منذ 15 شهرًا يعيش أبو معتز زطيمة وأسرته في درعا حالة نفسية صعبة، بعد اختفاء ابنه محمد في ليبيا، وانقطاع التواصل معه قبل يومين من ركوبه قاربًا برفقة 33 مهاجرًا من ميناء الخمس الليبي، متجهين إلى إيطاليا.
مع وصول محمد إلى طبرق الليبية ومنها إلى بنغازي وصولًا إلى العاصمة طرابلس، وجد نفسه محاصرًا، تتقاذفه شبكات تهريب البشر من مخزن إلى آخر (مستودع لتجميع المهاجرين واللاجئين)، تغيب عنه تفاصيل الحياة الآدمية حتى بات أشبه بسجن مؤقت، بعد أن كان مخصصًا لتخزين البضائع أو إسطبلًا للحيوانات.
يقول أبو معتز، بعد أن وصف لنا الأشهر المأساوية التي عاشها ابنه هناك، “إن القارب الذي يقلّ ابنه مع العشرات من أبناء محافظة درعا اختفى بعد ساعتين من انطلاقه، وعند التواصل مع المهرب المسؤول عن رحلتهم أكد أن القارب لم يغرق، وحتى خلال مراقبتنا للوسائل الإعلامية لم نلاحظ أي خبر عن إنقاذ خفر السواحل في ليبيا أو إيطاليا لقارب يحمل مهاجرين”.
وأضاف أبو معتز لـ”نون بوست” أن القارب اُختطف وزُجّ بركابه في معسكر احتجاز كبير يسمّى “20/20 طارق بن زياد”، وهو معسكر احتجاز في بنغازي يتبع لقوات حفتر المعروفة بعدائها للسوريين.
“وممّا زاد يقين عوائل المختفين قسرًا أن أبناءهم محتجزون في ذلك المعسكر هو اتصال والد أحد الشباب المحتجزين على هاتف ابنه، حيث ردّ عليه بعد عدة محاولات شخصٌ مجهول، مؤكدًا أن ابنه صاحب الهاتف في معسكر 20/20، قبل أن يغلق المكالمة ويطلب بلهجته الليبية عدم الاتصال مرة أخرى”، حسب أبو معتز.
تحرُّك مدني واسع
مع سقوط النظام البائد وتسلُّم الحكومة الجديدة زمام الحكم في البلاد، سارع أبو معتز وبرفقة وفد من حوران إلى مقابلة السفير السوري في عمّان بالأردن، في 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، مطالبين بالتواصل مع السفارة الليبية لمعرفة مصير أبنائهم، والتواصل أيضًا مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، للتحرك على أعلى المستويات ومعالجة هذا الملف.
تحرك الأهالي كان قد سبقته حادثة اعتقال 80 سوريًا في ليبيا أثناء مشاركتهم في مسيرة احتفالية، فرحًا بسقوط نظام بشار الأسد في مدينة بنغازي الليبية.
حيث أشار موقع “تجمع أحرار حوران” (المختص بنقل أخبار الجنوب السوري) إلى أن عناصر يتبعون لـ”خليفة حفتر” ضمن مناطق سيطرته في بنغازي، والمعروف بموالاته لنظام الأسد المخلوع، احتجزوا أكثر من 80 شخصًا من أبناء محافظة درعا، بتهم مختلفة تتعلق بدعم الإرهاب، قبل أن يطالبوا ذويهم بدفع مبلغ مالي قدره 4 آلاف دولار أمريكي، مقابل الإفراج عن الشخص الواحد.
وتغيب الإحصائيات الدقيقة عن عدد السوريين المعتقلين في السجون الليبية، إلا أن المرصد الأورومتوسطي أشار إلى أنه وخلال الأشهر الأربعة من العام 2021 فقط، احتجزت قوات حفتر نحو 800 شاب سوري أثناء محاولتهم الهجرة لأوروبا، وسط ظروف إنسانية مأساوية.
فيما طالبت منظمة التضامن لحقوق الإنسان (منظمة ليبية)، في مارس/ آذار 2023، السلطات الليبية بالإفراج الفوري عن مهاجرين سوريين معتقلين في سجن “مؤسسة الإصلاح والتأهيل- جُود دائ”، البالغ عددهم 20 مهاجرًا، من بينهم 4 قُصَّر.
ولم يتوقف الأمر عند المطالبة بالمعتقلين السوريين في ليبيا فقط، فقد طالب عشرات الأهالي أيضًا في محافظة درعا ضمن وقفة احتجاجية، الإدارةَ السورية الجديدة بالسعي لمعرفة مصير أبنائهم الذين فُقدوا في بحر إيجة قرب اليونان في يونيو/ حزيران 2023، بعد أن انطلقوا بقارب يحمل 750 شخصًا من طبرق بليبيا بهدف الوصول إلى إيطاليا.
مأساة المصير المجهول هذه تكررت في بداية العام الفائت، عندما فقد 84 شخصًا معظمهم من طالبي اللجوء السوريين قبالة قبرص، منطلقين من سواحل لبنان، وسط معلومات متضاربة عن وصول بعضهم إلى قبرص واحتجازهم من قبل السلطات هناك، وما تلا ذلك من تعلق الأهالي السوريين بهذا الأمل حتى الآن والضغط على السلطات الجديدة، لا سيما أن إعلان منظمة “هاتف الإنذار” بأن السلطات القبرصية واللبنانية لم تعطيا معلومات واضحة عن مصير أبنائهم، ما زال دليلًا يتمسكون به.
وتعدّ اليونان إحدى الدول الأوروبية المتقدمة في مجال انتهاك حقوق المهاجرين، إذ تحتجز مجموعات من اللاجئين والمهاجرين بينهم سوريون بأسلوب عنيف وبصورة غير قانونية، لا سيما أن السوريين يشكّلون النسبة الأكبر من طالبي اللجوء للعام الفائت بنسبة 36%، وبعدد بلغ 28.4 ألفًا.
ووفق بيان صحفي نشرته “أطباء بلا حدود” في مايو/ أيار 2023، هناك عدة إفادات أَبلغت عن تعرض مئات المهاجرين للاختطاف والاحتجاز القسري، ما يعني انقطاع أخبارهم عن ذويهم، فيما عرضت مجلة “ذا أنترسبت” قصصًا للاجئين تم اقتيادهم لمخافر الشرطة ثم انقطعت أخبارهم في اليونان.
حملات في مصر ومطالبات بمعتقلي رومية
في مصر وعلى خلفية الاحتفال بسقوط النظام في سوريا، شنّت قوات الأمن المصرية حملة اعتقالات بحق سوريين في مدينة 6 أكتوبر بمحافظة الجيزة، موجهة لهم تهمة “التجمع دون تصريح”.
ويبدو أن حملة الاعتقال لم تكن بناء على ردة فعل سوريين في الاحتفال بسقوط النظام، بل بالحذر المصري من الإدارة الجديدة في سوريا نتيجة خلفيتها العقائدية، والتي تراها مصر مخالفة لتوجهاتها، وهو ما يفسر تأخر ذهاب وفد مصري إلى دمشق حتى الآن.
أما في لبنان فيُعتبر سجن رومية المركزي أكثر السجون الذي يضمّ معتقلين سوريين في لبنان، بلغ عددهم 4 آلاف سجين يمثّل السوريون منهم 60%، أغلبهم يعتبر من معتقلي الرأي ومناهضي نظام الأسد المخلوع.
مؤخرًا وخلال زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي إلى دمشق، ولقائه قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، طُرح ملف نقل السجناء السوريين من السجون اللبنانية إلى بلدهم، ومتابعة محاكمتهم في دمشق، إلا أن الطرح حسب مراقبين مرَّ مرورًا عاديًا، مقارنة بالسعي الحثيث للحكومة اللبنانية في عهد النظام البائد لإرسال المعتقلين رغم معرفتهم المسبقة بمصيرهم.
وكان عشرات السوريين من ذوي المعتقلين في لبنان قد تجمعوا بجانب قصر الشعب تزامنًا مع زيارة ميقاتي إلى دمشق، حيث رفعوا لافتات مطالبة بأبنائهم الذين تجاوز احتجاز بعضهم أكثر من 10 سنوات.
ولطالما شغلت قضية المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية الرأي العالمي، فكثيرًا ما كان المعتقلون -لا سيما معتقلي الرأي- يعلنون إضرابهم عن الطعام احتجاجًا على الأوضاع المأساوية، ما بين تلفيق التهم ومحاسبتهم على ذنب لم يُقترف، وسياسة تعذيبهم نفسيًا بحرمانهم من المحاكمة العادلة ومن حق رؤية ذويهم، إضافة إلى إهمال حالتهم الصحية، وسوء التغذية، في ظل غياب دور المنظمات الحقوقية والإنسانية في متابعة ملفهم وهم في أقبية السجون.
نظمت عائلات في مدينة درعا وقفة احتجاجية بساحة 18 آذار لمطالبة الإدارة السورية الجديدة بالضغط لمعرفة مصير أبنائهم الذين فقدوا في بحر إيجة قرب اليونان في 14 / 6 / 2023
وقعت الحادثة المذكورة حينما غرق قارب كان يقل 750 شخصاً، قضى الكثير منهم والبقية اعتقلوا، ولم يعرف مصيرهم بعد. pic.twitter.com/Xw8drVxYXx
— Omar Alhariri (@omar_alharir) January 13, 2025
المطالبة عبر بوابة الأمم المتحدة
يؤكد محمود الحموي، المدير التنفيذي للاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات، أن تسلُّم المعتقلين السوريين من كل الدول هو من أولى الملفات التي يجب العمل عليها من الإدارة السورية الجديدة، لا سيما معتقلي سجن رومية في لبنان سيّئ الصيت، خاصة أن كثيرًا منهم اُعتقل منذ العام 2013، عندما نزحوا من مناطق قارة والقصير والزبداني الحدودية مع لبنان.
وأضاف الحموي لـ”نون بوست” أن كثيرًا منهم اُعتقل بحجج واهية، كدعم الإرهاب ومناهضة نظام الحكم في سوريا، وقد تمّ الاتفاق على تسلُّم ما يقارب الـ 200 معتقل قريبًا من لبنان فقط، أما في باقي الدول كمصر وليبيا واليونان وقبرص وغيرها فلم يطالب أحد بالمعتقلين السوريين أو المختفين قسرًا.
“وتعد المناكفات السياسية بين الإدارة الجديدة وبعض الأطراف الدولية معوقات محتملة في ملاحقة ملف المعتقلين، عدا عن غياب قوائم أسماء المعتقلين السوريين أو المختفين قسرًا خارج سوريا”، حسب الحموي.
“لذلك فإن العمل على تشكيل آلية ضغط واسعة للمطالبة بهم في أقرب وقت قد بدأ من بوابة الأمم المتحدة، صاحبة المرونة الأكبر من حكومة الشرع”، حسب تعبيره.
وحاول “نون بوست” التواصل مع وزارتي العدل والخارجية في “حكومة الشرع”، للسؤال عن ملف المعتقلين السوريين والمختفين قسرًا خارج سوريا وآلية معالجته، وما إذ كان قد تمّ البدء بخطوات فاعلة واتصال عملي على مستوى الوزارات أو التواصل مع سفارات الدول المعنية، إلا أنه لم يتم تلقي أية إجابة حتى تاريخ نشر تقريرنا هذا.
استلام المعتقلين.. احتماليات التنفيذ
بالأحوال العادية يعتبر موضوع استلام المعتقلين السوريين من الدول موضوعًا إجرائيًّا بحتًا يتم العمل عليه من خلال وزارتي العدل السورية ووزارة العدل بالدول المعنية، إلا أننا في معظم حالات الاسترداد نحن أمام معتقلين على خلفيات سياسية أو خلفيات نشاط سياسي، أكثر من كونهم معتقلين بسبب انتهاكهم القوانين أو مخالفتها، وبالتالي هم قيد المحاكمة أو السجن، حسب حديث محمد العبد الله المدير السوري للعدالة والمساءلة.
ومن المعلوم أن كثيرًا من المعتقلين السوريين خارج سوريا اُعتقلوا إما بسببٍ سياسي كاحتفالات أو منشورات ذات موقف وآراء سياسية معينة أو لأسباب تتعلق بالهجرة.
وبالنسبة لأسباب الاعتقال والاحتجاز المتعلقة بالهجرة، فيرى العبد الله، أن الدول لا تحاكم على انتهاك قوانين الهجرة، لأن الشخص انتهكها بهدف حماية حياته أو النجاة من الحرب أو التعذيب، فإذا عبر الحدود مثلًا من المكسيك لأمريكا لا يحاكم بتهمة تجاوز الحدود بشكل غير شرعي، لأنه يعتبر طالب لجوء.
مضيفًا أن قانون الدولة واللاجئين يتيح عدم احترام قوانين الهجرة بأي بلد، طالما ذلك يحمي في حال الدخول بشكل غير شرعي، وهو ما يمكن تطبيقه على الحالة السورية وعبور السوريين غير الشرعي نحو دول أكثر أمنًا.
ويبدو أن الإرادة السياسية من الحكومة الجديدة هو الشرط الأساسي لإطلاق سراح المعتقلين خارج سوريا، إضافة إلى التعاون من قبل الدول أخرى، باعتبار أننا لسنا أمام أحوال قانونية طبيعية لهؤلاء المعتقلين.
ويرى العبد الله أن الأحوال القانونية العادية تكون كجرم ارتكبه سوري في ألمانيا، فعند ذلك يُحاكم ويُسجن في ألمانيا وليس لسوريا الحق في المطالبة به، لكن إذا حوكم سوري وسُجن في ألمانيا على جرائم ارتكبها في سوريا كالطبيب علاء موسى، المتهم بتعذيب معتقلين مرضى في مشفى سوري، فمن الممكن أن تطلب الحكومة السورية استرداده ليحاكم في سوريا أو يقضي فترة سجنه فيها.
ويشير العبد الله إلى أن الموضوع برمّته معقد جدًّا ويحكمه أمران، قوانين الدول المعنية، واتفاقية التعاون القضائي بين سوريا وبين هذه الدول، وهذه الاتفاقية أحيانًا تكون شاملة كما بين الدول الأوروبية، وأحيانًا فردية بين دولة وأخرى.
يشاطر المحامي أنور البني، رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، العبد الله في وجود عدة تعقيدات تواجه الملف:
التعقيد الأول من الناحية القانونية، إذ لا يحقّ لـ”حكومة الشرع” أن تطالب بأي شخص سوري ارتكب جرمًا داخل دولة أخرى، وفق ما يراه قضاء تلك الدولة جرمًا سواء أكان جنائيًا أم سياسيًا، إلا عندما يُحكم ذلك الشخص، ويكون ذلك بطلب منه ذاته ليقضي باقي محكوميته في بلاده.
أما التعقيد الثاني وفق ما قاله البني لـ”نون بوست”، فإنه يمكن تسليم المعتقلين عبر اتفاق سياسي بين الدول التي يوجد فيها معتقلون من جهة، وسوريا من جهة أخرى، لكن بشرط أن تكون الدولة السورية ممثّلة بحكومة انتقالية شرعية، لا بحكومة مؤقتة غير معترف بها شرعيًا أو تغيب عنها الصفة القانونية حتى تخاطب كل دول العالم، فكثير من الدول زارت دمشق للقاء “حكومة الشرع” باعتبارها مؤقتة تسلّمت الحكم ريثما تتشكل حكومة انتقالية شرعية.
ختامًا، تبقى التعقيدات في ملف استرداد المعتقلين السوريين والمختفين قسرًا في كثير من الدول مرهونة بمدى فرض الإدارة الجديدة حكومتها وتعزيز شرعيتها، بما يتوافق مع القوانين الدولية، والإسراع في معالجة هذا الملف والتعامل معه بجهود مشتركة ودبلوماسية، في ظل بروز احتمالية رغبة كثير من الدول باستثمار ورقة المعتقلين وابتزاز الإدارة الجديدة بهم، بالتزامن مع ارتفاع الأصوات الداخلية المطالبة باستردادهم بعد سقوط النظام البائد.