بعد 25 شهرًا من تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع الدوحة على خلفية الأزمة الخليجية، أصدر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، مرسومًا ملكيًا، أمس الثلاثاء، بالموافقة على تسمية الأمين العام لوزارة الخارجية زيد اللوزي سفيرًا للمملكة لدى قطر.
التليفزيون الرسمي الأردني أشار في الوقت ذاته إلى أن الحكومة وافقت على قرار الدوحة ترشيح الشيخ سعود بن ناصر آل ثاني ليكون سفيرًا فوق العادة ومفوضًا لها لدى المملكة، لتعود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوياتها السابقة، ما قبل الـ5 من يونيو/حزيران 2017.
خطوة أولى نحو كسر الحصار الذي فرضه الرباعي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) عززتها حزمة من المستجدات الإقليمية والمصالح المشتركة التي دفعت عمان إلى إعادة النظر في توجهاتها حيال قطر خاصة بعدما أبدته الأخيرة من حسن نوايا ومد يد العون لأشقائها الأردنيين رغم الموقف السياسي الرسمي.
جدير بالذكر أنه قبل أسبوعين وخلال لقائه بعدد من الصحفيين والكتاب تحدث العاهل الأردني عن “بشرة خير” حينما سئل عن عدم وجود سفير أردني في الدوحة والعكس، واعدًا الحضور بـ”مفاجأة سارة قريبًا”، ما دفع وسائل إعلام أردنية للتنبؤ بحراك دبلوماسي يعيد العلاقات بين البلدين إلى مجرياتها الطبيعية.
وكان الأردن وبضغوط من السعودية والإمارات خفض مستوى تمثيله الدبلوماسي مع الدوحة وألغى تراخيص مكتب قناة الجزيرة، إلا أن رياح السياسة وعواصف الاقتصاد التي هبت على المنطقة كانت الدافع وراء التقارب التدريجي بين قيادة البلدين، هذا بخلاف الحفاظ على التفاهمات العسكرية والأمنية التي تراعي المصالح المشتركة بينهما.
العلاقات لم تنقطع
خلال العامين الماضيين لم تنقطع العلاقات بين البلدين رغم تخفيض التمثيل الدبلوماسي بينهما، الأمر الذي أبقى على شعرة معاوية في فتح باب الحوار والتعاون، وهو ما دفع رويدًا رويدًا إلى تقريب وجهات النظر وتلاشي مؤشرات المضي في طريق الخصومة، ولعل هذا كان رأي الشارع الأردني الذي لم يجد مبررًا لاتخاذ حكومته هذا الموقف منذ الوهلة الأولى.
الباحثة السياسية نادية سعد الدين مديرة تحرير جريدة “الغد” الأردنية، قالت تعليقًا على المرسوم الملكي: “قرار الأردن بإعادة التمثيل الدبلوماسي في قطر يشكل خطوة متقدمة نحو مسار أكثر تطورًا في العلاقات بين البلدين، التي لم تنقطع كليًا حتى من بعد اتخاذ الأردن موقفًا مساندًا بالحد الأدنى لجانب دول السعودية – الإمارات – البحرين – مصر في قرار مقاطعتها الكاملة لقطر”.
وأضافت “الزيارات المتبادلة استمرت على خط عمان – الدوحة، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 400 مليون دولار، فيما تحتل قطر المرتبة الثالثة عالميًا من حيث حجم الاستثمارات في الأردن، الذي يقدر بنحو ملياري دولار، وفق المعطيات الرسمية الأردنية لعام 2018، عدا تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة تنفيذ توجيهات الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، حيال توفير 10 آلاف فرصة عمل للشباب الأردني في قطر”،
وتابعت “من ذلك، لا أستبعد أن تشهد العلاقات الأردنية القطرية تطورًا لافتًا خلال الفترة القادمة، عند الانتقال من الزخم العلائقي الاقتصادي نحو الباب الدبلوماسي السياسي الذي كان مغلقًا حتى وقت قريب”، وفق تصريحات أدلت بها لوكالة “سبوتنيك”.
مدير مركز دراسات الشرق الأوسط جواد الحمد، قال: “الموقفَ الأردنيَّ تجاه قطر لم يكن موقفًا عدائيًا، ولم يتطابق مع موقف دول أخرى، اكتفت المملكة بإجراءات رمزية، فلم تتوقف خطوط الطيران، وحافظ الأردن على العلاقات التجارية والأيدي العاملة، وهذه من العوامل التي تسهل عودة العلاقات بين البلدين بشكل دائم”.
استمرار الزيارات المتبادلة بين الدولتين رغم تخفيض التمثيل الدبلوماسي
دبلوماسية الدوحة
منذ بداية الأزمة انتهجت الدوحة دبلوماسية من نوع مختلف، تعتمد في المقام الأول على تنحية الخلافات والمضي قدمًا في بدء صفحات جديدة، متخلية بذلك عن أي سابقة من شأنها أن تعكر صفو العلاقات مع أي دولة كانت، ومن ثم لم تنظر للبعد السياسي وفقط في علاقاتها بالدول الأخرى.
ففي الوقت الذي رضخت فيه عمان لضغوط أبو ظبي والرياض وتماشت مع موجة قطع العلاقات، وإن اكتفت بالحد الأدنى منها، كانت الدوحة تمد يد العون للأردنيين، بصورة وضعت السلطات الأردنية في موقف حرج، أمام مواطنيها في المقام الأول، وعلى مستوى استقلالية قرارها الخارجي في المقام الثاني.
تتجسد تلك الدبلوماسية في أبهى صورها في أغسطس 2018 حين أعلنت الدوحة تقديم حزمة مساعدات بقيمة 500 مليون دولار إلى الأردن، تشمل استثمارات وتمويل مشاريع، وتوفير نحو 10 آلاف فرصة عمل لتوظيف الأردنيين، ومن ثم توالت الزيارات الرسمية بين البلدين.
المحلل السياسي القطري الدكتور جاسم بن ناصر آل ثاني، عضو اللجنة الأوروبية للقانون الدولي، قال: “الأردن يتطلع إلى علاقات متميزة مع دولة قطر، بعد مواقف الدوحة المشهودة حتى في ظل تخفيض الأردن لتمثيله الدبلوماسي”، مضيفًا أن بلاده “وقفت مع الأردن في أزمته الاقتصادية، ما جعله – الأردن – يجد أن لا مبرر لعدم إعادة الأوضاع لما كانت عليه في السابق قبل الأزمة الخليجية”.
وأضاف في تصريحات له “الأردن لم يكن مشمولًا بأي ادعاءات بأضرار أمنية، أو لديه خلافات مع قطر، فمن الطبيعي أن تعود العلاقات أفضل مما كانت عليه”، وتابع “قيام المملكة بتعيين وزير أردني ليمثل بلاده في قطر يعد دليلًا على حرص القيادة الأردنية لمستقبل أفضل في العلاقات بين البلدين، وكذلك قامت دولة قطر بالمقابل بتعيين أحد أفراد الأسرة الحاكمة سفيرًا لها بالأردن”.
معروف أنه ومع بداية فرض الحلف الرباعي حصاره على قطر، بدا وكأن الأردن وجد نفسه في مأزق، يحاول أن يخرج منه بأقل الخسائر، فهو من ناحية لا يريد إغضاب السعودية التي يعتمد على دعمها المالي للحصول على مساعدات، وفي الوقت ذاته لا يؤيد السياسات الهجومية السعودية – الإماراتية، بما فيها حصار قطر التي يربطه بها علاقات قوية.
ومع حرص عمان على إرضاء الرياض ركبت حافلة المقاطعة بعد يومين فقط من إعلان دول الحصار قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، وسط تساؤلات حينها عن دوافع هذه الخطوة غير المبررة التي شكلت فيما بعد ضغوطًا قوية على الحكومة الأردنية التي لم تجد مبررات كافية للرد على تساؤلات الشارع.
نائب رئيس الوزراء الأردني السابق ممدوح العبادي، في حديث له أشار إلى أن “الأردن بدأ ينسحب تدريجيًا من الحلف السعودي الإماراتي، للتخلص من الضغوط التي تمارس عليه فيما يتعلق بصفقة القرن، والأردن عمليًا لم يلتزم مع السعودية والإمارات بقطع العلاقات كاملة مع قطر، وأعتقد أن الأوان آن بعد سنتين أن يثبت الأردن استقلاليته وحياديته من خلال سياسة خارجية تكون أكثر اعتدالاً وتبعد عن المحاور”.
كانت القضية الفلسطينية وعلى الأخص منها القدس حاضرة وبقوة في إحداث التقارب وعودة العلاقات كاملة، في ظل الموقف القطري الواضح من مسألة دعم الوصاية الأردنية الهاشمية التاريخية على المقدسات الدينية
لماذا الآن؟
“الأردن لديه فلسفة جديدة من شقين: الأول إعادة التموضع والمحافظة على مصالحه العليا بعيدًا عن المحاور التي يصعب خوض معاركها، ثانيًا أن الأردن اقتنع بتنويع خياراته العربية والإسلامية والدولية في الوقت الراهن حتى لا يتعرض إلى ضغوط لا يستطيع تحملها من أي طرف كان”، بهذه الكلمات أجاب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط جواد الحمد عن سؤال بشأن توقيت إعادة العلاقات بين البلدين.
العديد من الأسباب كانت وراء إعادة العلاقات في هذا التوقيت على وجه التحديد، على رأسها الضغوط الاقتصادية التي تواجهها المملكة، خاصة أنها لم تجن حصاد تبعيتها للقرار السعودي الإماراتي، ما دفعها للتساؤل عن جدوى الاستمرار في هذا الموقف الذي كلفها ولا يزال الكثير والكثير.
جهود الدوحة في احتواء الأزمة الاقتصادية الأردنية عبر العديد من المساعدات وتعزيز التعاون المشترك وفتح آفاق جديدة للعمالة الأردنية شكلت ضغطًا على الحكومة التي لا ترغب في غلق هذا الباب الذي يمثل لها قيمة كبيرة في هذه المرحلة الحرجة، تزامن هذا مع ضغوط شعبية وبرلمانية أخرى.
كانت القضية الفلسطينية وعلى الأخص منها القدس حاضرة وبقوة في إحداث التقارب وعودة العلاقات كاملة، في ظل الموقف القطري الواضح من مسألة دعم الوصاية الأردنية الهاشمية التاريخية على المقدسات الدينية، الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة، أمام المساعي السعودية المضادة لنسب الوصاية على تلك المقدسات لنفسها وسحب البساط بأكمله من تحت الأردن، مما أحدث توترًا في العلاقة الأردنية السعودية مؤخرًا.
الأمين العام لوزارة الخارجية الأردنية زيد اللوزي
ماذا عن العلاقات الأردنية الخليجية؟
السؤال الأبرز الذي طرح نفسه بعد ساعات قليلة من إعلان المرسوم الملكي بعودة العلاقات الدبلوماسية مع قطر: ماذا عن علاقات عمان مع حلفائها الخليجيين، السعودية على الأخص؟ وهل من الممكن أن تؤثر خطوة كهذه على طبيعة تلك العلاقات؟ أسئلة أجابت عنها المملكة من خلال سياستها الجديدة المنتهجة خلال الأشهر الماضية وإن لم تكن بشكل مباشر.
لا شك أن تعيين سفير في الدوحة يشكل ذروة سياسات انتهجتها عمان بحذر خلال السنوات الماضية، للافتراق بهدوء عن السياسة السعودية، هدوء كان تخترقه أحيانًا قرارات لا يمكن وصفها بالهادئة، اتَّخذتها المملكة الهاشمية وهي تعلم أنها تخاطر بإغضاب جارتها الجنوبية.
رغم ما يمثله الموقف الأردني من دعم واضح لسياسة القفز من المركب السعودي، فإن تبعاته على مستقبل العلاقات بين البلدين من المتوقع ألا تذهب إلى آفاق من شأنها إحداث زلزال في هذه العلاقة، خاصة أن هذا الموقف ليس الأول من نوعه الذي تعزف فيه عمان على وتر الخلاف مع الرياض.
تأتي صفقة القرن لتشكل الخلاف الأكبر بين البلدين، خلاف إن لم يستطع الأردن الإفصاح عنه بشكل مباشر ورسمي، إلا أنه لم يخف رفضه لأهداف الصفقة
العامان الماضيان شهدا مواقف عدة عمقت حجم الهوة بين البلدين، على رأسها الخلافات بشأن سوريا، وإن كانت الأقل حدّة على الأرجح من بين كل القضايا الخلافية بين الجانبين السعودي والأردني، خاصة بعد إرهاصات التطبيع التي أبداها النظام الأردني مع نظام بشار الأسد.
كذك جاء قرار العاهل الأردني بحضور القمة الإسلامية في إسطنبول، التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مايو/أيار 2018، للردِّ على قرارِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، رغم انخفاض التمثيل السعودي الذي عكس في ذلك الوقت جفاء العلاقة بين الرياض وأنقرة، مؤشرًا كبيرًا على اتساع الهوة بين الجانبين.
ثم تأتي صفقة القرن لتشكل الخلاف الأكبر بين البلدين، خلاف وإن لم يستطع الأردن الإفصاح عنه بشكل مباشر ورسمي، إلا أنه لم يخف رفضه لأهداف الصفقة، حتى لو شارك في ورشة المنامة التي دشَّنها على مضض، فقبول مثل هذه الصفقة يعني التنازل عن الرعاية الهاشمية للمقدسات في القدس، أو القبول بشراكة سعودية عليها، والقبول بتوطين اللاجئين، وما يترتب على ذلك من مشكلات داخلية للمملكة.
خطوة كهذه بجانب أنها تتويج للدبلوماسية القطرية ذات النفس الطويل، إلا أنها في الوقت ذاته أثارت تساؤلاً ربما من المبكر الإجابة عنه الآن: هل يكون القرار إسدالاً للستار على العلاقات السعودية الأردنية للأبد أم مقدمة لمصالحة سعودية قطرية قريبًا ربما تقوم عمان بدور الوساطة بها؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.