ربما تكون هذه اللحظات هي الأخيرة في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن ذلك لا يعني أبدًا أن نتائجها ستكون ثابتة أو ستقف عند نهاية حدّها الزمني، فثمة الكثير من الأحمال والأثقال التي ستلقيها الحرب تباعًا، وقد يكون أكثرها فداحة وأكبرها ألمًا هو عدد الفلسطينيين الذين طالتهم نيران الحرب الإسرائيلية.
أفادت دراسة جديدة نُشرت في 9 يناير/ كانون الثاني الحالي في مجلة “لانسيت” الطبية المحكمة، أن الأعداد الحقيقية لعدد الفلسطينيين الذين قُتلوا بشكل مباشر نتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تتجاوز الإحصائيات الرسمية بنسبة تقارب 41% حتى منتصف عام 2024، وذلك في ظل انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية في القطاع.
اعتمدت الدراسة للوصول إلى نتائجها على أدوات علمية متنوعة، منها تحليل التقاط وإعادة التقاط القوائم باستخدام بيانات من قوائم مستشفيات وزارة الصحة الفلسطينية، واستطلاع رأي عبر الإنترنت أجرته وزارة الصحة، وبيانات النعي على وسائل التواصل الاجتماعي.
بناءً على تلك المعطيات، اعتبرت الدراسة أن وزارة الصحة الفلسطينية قلّلت من الإبلاغ عن الوفيات، كما تجاهلت ما وصفته بـ”الوفيات الزائدة” غير الناجمة عن الإصابات، خاصة في فئات النساء والأطفال (الذين تقلّ أعمارهم عن 18 عامًا) وكبار السن (الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا)، وذلك بنسبة تزيد عن 59.1% من الحالات.
الدراسة التي تمثل إشارة مفزعة عن الواقع الإنساني في قطاع غزة، تُعتبر في الوقت نفسه ردًّا علميًا على حملة تشكيك قادتها الولايات المتحدة منذ بداية الحرب، وقد توسعت حينًا وتلونت أحيانًا أخرى لتطال جوانب أخرى في الحرب، حيث استخدمت واشنطن ومسؤولون آخرون في العالم الغربي سلاح التشكيك، للتقليل من حقيقة أهوال الحرب ودفع الأعباء والاتهامات عن المنظومة الإسرائيلية وحجم وحشيتها.
ومع مرور الوقت، تطور هذا السلاح إلى أدوات سياسية وحكومية أخرى، أفرزت في النهاية نمطًا غربيًا رافضًا للاعتراف بحقيقة الواقع في غزة، ومصرًّا على تجريم كل ما لا يُلامس هواه، أو يمسّ من بعيد أو قريب بالنمط الإمبريالي لأحد مكوناته: “إسرائيل”.
📍كشفت دراسة بريطانية أن حصيلة الوفيات في غزة خلال الأشهر التسعة الأولى من حرب الإبادة الإسرائيلية كانت أعلى بنحو 41% مقارنة بأرقام وزارة الصحة في القطاع.
📍وقدّرت الدراسة، التي أجرتها كلية لندن للصحة ونُشرت في مجلة “لانسيت” الطبية، إجمالي الوفيات الناجمة عن العدوان الإسرائيلي… pic.twitter.com/26Ur3tE78x
— نون بوست (@NoonPost) January 11, 2025
التقليل من أعداد الضحايا
بعد 20 يومًا على صبّ طيران الاحتلال قذائفه على أكثر من 3 آلاف و600 موقع في قطاع غزة، منها المنازل والمدارس والمستشفيات وخطوط المياه والمخابز ومناطق الإيواء، وتزامنًا مع إصدار وزارة الصحة الفلسطينية بيانًا محدثًا بارتقاء أكثر من 6 آلاف و740 شهيدًا فلسطينيًا، خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن يقول: “ليس لدي ثقة في صحة عدد القتلى الذي يعلنه الفلسطينيون”، وأضاف: “ليست لدي أي فكرة أن الفلسطينيين يقولون الحقيقة حول عدد القتلى”.
تصريح بايدن الذي جاء فجر مجزرة إسرائيلية استهدفت المشفى المعمداني الأهلي في قطاع غزة، وأوقعت أكثر من 500 شهيد فلسطيني، جُلّهم من النساء والأطفال، اُستتبع بسياقات أخرى؛ أولها أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم آلية التشكيك نفسها في اليوم التالي للتقليل من أهمية الأرقام التي تصدرها وزارة الصحة، والطعن في صحتها، وذلك حين قال المتحدث باسم الجيش: “أشك في أرقام القتلى التي تصدرها وزارة الصحة في غزة التابعة لحماس”.
استمرت آلية التشكيك في إثبات فعاليتها وجني ثمارها طوال مدة الحرب، ففي نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2024، أي بعد عام كامل من الحرب، خرج مسؤول إسرائيلي ليعلق على مجزرة استهدفت مناطق مدنية في بيت لاهيا، قائلًا: “يبدو من الفحص الأولي أن الأرقام التي نشرها المكتب الإعلامي لحماس مبالغ فيها ولا تتطابق مع المعلومات التي لدى الجيش الإسرائيلي”.
ثانيًا، دفع الشك الأمريكي والإسرائيلي بالنتائج بعض المصادر الإعلامية الغربية إلى التشكيك في الأرقام المعلنة، بل في حقيقة أكياس الجثث التي يتم دفنها، حيث صرّحت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى أنها تعتقد أن الأرقام “مرتفعة للغاية”.
وفي تقرير صدر مطلعَ العام 2024 عن معهد واشنطن لأبحاث الشرق الأدنى، تحت عنوان “كیف تتلاعب حماس بأعداد القتلى في غزة”، اعتبر الكاتب أن الأرقام الصادرة عن حماس تكشف حافزًا غير عادي للتحريف، متخوفًا من أن تداول وسائل الإعلام الدولية لهذه الأرقام يُعزز الشكوك حول سوء السلوك الإسرائيلي ويذكي الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، بل حتى بالإبادة الجماعية.
اعتبر الكاتب أيضًا أن التلاعب المنهجي بالإحصاءات يغلب على آلية عمل وزارة الصحة والمكتب الإعلامي في غزة، وكلتا المؤسستين تديرهما حماس، وفي المقابل أشار الكاتب إلى غياب تقارير المنظمات الأممية مثل “مجموعة الحماية المخصصة لفلسطين” و”مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية”، وكذلك المنظمات الحقوقية الفلسطينية مثل “مركز ميزان لحقوق الإنسان”.
يختتم معهد واشنطن توصياته بالإشارة إلى أهمية الاستفادة من بيانات “جيش الدفاع الإسرائيلي حول القتلى في صفوف العدو”، معتبرًا إياها أكثر فائدة، بالإضافة إلى الاعتماد على “التحليلات الأكثر دقة” التي تقدمها وسائل الإعلام الإسرائيلية، بدلًا من الاعتماد على بيانات المنظمات الأممية التي يراها مزيجًا من أرقام وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الحكومي.
وفي نهاية مارس/ آذار المنصرم من العام نفسه، أصدر المعهد مادةً أخرى في السياق نفس بعنوان “بيانات القتلى في غزة أصبحت غير موثوقة على الإطلاق”، وفيها أشار الكاتب إلى أن “إغلاق المستشفيات أبوابها خلال الغزو البري الإسرائيلي، دفع وزارة الصحة إلى اعتماد منهجية جديدة غير محددة لإحصاء الوفيات، وهي التقارير الإعلامية، ما يجعل بيانات الوزارة خاليةً من أدلة موثوقة للعدد الفعلي للقتلى الفلسطينيين”.
في كلا المادتين، استخدم المعهد مجموعة من المصطلحات التي تبرّئ الاحتلال الإسرائيلي من المسؤولية عن القتل واستهداف المنظومة الصحية، كما حاول التخفيف من مسؤولية الاحتلال عن الأعداد المرتفعة من القتلى المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن.
أشار المعهد مرارًا وتكرارًا إلى وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الفلسطينيين باعتبارهما جزءًا من منظومة حماس، مقدمًا بذلك تبريرًا مسبقًا لاستهدافهما بالنيران الإسرائيلية، كما أسّس هذا التفسير لمزيد من التشكيك في اعتبار وزارة الصحة الفلسطينية كجزء من المنظومة المدنية المحايدة في الحرب، واصفًا إياها بأنها أداة دعائية لحماس تعمل لصالحها.
وفيما يتعلق بحالة المشافي، صاغ المعهد تصوره بالقول إن “المشافي أوقفت أعمالها وأخلت مبانيها كإجراء احترازي خلال الحرب”، وهو تصور يتنافى مع الواقع الذي أجبر فيه الاحتلال المشافي على الإخلاء بعد موجة من القصف والتدمير والحرق، كما يتعارض مع طبيعة النظام الصحي الذي يستمر فيه الأطباء في أداء رسالتهم حتى النهاية.
اعتبر المعهد أيضًا أن التقارير الإعلامية تقلّل بشكل كبير من الوفيات في صفوف الذكور البالغين، وهم الفئة الديموغرافية التي يُحتمل أن تكون مقاتلة، محاولًا بذلك تقويض حقيقة أن “معظم القتلى في غزة هم من النساء والأطفال”.
أرواح لا تُعدّ.. مفقودو غزة بين غياب التوثيق والمصير المجهول
في السياق نفسه، تجاهل المعهد أن الدور المحدود للمنظمات الأممية أو غير الحكومية الفلسطينية في توثيق أعداد القتلى، يعود إلى الاستهداف الإسرائيلي الشامل لجميع المرافق الأممية والحكومية وغير الحكومية، كما تجاهل إنذارات الاحتلال للموظفين الدوليين بالإخلاء منذ الثامن من أكتوبر، ومنعه المراقبين الدوليين والأمميين من دخول القطاع طوال أيام الحرب.
المثير للانتباه أن التشكيك الغربي في تقارير المنظومة الصحية الفلسطينية قد يحمل في طياته دوافعًا لتبرير استهداف المستوى العسكري الإسرائيلي للمشافي الفلسطينية، بنفس مستوى استهدافه لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، خاصة مع الدور الذي يلعبه كل منهما في تسليط الضوء على الجرائم الإسرائيلية في المحاكم والمقرات الأممية، من خلال توثيق أعداد الضحايا وطبيعة الإصابات والحروق، ونوع الأسلحة المستخدمة وتأثيرها.
ومع التوجه الإسرائيلي المتواصل، وكذلك الأمريكي والغربي في الآونة الأخيرة، تجاه كل من يشير إلى “إسرائيل” بأصابع الاتهام في هذه الحرب، يغدو استهداف المشافي ليس فقط بسبب دورها الحيوي في دعم السكان، بل أيضًا بسبب دورها في توثيق الجرائم الإسرائيلية، سعيًا متعمدًا لإخفاء آثار الجريمة وطمسها.
أين الإبادة؟ إنني لا أراها
حمّى التشكيك اتّسعت تباعًا في خضمّ تورط “إسرائيل” بسلسلة من الدعاوى والمحاكمات في الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بل اتخذت أشكالًا مختلفة، منها تجاهل التقارير الحكومية والأوروبية التي تُثبت وجود إبادة جماعية وتطهير عرقي يستهدف السكان الفلسطينيين في قطاع غزة.
في هذا السياق، واصلت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا تزويد الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة، متجاهلةً الإحاطات القانونية التي قُدمت لحكوماتها وشركاتها، والتي تؤكد تورط “إسرائيل” في الإبادة الجماعية، وتحذّر من المسؤولية القانونية المترتبة عن استمرار تسليحها للاحتلال.
توازيًا مع ذلك، توسعت دائرة التشكيك بالإبادة الجماعية في الإعلام الغربي، بدءًا من مجموعة من الصحفيين، أبرزهم الصحفي يان دير هربرمان من “تاغشبيغل” الألمانية، الذي شكك حتى بتقرير صادر عن فرانشيسكا ألبانيزي، المسؤولة الأممية المعنية بالأراضي المحتلة، والتي أكدت، من خلال الوثائق والأدلة، أن ما يجري في قطاع غزة ينطبق عليه صفة “إبادة جماعية”.
ظهر التفاعل نفسه، وإن بطريقة مختلفة، في صحيفة “نيويورك تايمز” التي رفضت استخدام مصطلح “إبادة جماعية” لوصف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، زاعمةً أنها تتبع معايير دقيقة لنشر الإعلانات التي تضمن توافقها مع التعريفات القانونية الدولية، رغم أنها نشرت سابقًا إعلانًا اُستخدم فيه مصطلح “الإبادة الجماعية”، مثل إعلان عام 2016 الذي شكر كيم كارداشيان على معارضتها لإنكار الإبادة الجماعية للأرمن.
اتخذ التشكيك شكلًا أكثر حدّة عندما رفض مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، جيك سوليفان، استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية”، حيث صرح قائلًا: “أن واشنطن لا ترى فيما يجري في قطاع غزة إبادة جماعية”، وذلك رغم تجاوز حصيلة ضحايا الحرب آنذاك أكثر من 35 ألف شهيد فلسطيني.
إنكار المجاعة
تلا ذلك سعي أمريكي آخر لمحو أحد أشكال الإبادة، من خلال الضغط على شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة FEWS NET المموّلة من الولايات المتحدة، لسحب تقريرها الصادر نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2024، والذي حذّرت فيه من مجاعة وشيكة في شمال قطاع غزة، واصفة الجهد العسكري الإسرائيلي هناك بأنه “حصار شبه كامل”.
التقرير أيضًا سلط الضوء على طبيعة الحصار بذكره أن “إسرائيل سمحت بتسليم 12 شاحنة فقط من الغذاء والمياه منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تقريبًا”، ثم لم يلبث أن حمّلها مسؤولية المجاعة الوشيكة حين أكد أنه “ما لم تغير إسرائيل سياستها، فيُتوقع أن يصل عدد الأشخاص الذين يموتون من الجوع والأمراض المرتبطة به في شمال غزة إلى ما بين 2 و15 شخصًا يوميًا خلال الفترة ما بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار”.
في هذا الخصوص، وبالتوازي مع موقف الإدارة الأمريكية الداعم بشكل مطلق لـ”إسرائيل”، أكدت مصادر إعلامية أن إدارة بايدن مارست ضغوطًا على شبكة FEWS NET للتراجع عن التقرير الذي يُشرف عليه خبراء محايدون، ومن المتوقع أن تعود الشبكة لإصدار تقرير معدّل في نهاية يناير الحالي بصيغ وبيانات “محدثة”.
جاء التدخل السياسي الأمريكي بعد انتقادات علنية وجّهها السفير الأمريكي لدى “إسرائيل” للتقرير، واصفًا إياه بأنه “غير دقيق وغير مسؤول”، ثم تدخلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، التي تعدّ أحد ممولي شبكة FEWS NET، مشيرة إلى أن “الاستنتاجات لم تأخذ في الحسبان الظروف المتغيرة بسرعة في شمال غزة بشكل ملائم”.
أما آخر الأوجه التي انقلب عليها التشكيك، فهو تحوله إلى قانون مُصادق عليه من قبل الحكومة الأمريكية، التي لم تدخر جهدًا في الإصغاء للتقارير المشكّكة بكل ما يمكن أن يمس “إسرائيل” وصورتها وأمنها ومستقبلها، والتي أثبتت دورها القوي في ضرب المنظومة الأممية وإضعافها، طالما أنها تُهاجم الوحشية الإسرائيلية.
في نهاية ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، مررت الحكومة الأمريكية ووزارة دفاعها مشروع قانون الدفاع السنوي للعام 2025، والذي تضمن بندًا جانبيًا ينص على منع الاستشهاد بأرقام الوفيات التي تستمدها المنظمات التي صنّفتها الولايات المتحدة كإرهابية، أو الكيانات الحكومية التي تسيطر عليها هذه المنظمات، أو أي مصادر تعتمد على الأرقام التي تقدمها هذه المنظمات.
ورغم أن البند لا ينص صراحة على حظر البيانات الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، لكن الإشارات المتكررة أمريكيًا وإسرائيليًا إلى ارتباطها بحركة حماس، وهي “منظمة تصنفها الولايات المتحدة باعتبارها إرهابية”، ووجودها كمصدر وحيد لأي إحصاء أو بيانات لعدد القتلى من غزة على مدى الأشهر الـ 15 الماضية، مقابل حرمان “إسرائيل” المستمر للعاملين الأمميين وموظفي حقوق الإنسان والصحفيين الأجانب من الوصول للقطاع والدخول إليه، يجعل البند وكأنه مفصّل على مقاسها.
تعني هذه الآلية الجديدة إخفاء وتجاهل حصيلة القتلى والجرحى والمرضى في غزة بشكل كبير، ومنع التعامل مع بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في الاتصالات العامة للجيش، أو التفاعل معها في المستويات الإعلامية أو العسكرية أو الاقتصادية أو التعليمية، ما قد يحول حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى “صفر”، وبالتالي يبخّر أي جهود لإدانة الجرائم المرتكبة.
تزامن ذلك مع تصويت آخر لمجلس النواب الأمريكي، بأغلبية 274 صوتًا مقابل 155 لصالح مشروع قانون يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن تقدم المدعي العام فيها بطلب لإصدار مذكرات اعتقال ضد قادة إسرائيليين.
بالمحصلة، تحاول الأنظمة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة “إخراس” الضحية بالتشكيك تارةً، وبإنكار الواقع الذي يشهد بأن الوحشية الإسرائيلية وصلت إلى حد ارتكاب إبادة جماعية كاملة الأركان تارةً أخرى، وبإغلاق الآذان والأعين تمامًا عن أوجاع الضحايا والنتائج الإنسانية لواحدة من أكثر الحروب بشاعة وتواطؤًا وخذلانًا.
وإن لم تستطع بعد كل هذا دفع الضحية إلى عتمة الصمت، فما زال بإمكانها قتله، أو مساعدة قاتله بتسليحه بأنظمة ذكية أو غبية قادرة على ملاحقة الضحية حتى تبخيره، لعلّ الرواية تموت وتفنى القضية، لكن مهما شكك العالم في أصل الحكاية، ومهما أشاح القريب والبعيد ببصره وصمّ أذنيه عمّا لا تحتمله الأنفس من أهوال، يكتفي الفلسطيني بإيمانه وبتراب أرضه ليدرك أن السر المكنون حيث يقف هو، لا حيث يُشيح الآخرون.