومعتقل ومطارد، ليُستبعد الاحتفال بذكرى ثورة يناير من المشهد الإعلامي رويدًا رويدًا، ويكون هذا اليوم احتكارًا مطلقًا للاحتفال بعيد الشرطة المصرية فقط، ومن يغرّد خارج هذا السياق يجدُ نفسه في مرمى الاتهام بالإرهاب والترويج لأفكار جماعات إرهابية، وليس بمستبعد أن يجدَ نفسه بين غمضة عين وانتباهتها داخل أروقة السجون والمعتقلات.
لكن هذا العام تبدو الأجواء مختلفة، حالة سعار إعلامي غير مسبوقة، القلق يخيّم على أنصار النظام من الإعلاميين والمثقفين والساسة، حتى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم ينجح في إخفاء هذا القلق الذي بدا عليه أكثر من مرة خلال الأيام القليلة الماضية.
وفي المقابل بدأت الأصوات الداعمة لثورة يناير تعلو على مواقع التواصل الاجتماعي، والحنين إلى الثورة يعبّر عنه علنيًا، والدعوة لإحياء الأمل في تحقيق ما فشلت فيه الثورة قبل سنوات يفرض نفسه على الكثير من المنصات.. فما الذي تغير هذه المرة؟
انتصار الثورة السورية: أمل للشعوب وكابوس للمستبدين
الاختلاف الأبرز في ذكرى هذا العام أنها تتزامن مع حدث جلل هزَّ أركان المنطقة، سقوط نظام الأسد بكل جبروته على أيدي المعارضة السورية بعد نحو 13 عامًا من اندلاع الثورة، والانهيار غير المتوقع لواحد من أكثر الأنظمة الديكتاتورية التي كان يُنظر إليها على أنها الجبال الرواسي، التي يكون الاقتراب منها مقامرة ومغامرة غير محسوبة العواقب.
سقوط هذا النظام وبتلك الكيفية المهينة، وعلى أيدي الثوار الإسلاميين، كان صدمة مدوية للنظام في مصر، كما كان كذلك للأنظمة الشبيهة في المنطقة، والتي توهمت أنها نجحت في تجفيف منابع الربيع العربي والقضاء على كافة روافده بعد اجتثاث منابعه من فوق الأرض، حيث مارست كل أنواع التنكيل وارتكبت كل موبقات الانتهاكات لأجل هذا الهدف، الذي جيّشت لتحقيقه كل أذرعها الإعلامية والسياسية والأمنية بل الاقتصادية.
وفي الوقت الذي كان يمهّد نظام السيسي نفسه لبدء مرحلة جديدة من الاستقرار بعد سنوات من العمل الدؤوب لتفكيك حالة الارتباط بين أنصار يناير وحلمهم الثوري، والتخطيط لتحميل الثورة مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع بعد التغول في شيطنتها بكل السبل، إذ بالمشهد السوري يلقي بظلاله، لينسف معه كل تلك الجهود، ويعيد الأمور إلى المربع صفر مرة أخرى، ويضع يناير مرة أخرى في قلب الحدث.
ثنائية إحياء الأمل ومساعي الشيطنة
ما أن هدأت العاصفة واستقر الأمر يقينًا على سقوط نظام الأسد وهروب زعيمه خلسة في الظلام ليلًا، حتى بدأ الإعلام الرسمي المصري والموازي واللجان على منصات التواصل الاجتماعي في تبنّي خطاب مشترك يعزف على وتر واحد، تشويه الثورة وإلصاق تهم الإرهاب والتطرف بحق الإدارة الجديدة، واستغلال خلفيتها الأيديولوجية كذريعة لحملات الشيطنة.
وعلى الجانب الموازي كان الهلع من تكرار ما حدث في سوريا أن يحدث على الساحة المصرية، حيث انبرى رموز الإعلام في القاهرة على شاكلة أحمد موسى وإبراهيم عيسى والبرلماني مصطفى بكري، ومعهم نشأت الديهي وغيرهم، للتحذير من نقل العدوى، والتأكيد على الاختلافات الكبيرة بين البلدَين، فمصر ليست سوريا كما يرددون، وهو الشعار ذاته الذي رفعوه سابقًا عام 2011، حين قالوا إن مصر ليست تونس.
ولم تدخر الآلة الإعلامية المصرية الموجهة بطبيعة الحال من الأجهزة الاستخباراتية جهدًا لتشويه الثورة السورية وإدارتها الجديدة، وهو القلق الذي تجاوز ساحته الإعلامية إلى الساحة السياسية، حيث حالة الارتباك التي خيّمت على تعاطي الدولة المصرية مع المستجدات في سوريا الجديدة، والتأخير في الانخراط في المشهد، والرضوخ لحزم من التحفظات والمقاربات التي عزلت القاهرة بشكل كبير عن الساحة السورية لصالح قوى وكيانات أخرى.
أناشد السيد الدكتور بدر عبدالعاطي أن يتراجع عن زيارة سوريا واللقاءبخريجي مدرسة الإرهاب ، لقد تحدي رئيسهم الجولاني مصر والتقي بأحد المحكوم عليهم بالإعدام ، بتهمة التحريض علي اغتيال المستشار هشام بركات النائب العام ، لايجب منح الشرعية لهذه المجموعات الإرهابيه التي مارست كل أعمال…
— مصطفى بكري (@BakryMP) December 28, 2024
وفي المقابل، أعاد ما حدث في سوريا الأمل مجددًا في إحياء الحلم الثوري المصري الذي وُلد عام 2011، ولم يكتمل بعد نتيجة التآمر عليه من الداخل والخارج، ليعود الحديث عن ثورة يناير مجددًا على منصات التواصل الاجتماعي، الحلم الذي قد يتحقق رغم محاولات الطمس والإجهاض المستمرة.
فإن نجح السوريون في تحقيقه بعد 14 عامًا تعرضوا فيها لأبشع الانتهاكات الإجرامية على أيدي شبيحة نظام الأسد، فإن الأمر قد لا يكون مستبعدًا أن يتكرر في مصر، بصرف النظر عن الآلية والاستراتيجية التي يتم بها ذلك، هكذا عاد الأمل لثوار يناير من المصريين.
وهكذا انقسمت الساحة المصرية إلى فريقين، الأول يرى فيما حدث في سوريا باعثًا على الأمل في فرض الشعوب لإرادتها، ورسالة إنذار وتحذير شديدة اللهجة لكافة الأنظمة السلطوية لإعادة النظر في سياساتها وانتهاكاتها بحقّ شعوبها، وآخر يتبنى خطاب الشيطنة والتشويه، ويحذّر من نقل العدوى متهمًا كل من يسير على هذا الدرب بالخيانة والتآمر وتنفيذ المخططات الأجنبية.
صورتان تفضحان القلق
حاولت السلطة المصرية حصر تخوفاتها من المشهد السوري في مسألة التشاركية، وإشراك كافة الفصائل والقوى السياسية في الحكم دون الاستئثار بها لصالح فصيل بعينه، بزعم دعم وحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقلاليتها عن أي أجندات خارجية، غير أن صورتين من الداخل السوري نُشرتا على مواقع التواصل الاجتماعي، كشفتا بشكل كبير عن حالة الهلع التي تخيّم على النظام وأذرعه الإعلامية والسياسية.
الأولى: نشرها القيادي الإخواني المصري محمود فتحي، المحكوم عليه بالسجن في قضية قتل النائب العام الأسبق في مصر هشام بركات عام 2015، والتي أظهرته إلى جوار قائد هيئة تحرير الشام، حين ذهب لتهنئته بانتصار الثورة بعد 10 أيام من سقوط نظام الأسد، والتي لاقت هجومًا عنيفًا من اللجان الإلكترونية والإعلام السلطوي ورموزه، وأحدثت حالة من الهلع تجسّد في تبني خطاب متشدد خالٍ من الدبلوماسية.
أحمد موسى للإرهابي أحمد المنصور : فاكر عشماوي #على_مسئوليتي #صدى_البلد pic.twitter.com/hC7XOQRD5F
— صدى البلد (@baladtv) January 11, 2025
الثانية: تلك التي نشرها المعارض المصري المقيم في سوريا أحمد المنصور، أحد العناصر المنضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام، والذي شارك في معركة تحرير سوريا من قبضة نظام الأسد، عبر صفحته على منصة “إكس”، وتُظهره جالسًا على طاولة وبجواره عدد من الملثمين وأمامه مسدس، فيما خلفه لوحة مرسوم عليها العلم المصري أثناء حكم الملكية قبل 1952، وتشكيل ما أسماه “حركة ثوار 25 يناير” بهدف إسقاط نظام السيسي.
الصورة، بجانب المقاطع المرئية التي نشرها المنصور على حسابه، والتي توعّد فيها بإسقاط النظام المصري، أثارت حفيظة النخبتَين، الإعلامية والسياسية، المواليتَين للنظام، حيث شنّتا هجومًا عنيفًا على المعارض المصري، وطالبتا الإدارة السورية باتخاذ موقف بشأنه كبادرة حسن نوايا، في مواجهة الاتهامات التي تشير إلى دعمها لهذا التوجه واستهدافها النظام المصري.
ليست سوريا وحدها مبعث الزخم
ليس انتصار الثورة في سوريا وحده المتسبب بهذا الزخم الذي يرافق ذكرى يناير هذا العام، فالأوضاع المعيشية والحقوقية والسياسية في الداخل المصري كفيلة بتفجير عشرات الثورات، في ظل الحالة المتدنية التي باتت عليها الدولة والشعب معًا، خاصة بعدما غرقت البلاد في وحل الديون التي جفّفت مواردها لسدادها، والوفاء بما عليها من التزامات في صورة أقساط وفوائد وخلافه.
وقد ارتفع الدين الخارجي المصري مسجّلًا 155.3 مليار دولار بنهاية الربع الثالث من العام 2024، بعد أن كان 46 مليار دولار حين تسلم السيسي السلطة عام 2014، فيما زاد الدين المحلي من 3.5 تريليونات جنيه (198 مليار دولار حينها) عام 2014، إلى 8.7 تريليونات جنيه في مارس/ آذار 2024، فيها تهاوت العملة المحلية (الجنيه) من 7.25 جنيهات للدولار عام 2014 إلى 50.5 جنيهًا للدولار بنهاية 2024.
هذا بخلاف معدلات التضخم والبطالة المتصاعدة، وتراجع مستويات الادخار لدى المصريين، والزجّ بعشرات الملايين من أبناء الطبقة الوسطى إلى أتون الفقر الذي رضخ تحت خطه أكثر من 60 مليون مصري، بجانب القفزات الجنونية في أسعار السلع والخدمات، والتي تجاوزت عشرات الأضعاف في غضون سنوات قليلة، الأمر الذي نغّص على الناس حياتها ودفعها للتفكير في الهجرة ومغادرة بلادهم.
كذلك توجُّه الدولة نحو بيع أصولها اللوجستية والاستراتيجية وتجريف مواردها، لسدّ العجز الناجم عن سياسة الاقتراض والسياسات المالية والنقدية، التي أصرَّ النظام عليها رغم ثبت فشلها، علاوة على الأوضاع الحقوقية المتدنية، والإصرار على المضيّ قدمًا في طريق الانتهاكات والاعتقالات وتكميم الأفواه وتضييق الخناق على المعارضة، وسدّ الأفق السياسي واحتكار المشهد بكافة مجالاته.
السيسي وعقدة الذنب
منذ تولي السيسي السلطة عام 2014، انتقل في خطابه بشأن ثورة يناير من الإشادة والتمجيد بها بدايات حكمه، كونها البوابة الكبيرة التي جاءت بها من بعيد ووضعته على سدة الحكم في مصر، إلى شيطنتها وتحميلها مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع المتدنية.
وكانت الثورة على مدار سنوات شماعة يعلق عليها النظام فشله في إدارة الدولة، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، بل حملها كذلك مسؤولية بناء سدّ النهضة الذي يهدد أمن مصر المائي، رغم إجماع الخبراء على تحمل النظام الجزء الأكبر من المسؤولية حين وافق على اتفاقية إعلان المبادئ عام 2015، والتي منحت أديس أبابا شرعية بناء السد وضخّ التمويلات الدولية بشأنه.
مؤخرًا انتقل السيسي إلى مرحلة أخرى من الدفاع، لكن ليس عن نظامه إنما عن شخصه، حين أعاد وكرر على نزاهته وشرفه وأمانته في كل مناسبة يتحدث فيها، الأمر تصاعد أكثر بعد سقوط نظام الأسد، ففي مرتين في أقل من شهر تحدث عن أن يده “غير متعاصة بدماء المصريين” ولم تأخذ أموالهم.
وهو الأمر الذي فتح الباب أمام الكثير من التكهنات، ما الذي يدفع الرئيس للتأكيد على هذا الأمر مرتين في أقل من شهر؟ ممَّ يخاف؟ وماذا يريد أن يقول؟ وما الرسالة التي يحاول أن يبعث بها للمصريين؟
لا شك أن حديث السيسي الأخير ومحاولة تبرئة نفسه من دماء وأموال المصريين نابع في المقام الأول من داخله، وبمبادرة شخصية عفوية فرضتها الأحداث والأجواء، دون استشارة المقربين منه، ولا الأجهزة المسؤولة عن تسويقه في الداخل.
وإلا لما سمحت له بالتحدث في مثل تلك المسائل التي تُثبت تلك الجرائم عليه لا تنفيها، ترجمة للمثل العربي المعروف “كاد المريب أن يقول خذوني”، فهو يعبّر عن حالة القلق التي تهيمن عليه وعقدة الذنب (بمعناها النفسي لا الأخلاقي)، التي تطارده ليل نهار منذ توليه السلطة.
السيسي ورغم مساعي ادّعاء الثبات والوقوف على أرض صلبة يعاني من حالة اهتزاز واضحة، باعثها الأول عقدة الذنب التي تطارده كما أسلفنا، وهو ما يدفعه لاستخدام ما يطلق عليه علماء الاجتماع السياسي “ميكانيزمات الدفاع”، وهي عبارة عن حيل وديناميات نفسية يستخدمها الإنسان كوسيلة دفاعية لتجنُّب الألم، والتحرر من الصراعات النفسية الداخلية والخارجية.
وهكذا تأتي ذكرى يناير هذا العام مختلفة، من حيث السياق أو ردود الفعل أو حتى منسوب الأمل الذي كان قد وصل إلى المرحلة الصفرية خلال السنوات الماضية، وبصرف النظر عن ارتدادات المشهد السوري على الداخل المصري، واحتمالية نشوب حراك ثوري من عدمه، إلا أن استدعاء الأمل الثوري من ثلاجات اليأس القابع بها منذ سنوات مكسب لا يمكن التقليل منه، فهو مرحلة فاصلة تعيد الروح الثورية للأجواء مرة أخرى بعد غياب طويل، ورسالة إنذار عاجلة ومشددة للسلطة المصرية لتعلُّم الدرس والاستفادة من التجارب الإقليمية، قبل فوات الأوان.