فرق مختصة لا يكاد يفرق بينها وبين المقاتلين المنتشرين في أنحاء متفرقة من العراق وسوريا، ورادارات وطائرات تجسس وأقمار صناعية لا تكاد يهدأ لها بال، وتنصت على المكالمات والمراسلات، ورصد لدبيب النمل في مناطق خاضعة لسيطرة التنظيمات المتشددة، واختراقات في الصفوف الأولى، كل هذا وأكثر، ولم يتمكن التحالف الدولي من اغتيال زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي، ومساعده السابق أبو محمد الجولاني.
سنوات طويلة من المطاردة والرصد وتقفي الآثار، لم تكن كافية لكي ينجح أكبر تحالف عسكري واستخباري منذ الحرب العالمية الثانية، في القضاء على من يسمونهما “رأسي الإرهاب” في المنطقة، بل لم تكن كافية في تقديم إجابة كافية لمتابعي الحرب الكونية على الجهاديين، أين أبا بكر البغدادي وأبا محمد الجولاني؟ ولماذا لم تنجح الولايات المتحدة الأمريكية قائدة التحالف الدولي في إلقاء القبض على الرجلين وتقديمهما للمحاكمة، مثلما توعد بذلك مسؤولون غربيون بارزون في مناسبات عديدة؟
قد يستسهل البعض الحديث عن سر بقاء زعيمي تنظيم الدولة الإسلامية وهيئة تحرير الشام على قيد الحياة رغم مقتل كبار مساعديهما وتصفية أقرب المقربين منهما، مرددين للدلالة على صحة قولهم، روايات واستنتاجات لا تخرج عن نظرية المؤامرة وتلاعب الولايات المتحدة بهذين الرجلين واستعمالهما في احتلال المنطقة والسيطرة عليها وتبرير حملاتها العسكرية في محاربة الإرهاب، رغم أن ذلك بعيد جدًا عن الواقع والحقائق، وعن الإجماع الاستخباري المنعقد بشأن نجاح الرجلين في تضليل الطائرات والرادارات والقوات الخاصة التي تتعقب آثارهم في كل لحظة.
الجماعات الجهادية التي خسرت مئات إن لم نقل آلافًا من قياديي صفوفها الأولى في الحرب العالمية على الإرهاب منذ نحو عقدين من الزمن، لم تكن الرابح في معارك الكر والفر هذه، بل كانت الخاسر الأكبر
يعود آخر ظهور لأبي بكر البغدادي وأبي محمد الجولاني، لشهر مايو 2019، حيث كان الظهور الثاني للرجل الأول في صفوف تنظيم الدولة مفاجئًا وغير مسبوق في مبناه ومعناه وتوقيته، حتى إن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والعراقية لم يتوصلا إلى حد الآن لنتيجة حتمية عن التاريخ الدقيق الذي سجل فيه الفيديو ومكانه تحديدًا، رغم ادعاء وزارة الدفاع العراقية أن الفيديو تم تصويره تحت الأرض دون أن تحدد المكان.
أواخر شهر أبريل الماضي، أعاد ظهور أبي بكر البغدادي المفاجئ للجميع، الحديث عن التقنيات والأساليب التي يعتمدها الرجل في التخفي والتنقل بأمان، وهو الموضوع الذي لم يتمكن كبار المتخصصين والباحثين في شؤون الجماعات الجهادية من حسمه إلى حد اللحظة، رغم تقديم كثير منهم لقراءات واقعية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، تغير التكتيكات وأساليب الخداع والتخفي التي يتبعها قيادات الصف الأول في تنظيم الدولة، باستمرار.
من نافلة القول، إن الجماعات الجهادية التي خسرت مئات إن لم نقل آلافًا من قياديي صفوفها الأولى في الحرب العالمية على الإرهاب منذ نحو عقدين من الزمن، لم تكن الرابح في معارك الكر والفر هذه، بل كانت الخاسر الأكبر، إذا علمنا أن مؤسسيها البارزين على غرار أبي مصعب الزرقاوي وأبي عمر البغدادي وأسامة بن لادن، على التوالي، كانوا ضحية تفوق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حربهم الاستخبارية على قيادات الجهاديين.
البغدادي في سوريا بالفرات، البغدادي في الأنبار، البغدادي في ليبيا، وغيرها من الأخبار الكاذبة التي بثتها وسائل الإعلام العربية والدولية في أكثر مناسبة، أكدت حجم التخبط الذي تعيشه استخبارات التحالف الدولي في كشف مكان الرجل الأول في صفوف تنظيم الدولة
ليس الحديث عن التكتيكات التي يتبعها قيادات الصف الأول في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية وهيئة التحرير الشام، بالأمر الهين، ولعل عجز التحالف الدولي في القضاء على زعيمي التنظيمين أو استهدافهما أو اعتقالهما، يمثّل دليلاً بارزًا على ما فتئ المحللون يؤكدونه من التغير المستمر في التكتيكات المتبعة من فرق الحماية المسؤولة عن تأمين الرجلين، رغم فقدان كثير من عناصر هاته الفرق الخاصة لحياتهم فداء لأميريهما.
البغدادي في سوريا بالفرات، البغدادي في الأنبار، البغدادي في ليبيا، وغيرها من الأخبار الكاذبة التي بثتها وسائل الإعلام العربية والدولية في أكثر مناسبة، أكدت حجم التخبط الذي تعيشه استخبارات التحالف الدولي في الكشف عن مكان الرجل الأول في صفوف تنظيم الدولة رغم رصد 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكانه المجهول، ومحاولتها اليائسة في الوصول إلى معلومات مؤكدة عن “الخليفة”.
لم يكن إعلان المكان المحتمل لوجود أبي بكر البغدادي الوسيلة الوحيدة المتبعة من التحالف الدولي في محاولته للحصول على معلومات قد توصلهم إليه، فالإعلان الدوري من الاستخبارات العراقية عن مقتله أو إصابته أو استهداف مكان متحصن فيه، ليس إلا طريقة قديمة لتحقيق مبتغاهم، من خلال إدخال البلبلة والشك في صفوف مقاتلي التنظيم الذين سيحاولون التأكد من سلامة أميرهم، وهو ما سيسهل الأمر على متعقبي البغدادي لاختراق قنوات التواصل وتعقب آثاره.
ليس البغدادي شبحًا، ولا يقيم في سرداب، بل المؤكد أن الرجل على الأرض وليس مختفيًا تحتها، لكن مكانه فوق هذه الأرض، ليس معلومًا لأحد
لا يعرف أحد طريقة تنقل أبي بكر البغدادي أو أبي محمد الجولاني على وجه التحديد، لكن الفرق بين تأمينات الرجلين كبير جدًا، حيث يعتبر الأول المطلوب الأمني رقم واحد من كل دول العالم ويتنقل في مسافات شاسعة وواسعة بين دولتين متجاورتين هما العراق وسوريا، في حين يوجد زعيم هيئة تحرير الشام في مساحة معلومة، يسهل مراقبتها كما يسهل متابعة من فيها بالمقارنة بزعيم تنظيم الدولة، لذلك فإن خطط تأمين القياديين الجهاديين تختلف من واحد لآخر.
ليس البغدادي شبحًا، ولا يقيم في سرداب، بل المؤكد أن الرجل على الأرض وليس مختفيًا تحتها، لكن مكانه فوق هذه الأرض، ليس معلومًا لأحد حتى لـ”أم سياف” أرملة وزير النفط السابق في تنظيم الدولة، التونسي فتحي بن عون بن جيلدي مراد، التي التجأت إليها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA” أملاً في الحصول منها على معلومات لتعقب أبي بكر البغدادي.
لا أحد منا يعلم متى وكيف ستكون نهاية الرجلين، ولكننا متأكدون من أنهما يتابعان أولاً بأول تفاصيل ما يحدث في العالم بأسره، استنادًا إلى مضمون كلماتهما ورسائلهما الصوتية والمرئية الدورية، وهو ما يزيد الضغط على التحالف الدولي الذي عجز بعد 5 سنوات من التدخل العسكري في العراق وسوريا، عن القضاء على زعيمي تنظيمين جهاديين، لا يزالان يتوعدان خصومهما بالهزيمة.