في هذه الأيام، أصبحت تركيا في مشكلة مع التعامل مع المفاهيم السياسية وقضاياها العملية بشأن ليبيا، حيث تغيرت صورة السياسة الخارجية التركية الناجحة بعد الأحداث المتأزمة التي شهدتها ليبيا، ما يستدعي التركيز على موقف تركيا من التطورات في ليبيا، والبحث عن جذور تطور موقف المسؤولين الأتراك، والأسباب وراء دعم تركيا للانضمام إلى عملية “الناتو” في ليبيا بعد الاعتراض عليها، فهل هي معركة “السياسة الأخلاقية” أم أن هناك خلفية مختلفة وراء هذا التغير السياسي لتركيا؟
تركيا من المعارضة إلى “الناتو“
حين بدأت الانتفاضة ضد الزعيم الليبي معمر القذافي عام 2011، عارضت تركيا في البداية أي عملية عسكرية ضد ليبيا، ورأت أن التدخل العسكري من “الناتو” في ليبيا أو أي دولة أخرى سيكون له نتائج عكسية تمامًا، كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتدى دولي في إسطنبول، مضيفًا “إضافة إلى كونه عكسيًا، مثل هذه العملية يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة، نحن نعارض التدخل الأجنبي لأن الليبيين يعارضونه”.
من ناحية أخرى، انتقدت تركيا الموقف الغربي من ليبيا على المستوى الحكومي، ورأت أن دول الغرب تنظر إلى الشرق الأوسط وإفريقيا على أنها مجرد مصادر للنفط واستخدمت كبيادق في حروب النفط منذ عقود، وبمعنى آخر، فسرت تركيا سعي الناتو للتدخل العسكري باعتباره فرصة للقوى العظمى – فرنسا على وجه الخصوص – لاستعادة نفوذها في شمال إفريقيا، بالإضافة إلى ذلك، دعا أردوغان المجتمع الدولي والدول الغربية إلى التعامل مع القضية الليبية من منظور إنساني، وليس على أساس المصالح النفطية.
كانت براغماتية الموقف التركي قائمة على واقعية السياسة الخارجية التركية التي تسعى -كما تفعل القوى الغربية- إلى موازنة المكاسب والخسائر المحتملة التي تؤثر على مصالحها الوطنية قبل إنتاج سياسة تدخل نحو ليبيا
هذه التصريحات تبعتها العديد من الانتقادات في وسائل الإعلام الغربية، لأنه بينما كانت تركيا تدعم المحتجين المصريين ضد نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، فإنها تعمل بشكل مستقل عن منطق سياستها الخارجية في ليبيا. علاوة على ذلك، كان الرد على الانتفاضة الليبية يتناقض بشكل حاد مع إدانة تركيا القوية لحسني مبارك خلال الثورة المصرية، واحتضان الثورة التونسية كنموذج للمنطقة، وبررت تركيا موقفها بحجة أن العقوبات ستضر بالشعب الليبي، وأن لا أحد في ليبيا يريد التدخل العسكري.
رد فعل تركيا الصامت على الأحداث الجارية في ليبيا حينها، ولا سيما معارضتها لاتخاذ إجراءات ضد نظام العقيد القذافي، جرى تفسيره مبدئيًا بجهود الإجلاء الهائلة التي تم تنفيذها، وتركز رفض تركيا لأسباب عدة منها: عدم تحويل ليبيا إلى العراق، والتأكد من أن العملية لا تؤدي إلى احتلال ولا تخلق فكرة أن القوى الأجنبية تريد تقسيم موارد ليبيا، وإبقاء التدخل محدودًا، والتأكد من عدم قتل المدنيين في ليبيا، بالإضافة إلى وضع الحساسيات الإقليمية في الاعتبار.
غير هذه الأسباب، تم تقييم أول موقف معارض لتركيا ضد أي عملية لليبيا بشكل أساسي بربطه باستثماراتها الكبيرة في البلاد واتصالاتها الشخصية الوثيقة بين قادتها، بالإضافة إلى جائزة “حقوق الإنسان” التي حظيت بشهرة واسعة، وحصل عليها أردوغان من القذافي في ديسمبر/كانون الأول 2010.
مقاتلون موالون للحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة يحملون صواريخ “آر بي جي” خلال اشتباكات مع قوات موالية لخليفة حفتر
كذلك هناك مصالح اقتصادية وطنية أكثر إلحاحًا، فعلى مدار الأعوام العشر التي سبقت الثورة الليبية، فازت تركيا تقريبًا بجميع عقود البناء المربحة في ليبيا، وبالتالي كان هناك ما يصل إلى 30 ألف مواطن تركي يعملون ويمارسون أعمالهم في ليبيا، وهو ما جعل العوامل الاقتصادية من المحتمل أن تلعب دورًا في سياسة تركيا تجاه ليبيا، ومع ذلك، لم تكن فكرة قيام تحالف غربي بعمليات عسكرية في بلد مسلم جذابة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي له جذوره في الإسلام السياسي.
وفي هذه العملية، اتهم العديد من المنتقدين تركيا بأنها “براغماتية” في ديمقراطيتها ودفاعها عن حقوق الإنسان، لكن لم تكن تركيا مبالية وغيرت موقفها من ليبيا بتأييد الانضمام إلى عملية “الناتو” في ليبيا، وبعبارة أخرى، كانت “براغماتية” الموقف التركي قائمة على واقعية السياسة الخارجية التركية التي تسعى – كما تفعل القوى الغربية – إلى موازنة المكاسب والخسائر المحتملة التي تؤثر على مصالحها الوطنية قبل إنتاج سياسة تدخل نحو ليبيا.
في يوم 24 من مارس/آذار، التقى وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو مع القائد العسكري الأعلى للناتو الأدميرال جيمس ستافريديس في أنقرة، وانضم أخيرًا إلى الضغط الأمريكي لفرض منطقة حظر الطيران التابعة لحلف “الناتو” بشرط يجب أن تقتصر قواعد الاشتباك في ليبيا على حماية المدنيين، وحظر الأسلحة، وتقديم المساعدات الإنسانية، باستثناء أي غارات جوية أخرى ضد القوات البرية للقذافي.
بعد هذا الاجتماع، قيل إن “تركيا ستقدم المساهمة الوطنية الضرورية والملائمة لتنفيذ منطقة حظر الطيران التابعة للأمم المتحدة فوق ليبيا وإجراءات حماية المدنيين”، واعتبرت أنقرة أن ذلك لا يخالف موقفها المعارض للتدخل العسكري منذ البداية، في حين قال أردوغان للصحفيين “القرار إيجابي، لأنه يخرج فرنسا من المعادلة”، ويضمن إنقاذ الشعب الليبي من الاضطهاد بأكثر الطرق الممكنة وبأقل قدر من الضرر والخسارة.
عندما أصبحت الدولة الواقعة في شمال إفريقيا ملعبًا لمليشيات مختلفة، دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس، وأكدت مرارًا وتكرارًا أن العملية الديمقراطية هي الحل الوحيد للأزم
لكن ثمة أسباب أخرى وراء هذا التحوّل في سياسة تركيا تجاه ليبيا، فإذا لم تنضم تركيا إلى الدول التي تضغط أكثر فأكثر على معمر القذافي، فإنها تخاطر ليس فقط بفقدان مصداقيتها التي اكتسبها بصعوبة في المنطقة كداعية للديمقراطية، بل أيضًا وصولها إلى الاقتصاد الليبي بعد هزيمة القذافي، ويبدو من ذلك أن أنقرة تريد أن تكون أكثر قدرة على توجيه مسار التطورات من الداخل، وكذلك لتحقيق التوازن بين الطموح الفرنسي للعب الدور الريادي خلال هذه العملية.
ومن الجدير بالملاحظة أن الطريقة التي تصرفت بها تركيا خلال هذه الأزمة تشبه إلى حد كبير الطريقة التي استجابت بها البرازيل والصين والهند لدعوات تبني قرار الأمم المتحدة الذي سمح أخيرًا بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وكذلك اتخاذ بعض التدابير الاحترازية للمساعدة في حماية المدنيين من الهجمات العسكرية التي ساعدت في الإطاحة برجل ليبيا القوي معمر القذافي.
حرب بالوكالة
في الواقع، أصبحت قضية ليبيا اختبارًا مهمًا للسياسة الخارجية التركية، فمن جهة، تحاول حكومة حزب العدالة والتنمية موازنة القوى الإقليمية والدولية، ومن جهة أخرى، ينبغي أن تواجه حقائق أخرى، إذ من الممكن أن توازن تركيا موقف الغرب من ليبيا، لكن من الممكن أيضًا أن تكون بيدقًا لمشروع إمبريالي كبير جدًا في ليبيا.
ومنذ بداية ما يُشار إليه عادة باسم “الحرب الأهلية الليبية الثانية”، التي بدأت في عام 2014 وتستمر حتى الآن (الأولى كانت عندما أُطيح بالقذافي)، وعندما أصبحت الدولة الواقعة في شمال إفريقيا ملعبًا لمليشيات مختلفة، دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس، وأكدت مرارًا وتكرارًا أن العملية الديمقراطية هي الحل الوحيد للأزمة، كما تؤكد على سلامة أراضي ليبيا وسيادتها.
يعد دعم أنقرة لحكومة الوفاق الوطني أحد قرارات السياسة الخارجية العديدة التي وضعتها أنقرة لمواجهة مصر وحلفائها من دول الخليج
ومع تعرض البلاد إلى سلسلة من الأزمات السياسية المتعاقبة منذ سقوط القذافي، برز تدخل تركيا في ليبيا بصفة خاصة بعد العام 2014، حين رفضت العناصر الإسلامية التي تشكل حكومة الوفاق الوطني أن تعترف بالهزيمة في الانتخابات، مما أدى إلى تشكيل حكومة منافسة في طبرق يدعمها جيش حفتر.
من ناحية أخرى، فإن دولة الإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا ومصر تدعم حفتر وقواته غير الشرعية سياسيًا ولوجستيًا، ويتماشى الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي قدمه له التحالف السعودي الإماراتي بشكل مباشر مع محاولتهما مقاومة الثورة الليبية والحركات الديمقراطية في الدولة العربية تحت مسمى القتال ضد ما يسمى “المتطرفين”.
في حين كانت السياسة الأمريكية تجاه خليفة حفتر غير متسقة، فقد أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن دعمه له في مكالمة هاتفية مفاجئة، ولكن لم يتمكن حفتر من زيارة مسؤولي إدارة ترامب على الرغم من محاولة ترتيب الاجتماعات.
ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان (يمين) مع خليفة حفتر في أبو ظبي
ويكشف تقرير الأمم المتحدة أن ميليشيات حفتر تتلقى كمية كبيرة من الطائرات والمركبات العسكرية والإمدادات من الإمارات التي ساعدت أيضًا في بناء قاعدة جوية في منطقة تسيطر عليها الميليشيات، ما جعل هذا الدعم الذي يتلقاه اللواء المتقاعد من دول الخليج نتيجة لتأسيس نفسه كحصن ضد الحركات “المتطرفة” في شمال إفريقيا.
في المقابل، ساعد الدعم العسكري التركي، بما في ذلك شحنات من العربات المدرعة وطائرات دون طيار العسكرية، في إنقاذ القوات التابعة لحكومة الوفاق من هجوم شنه الجيش الوطني الليبي المنافس بقيادة خليفة حفتر، وهدد بالاستيلاء على العاصمة طرابلس هذا العام، لكنه أثار في الوقت نفسه احتمالية تحرك مصري مماثل، وعزز مخاوف التصعيد العسكري في البلد الذي مزقته الحرب.
ويعد دعم أنقرة لحكومة الوفاق الوطني أحد قرارات السياسة الخارجية العديدة التي وضعتها أنقرة لمواجهة مصر وحلفائها من دول الخليج، مما دفع بعض المحللين إلى وصف الصراع الليبي بأنه حرب بالوكالة الإقليمية.
محاولة جر تركيا إلى ساحة المعركة
بينما ظلّ يكافح “أمير الحرب” المنشق خليفة حفتر لتوسيع حكمه على ليبيا، ازداد غضبه من دعم تركيا للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، فبعد تلقيه ضربة موجعة في إطار هجومه على طرابلس، اتهم حفتر أنقرة بتقديم دعم عسكري لخصومه قوات حكومة الوفاق الوطني، وأمر حفتر قواته بضرب الأهداف التركية.
لا تأتي المتاعب إلى معسكر اللواء المتقاعد فرادى، فبعد طرده من غريان وجد حفتر نفسه محل تحذير ليس فيه مُزاح ولا يحتمل تجاهلاً، وبلغت التوترات بين تركيا وليبيا ذروتها في مطلع الشهر الحاليّ عندما أطلق المتحدث باسمه اللواء أحمد المسماري تهديدًا باستهداف المصالح التركية ومنع الرحلات من تركيا وإليها والقبض على الرعايا الأتراك في ليبيا.
يبدو أن انشغال جبهة اللواء خليفة حفتر الداخلية بمعركة مفترضة ضد تركيا أفضل من الانشغال بالحديث عن هزيمته في معركة فعلية في غريان
باتت الأهداف التركية مشروعة وفي مرمي قوات حفتر، لكن قواته نفذت تهديدها، فبعد يومين فقط من أمر حفتر قواته بمهاجمة والسفن المواطنين الأتراك، أعلنت وزارة الخارجية التركية أن “قوات حفتر غير الشرعية” قد احتجزت 6 مواطنين أتراك في أعمال وصفتها بـ”البلطجة والقرصنة”.
وهذه لم تكن المرة الأولى التي تستهدف فيها قوات حفتر السفن التركية والمواطنين في ليبيا، على سبيل المثال، في عام 2015، تعرضت سفينة شحن تركية قبالة ساحل طبرق في ليبيا لهجوم بالطائرات الحربية والمدفعية، مما أسفر عن مقتل ضابط تركي وإصابة أفراد الطاقم، وأدى موقف حفتر العدواني تجاه تركيا إلى تدهور العلاقات بين الجانبين.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائة رئيس حكومة الوفاق فايز السراج
وبدلاً من تقديم إيضاح بشأن احتجاز 6 بحارة أتراك، أعلن الجيش الوطني الليبي الذي ينتمي إلى حفتر أنه دمَّر طائرة تركية دون طيار في غارة في طرابلس، لكن حين جاءت تحذير السلطات التركية فوق تهديد حفتر، أُطلق سراح المواطنين الأتراك، وقالوا إنهم يريدون مواصلة عملهم في ليبيا، وسُمح لهم بالعودة إلى سفينتهم.
يدعو ذلك للتساؤل عن دوافع استهداف حفتر للمصالح التركية، في حين يبدو أن انشغال جبهة اللواء خليفة حفتر الداخلية بمعركة مفترضة ضد تركيا أفضل من الانشغال بالحديث عن هزيمته، لكن هذا التهديد الذي جاء جادًا جدًا جعله يخسر مرتين، فلا هو استطاع أن ينال من تركيا ولا أن يحتفظ بغريان، فكان كمَنْ أوقد في ثيابه نارًا.
أمَّا تركيا، فهي تهتم بشدة بالأزمة الليبية، التي تلعب دورًا مهمًا في التجارة في البحر الأبيض المتوسط، وهي في قلب واحدة من أكبر أزمات الهجرة التي واجهتها أوروبا، لكن على الرغم من هجمات حفتر، يرى البعض أن تركيا لن تتورط في الحرب الليبية.