مرة أخرى، يعود الجدل في المغرب بشأن النفوذ الفرنسي في المملكة ومدى تحكمه في صنع القرار هناك، ومدى ارتباط نخبة البلاد بهذا البلد الأوروبي صاحب المجازر الكبرى في البلاد إبان الاستعمار وحتى بعد خروجه منها.
إدراج الفرنسية في مناهج التعليم
الجدل هذه المرة، أعاده المصادقة على مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين الذي أحيل إلى لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب المغربي، بشأن تدريس بعض المواد العلمية بالفرنسية، وهي لغة المستعمر السابق للمغرب التي تستخدمها حاليًّا النخبة في المدن.
ووافقت لجنة برلمانية بمجلس النواب المغربي (الغرفة الأولى للبرلمان)، أول أمس الثلاثاء، بالأغلبية على قانون لإصلاح التعليم، يسمح أحد بنوده بتدريس بعض المواد باللغة الفرنسية، وتنص المادة الثانية من قانون إصلاح التعليم، على “اعتماد التناوب اللغوي وذلك بتدريس بعض المواد، وخصوصًا العلمية والتقنية منها، أو أجزاء بعض المواد بلغة أو بلغات أجنبية”.
يتكون مشروع القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي من ديباجة و60 مادة موزعة على عشرات الأبواب، وهو كما جاء في ديباجته “مرجعية تشريعية ملزمة في اتخاذ النصوص التشريعية والتنظيمية اللازمة لبلورة الأهداف والتوجهات والمبادئ المتعلقة بإصلاح منظومة التربية والتكوين”.
وصوت لصالح المادة الثانية التي تعتبرها بعض الأحزاب جاءت لفرض الفرنسية، نواب الأغلبية الحكومية باستثناء الكتلة النيابية للعدالة والتنمية (قائد الائتلاف الحكومي)، وصوت بنعم أيضًا على هذه المادة نواب الأصالة والمعاصرة (معارض).
يؤكد معارضو هذا التوجه وجود “لوبي” يريد الفرنسية كلغة للتدريس، وذلك من أجل فرض لغة موليير في حياة المغاربة
يذكر أن الدستور المغربي ينص في فصله الخامس على أن “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، وتعد الأمازيغية أيضًا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدًا مشتركًا لجميع المغاربة دون استثناء”.
ويتحدث معظم الناس العربية المغربية، وهي خليط من العربية والأمازيغية تتخللها كلمات من اللغتين الفرنسية والإسبانية، وفي المدارس يتعلم الأطفال اللغة العربية الفصحى، فيما يدرس الطلاب في الجامعات غالبًا باللغة الفرنسية.
يقول مؤيدو هذا التوجه إن اعتماد الفرنسية يتنزل في إطار إصلاح التعليم وهو خيار تربوي مندرج يستثمر في التعليم المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس والرفع بها، حتى يتمكن الطالب من أكثر من لغة تساعده في سوق العمل.
ويرى هؤلاء أن عدم تعلم الطلبة المغاربة اللغة الفرنسية، زاد من نسبة التراجع الاقتصادي، كما زاد من عدم المساواة في المغرب الذي تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة البطالة بين الشبان فيه تبلغ 25% ويقارب متوسط الدخل السنوي 3440 دولارًا للفرد، وهو أقل من ثلث المتوسط العالمي.
تقول الباحثة المغربية في الشؤون السياسية شريفة لومير في هذا الشأن: “لا أحد يمكن أن ينكر أن الفرنسية تعتبر اللغة الأساسية للعمل في المغرب وتعلمها بشكل جيد يفتح آفاقًا للخريجين المغاربة، فالطلاب يتلقون تعليمهم في المؤسسات العمومية باللغة العربية ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في مواجهة الفرنسية في الجامعات والعمل”.
تضيف شريفة في تصريح لنون بوست: “اللغة الفرنسية لا غنى عنها حتى بالنسبة للأعمال التي لا تتطلب شهادة جامعية، وهذا ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال بالنسبة للموقع الفرنسي الخاص بوكالة دعم الوظائف في المغرب، حيث يبقى شرط التمكن من اللغة الفرنسية من أهم المعايير، بما في ذلك وظائف الحراس والنُدل والطهاة والسائقين”.
وكثيرًا ما يمثل الانتقال المفاجئ إلى الدراسة بالفرنسية في الجامعات المغربية عبئًا على الطلاب ومحاضريهم، ما جعل عدد الطلبة الراسبين يرتفع ويختارون العلوم الإنسانية والاجتماعية على العلوم التقنية.
تعزيز للهيمنة الفرنسية
في مقابل ذلك، يرى العديد من المغاربة خاصة أعضاء حزب العدالة والتنمية، الشريك الأكبر في الائتلاف الحكومي، وحزب الاستقلال المحافظ تلك الخطط خيانة واستعمارًا ثقافيًا وتعزيزًا للفرانكفونية في البلاد، فمن شأن خطط توسيع نطاق تعليم الفرنسية أن تؤثر سلبًا في الهوية المغربية.
كما يعتقد هؤلاء أن هذه اللغة تحولت إلى أداة إقصاء ممنهج للشعب المغربي وإهانة للعقل المغربي الذي يتم التصوير له أن الفرنسية تمثل جسرًا إلى العلوم الحديثة وهي عكس ذلك تمامًا، الأمر الذي يؤكده الإقبال الكبير من الفرنسيين لتعلم اللغة الإنجليزية.
تسعى فرنسا إلى تعزيز نفوذها في المغرب
تعود بداية “فرنسة التعليم” المغربي إلى العام 2015، عندما أصدر وزير التربية الوطنية السابق رشيد بلمختار مذكرة طالب فيها مسؤولي الوزارة الجهويين (المغرب يضم 12 جهة ويوجد في كل جهة عدد من الأقاليم والمدن)، بـ”تعميم” تدريس المواد العلمية والتقنية في المرحلة الثانوية باللغة الفرنسية، وعللت الوزارة آنذاك قرارها بأنه “تصحيح للاختلالات التي تعرفها المنظومة التعليمية”.
ويؤكد معارضو هذا التوجه وجود “لوبي” يريد الفرنسية كلغة للتدريس، وذلك من أجل فرض لغة موليير في حياة المغاربة، ويرى هؤلاء أن هيمنة اللغة الفرنسية تعكس استمرار تأثير باريس في المملكة المغربية، حتى بعد أن استقلت عنها.
واحتلت فرنسا المغرب في 30 من مارس/آذار 1912 إلى 2 من مارس/آذار 1956، وشملت الحماية الفرنسية المنطقة الوسطى بالمغرب، حيث سيطرت عليها بموجب معاهدة فاس التي قسـم المغرب بموجبها إلى ثلاث محميات.
وكانت فرنسا قد مهدت الطريق لاستيلائها على المغرب بإبرامها العديد من الاتفاقات مع القوى الاستعمارية، فاعترفت سنة 1902 بمصالح إيطاليا في ليبيا مقابل اعتراف إيطاليا بمصالح فرنسا في المغرب، أتبعه الاتفاق الودي مع بريطانيا سنة 1904 الذي رحب بسيطرة بريطانيا على مصر مقابل حرية تصرف فرنسا في المغرب، إضافة إلى اتفاقات مع قوى أوروبية أخرى.
يعتبر المغرب من بين الوجهات الآمنة للمجموعات الاقتصادية الفرنسية، ويتجلى ذلك من خلال نوع الاستثمارات الفرنسية بالمغرب
تعتبر اللغة أحد أبرز عناصر تذليل العقبات في العلاقة بين المغرب وفرنسا، حيث يوجد في المملكة 30 مدرسة فرنسية، نصف تلاميذها مغاربة، كما يوجد نحو 60 ألف شاب يتعلمون اللغة الفرنسية في المؤسسات التابعة للمعهد الثقافي الفرنسي بالمغرب، حيث ساعدت هذه اللغة المتبادلة على تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين بشكل غير مسبوق، كما أن المعهد الثقافي الفرنسي بالمغرب يحرص دائمًا على المشاركة وتسجيل حضوره في الكثير من الأحداث المهمة على الساحة المغربية.
ويعود اعتماد المغرب على سياسة تعريب التعليم إلى عام 1977، لكن هذه السياسة ظلت متعثرة، وبقيت المواد العلمية والتكنولوجية والرياضيات تدرس باللغة الفرنسية في التعليم الثانوي بالبلاد، إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث تقرر تعريب جميع المواد حتى نهاية البكالوريا (الثانوية العامة)، مع استمرار تدريس العلوم والاقتصاد والطب والهندسة باللغة الفرنسية في جميع جامعات المغرب إلى اليوم.
نفوذ اقتصادي كبير
هناك رأي ثالث في المغرب يقول إن “فرنسة التعليم” لا تعني بالضرورة تكريسًا للنفوذ الفرنسي في المغرب، فالنفوذ الفرنسي على المغرب وفي المغرب، ما زال متغلغلًا ومتحكمًا بشكل كبير خاصة في الناحية الاقتصادية.
يرى هؤلاء أن فرنسا متحكمة كليًا في اقتصاد المغرب رغم توتر العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في أكثر من مرة، وبحسب هذا القسم فإن فرنسا لا تكترث بغير الاقتصاد فأينما وجدت مصلحتها وجدت هي.
تعد فرنسا المستثمر الأجنبي الأول في المغرب، ويفيد البنك المركزي الفرنسي أن رصيد الاستثمارات المباشرة الفرنسية بالمغرب وصل إلى 9.3 مليار يورو، حيث تمثل 57.4% من مجمل استثمارات البلد الأوروبي في شمال إفريقيا و18.7% من استثماراته في القارة الإفريقية.
ارتفاع عدد الشركات الفرنسية في المغرب
يعتبر المغرب من بين الوجهات الآمنة للمجموعات الاقتصادية الفرنسية، ويتجلى ذلك من خلال نوع الاستثمارات الفرنسية بالمغرب، حيث تحتضن المملكة 900 فرع من فروع المنشآت الفرنسية، بينها 33 شركة من ضمن مؤشر “كاك 40” (المؤشر الرئيسي في بورصة باريس لأكبر أربعين شركة فرنسية)، وتتركز هذه الاستثمارات بنسبة 41.4% في الصناعة، متبوعة بالعقار بنسبة 29.5% والأنشطة المالية بنسبة 8.6% والماء والتطهير بنسبة 5.4%.
كما تعتبر فرنسا الشريك التجاري الثاني للمملكة المغربية بعد إسبانيا، حيث تحتل المرتبة الثانية في قائمة مورديه (بلغت قيمة الصادرات 4.3 مليار يورو عام 2016) والمرتبة الثانية أيضًا في قائمة عملائه، حيث وصلت قيمة الواردات إلى 4.2 مليار يورو عام 2016.
بدورها ترى شريفة لومير أن “تبعات الاستعمار التي ما زال المغرب يعيشها، جعلت من فرنسا أحد أبرز شركاء المغرب الاقتصاديين، ما جعل الاقتصاد المغربي تابعًا لفرنسا، فليس لدينا اقتصاد مستقل”، وفق الباحثة المغربية.
تنظر فرنسا إلى المغرب باعتباره مركزًا اقتصاديًا رئيسيًا وبوابة إلى الأسواق الواعدة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فالاستثمار في المغرب أصبح أحد أهم أهداف بعض الشركات الكبرى والمتوسطة الفرنسية، بسبب اليد العاملة غير المكلفة، فضلاً عن الإعفاءات الضريبية لسنوات عديدة والإعفاءات الجمركية لعمليات الاستيراد والتصدير.