في ظل التحشيد الدولي المتواصل في المنطقة، تستعد وزارة الدفاع البريطانية لإرسال سفينة حربية ثالثة إلى الخليج العربي، وقالت الوزارة إنه سيتم إرسال السفينة الحربية دانكان، وهي فرقاطة من الفئة 45، إلى المنطقة “لضمان استمرار الوجود الأمني البحري البريطاني”، مضيفةً بأنه في وقت لاحق من العام سيتم إرسال السفينة كنت، وهي فرقاطة من الفئة 23، إلى المنطقة بدلًا من السفينة دانكان، وذكرت أنه سيتم إرسال سفينة الإمداد ويف نايت إلى الخليج في بداية أغسطس المقبل.
وإن كانت الوزارة قد قالت بأن “تلك التحركات المخططة منذ فترة طويلة لا تعكس تعزيزًا لتمركز المملكة المتحدة في المنطقة وهي روتينية”، وإن “الخطوة لا علاقة لها بأزمة إيران الحاليّة”، إلا أن المملكة المتحدة هي طرفٌ رئيسي في الصراع مع طهران، وخاصة في المنطقة التي تمتلك بها نفوذًا واسعًا وكبيرًا، ولا يمكن لتلك التحركات التي وإن كانت روتينية إلا أن تكون ذات مغزى في هذا الوقت.
وكانت بريطانيا قد أرسلت سفينة وأربعة زوارق مضادة للألغام للتمركز بشكل دائم في المنطقة، وذلك بعد تهديدات إيران باستهداف سفن بريطانية على خلفية توقيف ناقلة نفط إيرانية قبالة سواحل جبل طارق، وفي أعقاب تعرض سفن لهجمات في مضيق هرمز، في شهر يونيو الماضي، قالت مصادر عسكرية، إن 100 عنصر من المشاة البحرية المتمركزة بالقرب من بليموث، سيشكلون قوة للرد السريع، وسيؤدون مهمتهم من سفن تابعة للبحرية تجوب المنطقة من قاعدة بحرية بريطانية جديدة في البحرين، كما ذكرت صحيفة “ذا تايمز“.
تدعونا هذه التحركات البريطانية الجديدة في منطقة الخليج العربي للغوص قليلًا بتاريخها في هذه المنطقة التي تتصارع عليها القوى العالمية تاريخيًا وحتى الآن، لغناها بالنفط والمواقع الاستراتيجية. ويدور اعتقاد سائد عند عموم الناس أن اليد المطلقة في الدول الخليجية إنما تحظى بها واشنطن، إلا أن هذا الاعتقاد يعوزه معرفة الدور المهم للإنجليز كقوة استعمارية تاريخيًا ومهيمنة على كثير من المفاصل حاليًا، فيما تعتبرها بعض الأنظمة قوة حامية ولا تعترف بأنها كانت قوة محتلة في يوم من الأيام وإنما كانت علاقات صداقة وتمتين أواصر.
بعد النفوذ المتصاعد للمملكة في الخليج نشب صراع بين الإنجليز وقبيلة القواسم الذين كونوا آنذاك إمارة كبيرة في رأس الخيمة والشارقة وبندر لنجة وكانوا يفرضون الضرائب على السفن المارة من مضيق هرمز، الأمر الذي لم يرق للأنجليز فأرسلوا حملة عسكرية بحرية عام 1820 نحو رأس الخيمة، دمرت سفن القواسم بالكامل، وضربت معاقلهم بالمدفعية لمدة ستة أيام
التاريخ الإنجليزي في الخليج العربي
ربما كان الدخول الأبرز لبريطانيا إلى منطقة الخليج العربي عبر بوابة مؤسسة الهند الشرقية، التي تأسست كمشروع تجاري صغير على يد تجار مدينة لندن، الذي حصل على ميثاق ملكي سنة 1600 أدى لمنحه احتكار التجارة الإنجليزية في جميع مناطق آسيا والمحيط الهادئ وساهم وجود المؤسسة في صياغة تاريخ جديد للمنطقة الخليجية.
ازداد حضور الشركة في الخليج بعد أن طارت مرابحها في الهند وسعت إلى توسيع نشاطها لتصل إلى بلاد فارس، حيث إن الخليج العربي كان أحد أهم مسالكها، الأمر الذي استدعاها إلى البدء بالتفكير بحماية مصالحها وسفنها عبر استخدام قوات عسكرية بريطانية بحرية، وكان جزء كبير من هذه التحركات يقوم على الإستراتيجية التي تتبعها بريطانيا لمنع القوى الاستعمارية المتنافسة من التدخل في الخليج. وأصبحت الشركة دون أيّ منافسة أجنبية تذكر في الخليج، وغدا الميزان التجاري في منطقة الخليج العربي لصالحها، وأصبحت المناطق المطلة على الخليج العربي من الأسواق الرئيسة للشركة، حتى إن العملات الذهبية كانت تخرج من مناطق الخليج العربي دون قيود بما فيها اللؤلؤ.
وبعد النفوذ المتصاعد للمملكة في الخليج نشب صراع بين الإنجليز وقبيلة القواسم الذين كونوا آنذاك إمارة كبيرة في رأس الخيمة والشارقة وبندر لنجة وكانوا يفرضون الضرائب على السفن المارة من مضيق هرمز، الأمر الذي لم يرق للإنجليز فأرسلوا حملة عسكرية بحرية عام 1820 نحو رأس الخيمة، دمرت سفن القواسم بالكامل، وضربت معاقلهم بالمدفعية لمدة ستة أيام.
وعقب الانتصار الساحق للإنجليز على القواسم فرضوا معاهدة لمكافحة القرصنة عرفت باسم معاهدة السلام، واستحدثوا منصب الوكيل السياسي في الخليج العربي لتفعيل الاتفاقية وإدارة علاقاتهم مع الحكام المحليين وحماية التجارة البريطانية في الخليج، وبدأ ممارسة مهام منصبه للمرة الأولى من جزيرة قشم، ثم انتقل إلى بوشهر على البر الرئيسي، وكان الوكيل فيما بعد صاحب أعلى السلطات في المنطقة.
دأبت بريطانيا على توقيع اتفاقيات منفردة مع الحكام المحليين لدول الخليج مما زاد بسط نفوذها في المنطقة، وبذلك يكسب الحكام حمايةً لعروشهم وتأمين بلدانهم، وانتهت تلك الاتفاقيات بما يسمى بمعاهدة السلم الدائم عام 1853 التي تعهد الشيوخ بموجبها برد خلافتهم إلى المقيم السياسي البريطاني ليبت فيها. وبهذا أصبح نفوذ المقيم طاغيًا على أي حكم آخر.
أدى تحالف البريطانيين مع شريف مكة والهاشميين ومع آل سعود، إلى تكوين نظام جديد في المنطقة، ومن خلال هذا التحالف استطاع عبد العزيز آل سعود، القضاء على منافسيه من آل الرشيد الذين كانوا يحكمون حائل
لم تبذل الدولة العثمانية محاولات لبسط نفوذها على الخليج العربي قبل عام 1869، إلا أن اهتمامهم بدأ يتجه نحو المنطقة بعد فتح قناة السويس أمام الملاحة العالمية، ولعب الصراع العثماني البريطاني في الخليج بنهاية المطاف دورًا كبيرًا في تشكيل الخرائط السياسية في شبه الجزيرة لعربية حيث أدى تحالف البريطانيين مع شريف مكة والهاشميين ومع آل سعود، إلى تكوين نظام إقليمي جديد في المشرق العربي.
وبعد 1947، واستقلال الهند “تولت الحكومة البريطانية في لندن مسؤولية المحافظة على النفوذ البريطاني في الخليج. وخلال هذه الحقبة، كان اكتشاف حقول النفط الهائلة يعني اكتساب منطقة الخليج أهمية جيوستراتيجية كبيرة في حد ذاتها ولم تعد أهميتها تكمن بعد في علاقتها بالهند وقربها منها”، وبقيت السيطرة البريطانية على المنطقة حتى استقلال الدول الخليجية عام 1971 بعد أعوام من الهيمنة التي لم تنتهي بزوال الاستعمار العسكري.
حكام خليجيون بصناعة بريطانية
في بعض الملفات السرية التي كُشف عنها في لندن، وبحسب موقع “ميدل إيست“، فإن بريطانيا ساعدت السلطان سعيد بن تيمور في قصف المحتجين على حكمه عام 1957، كما شاركت القوات الجوية البريطانية بالقصف للبنى التحتية، فيما ساهمت بريطانيا بقمع انتفاضة ظفار بعد سنوات من الثورة على بن تيمور، وذكر الموقع أن رد السلطان كان أقوى على الثورة بمساعدة الضباط الإنجليز.
وفي عام 1868 وقعت بريطانيا معاهدة مع الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في البحرين، وفي عام 1869 تولى الشيخ عيسى بن علي الإمارة، وأجرى عام 1897 تنظيمًا لانتقال الحكم في ذريت، طالبًا من حكومة الإنجليز الاعتراف به، واعترفت حكومة الهند البريطانية بتنصيب الشيخ حمد وليًا للعهد، وصدقت الحكومة البريطانية المركزية على ذلك، ولكنها تأخرت في إبلاغ الشيخ عيسى حتى عام 1901 لأنها كانت تريد منه ملاحقة بعض الشيوخ والقبائل المزعجة لبريطانيا.
من جهة أخرى أدى تحالف البريطانيين مع شريف مكة والهاشميين ومع آل سعود، إلى تكوين نظام جديد في المنطقة، ومن خلال هذا التحالف استطاع عبد العزيز آل سعود، القضاء على منافسيه من آل الرشيد الذين كانوا يحكمون حائل، وأحكم آل سعود قبضتهم بمساعدة بريطانية على السعودية، فيما استطاع الهاشميون بالتعاون مع الإنكليز من طرد العثمانيين من الولايات التي يسيطرون عليها من خلال الضابط الإنجليزي توماس لورنس، وما زال الهاشميون يحتفظون إلى اليوم بالأردن برعاية بريطانية.
تجدر الإشارة إلى أن أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانيا، خرجت غالب ملوك الخليج الذين جاؤوا إلى الحكم بتسهيل بريطاني وما زالت تخرج أبناءهم وذويهم الذين يتعلمون فيها المهارات العسكرية والفكرية، ومن أبرز حكام الخليج السابقين الذين التحقوا وتخرجوا في أكاديمية ساندهيرست، أمير الكويت سعد عبد الله الصباح وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة، أما من الحكام الحاليّين فأمير قطر تميم بن حمد آل خليفة وملك الأردن عبد الله بن حسين والسلطان العُماني قابوس بن حسين وملك البحرين حمد بن عيسى.
وتلقت الأكاديمية عام 2013 منحةً مقدمة من دولة الإمارات المتحدة تقدر بـ15 مليون إسترليني لبناء مجمع سكني يحمل اسم الشيخ زايد آل نهيان رئيس الدولة الإماراتية، كما تبرع أيضًا ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى بمبلغ يقدر بـ3 ملايين إسترليني أيضًا لافتتاح صالة مونس، الجدير بالذكر أنه في الفصل الثالث من دورة تدريب الضباط بمؤسسة ساند هيرست تُلقَّن أساليب مكافحة التمرد وإدارة الاضطرابات العامة.
القواعد البريطانية في الخليج
بعد أن انسحبت بريطانيا من قواعدها في الخليج عام 1971 في خطوة أدت إلى استقلال البحرين وقطر وإنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة، تعاود المملكة المتحدة حاليًا بناء قواعدها العسكرية في المنطقة، وشرعت عام 2015 ببناء قاعدة عسكرية دائمة في ميناء سلمان بالبحرين، بقيمة 19 مليون يورو. وأعلنت المنامة أن بناء القاعدة الجديدة “من شأنه تكريس الشراكة بين البلدين الصديقين وتمكين تلك القوات من أداء المهام المناطة إليها بفاعلية”.
وتستضيف القاعدة البريطانية التي افتتحت عام 2018 نحو 500 من عناصر البحرية البريطانية بينهم بحارة وجنود وطيارون، ومن أبرز مهامها ضمان تحرك شحنات النفط والبضائع من آسيا إلى أوروبا.
وفي العام الماضي أعلنت بريطانيا أنها ستفتح قاعدة تدريب عسكري مشتركة في سلطنة عمان، وأجرت بريطانيا مع مسقط مناورات عسكرية باسم “السيف السريع 3″، استمرت شهرًا وكلفت بريطانيا نحو 100 مليون إسترليني، وشارك فيها آلاف الجنود. وستضم القاعدة حاملتي طائرات تبلغ طاقتهما 65 ألف طن يتم تشييدهما للبحرية الملكية. كما تم إنشاء منطقة تدريب عمانية – بريطانية جديدة لتسهيل وجود دائم للجيش البريطاني في المنطقة، ونقل موقع ميدل إيست أن السلطنة استوردت أسلحة من لندن بقيمة 2.4 مليار دولار في الفترة بين 2014 و 2018.
وتعتبر القاعدة الجوية في قاعدة المنهاد في دبي التي تحولت منذ 2001 إلى قاعدة قوات متعددة الجنسيات الغربية وتُستخدم في مهمات التدريب والخدمات اللوجستية، علاوة على الترفية نظرًا لقربها من مدينة دبي، إلا أن توسيع هذه القاعدة سيتيحها كقاعدة ثابتة لسلاح الجو البريطاني.
علاقات أبعد من العسكرة
واخرطت بريطانيا بشكل واضح في تمويل حملة السعودية بحربها على اليمن، من صادرات أسلحة وذخائر، حيث إن نصف سلاح الجو السعودي هو بريطاني، وهذا يشمل الصيانة وقطع الغيار والمكونات، وقبل كل شيء، تجديد مخزونات القنابل والصواريخ. لكن أهمية علاقات المملكة المتحدة مع السعودية وغيرها من دول الخليج تتجاوز بكثير ربحية مبيعات الأسلحة.
وتشكل دول الخليج الستة مجتمعة سوق تصدير مهم وأساسي بالنسبة للمملكة المتحدة التي تعاني من العجز التجاري الناتج عن سياسات رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، وعلى ذلك تعد هذه الدول ولا سيما السعودية عنصرًا مهمًا في توفير الفائض التجاري اللازم لحماية اقتصادها، يضاف إلى ذلك دور قطر والإمارات في بنك باركيز واستثماراتهما الرياضية في نادي مانشستر سيتي.