وثّق صن تزو استخدام الغذاء كسلاح في الحرب في كتابه “فن الحرب” منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ولا تزال هذه الاستراتيجية تُستخدم كأداة فعالة وقوية في توجيه الحروب والصراعات الحديثة، فقد أثبتت كسرة الخبز أنها تفعل ما تعجز عنه الرصاصة، تضعف شعوبًا وترفع شعوب أخرى.
واليوم، يشغل تسليح الغذاء العالم أكثر من أي وقت مضى، فهو سمة حاضرة في كل الصراعات الساخنة والباردة، فسكان قطاع غزة مهددون بأكملهم بالموت جوعًا، والملايين من المدنيين مثلهم في السودان والصومال وإثيوبيا وغيرها من عشرات الدول على شفا المجاعة، فما قصة هذه الاستراتيجية؟ ومن عرابوها؟
سياسة حرمان مدروسة أدت إلى وفاة الآلاف جرّاء الجفاف والمرض”.. منظمة “هيومن رايتس ووتش” تؤكد أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي حرمت الفلسطينيين في #غزة من المياه عمدًا منذ أكثر من عام، ما أدى إلى وفاة الآلاف. pic.twitter.com/KdoqRGnckX
— نون بوست (@NoonPost) December 19, 2024
استراتيجية قديمة
يعاني الملايين حول العالم المجاعة الجماعية وانعدام الأمن الغذائي، ويعيش 85% منهم في بيئات صراع مسلح، حيث يستخدم المعتدون غالبًا الغذاء كاستراتيجية حرب معترف بها من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
يشير مفهوم الغذاء كسلاح حرب إلى التلاعب المتعمد أو حرمان الإمدادات الغذائية في حالات الصراع لإضعاف أو إلحاق الضرر بالسكان، ويشمل الحصار منع الوصول إلى الغذاء وتدمير المحاصيل وتسميم إمدادات المياه، أو فرض الحصار الذي يؤدي إلى المجاعة وسوء التغذية.
ينبع الارتباط بين الصراع والجوع جزئيًا من تسليح الغذاء نفسه، وهو أسلوب حرب يستغل الإمكانات القسرية لعرقلة أو منع الإمدادات الغذائية الحيوية من خلال نهب وتدمير المزارع، والتلاعب بإمدادات الغذاء لممارسة السيطرة السياسية المحلية، واستخدام الحصار المصمَّم لتجويع المدنيين المحاصرين في الداخل.
وكان التجويع السلاح الأكثر فعالية في حروب القرن العشرين، خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، حتى أنه يُقارن بالأسلحة النووية، لأنه ينتهي بقتل أعداد كبيرة من المدنيين وفظائع لا يمكن تصورها، لكن على النقيض من الأسلحة النووية، فإن تسليح الغذاء يستخدم بشكل روتيني في الحرب، وأصبحت هذه الأداة أكثر خطورة من أي وقت مضى.
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت تأثيرات تسليح الغذاء محلية النطاق، حيث كان الأمن الغذائي يعتمد إلى حد بعيد على الإمدادات الغذائية المحلية أو الإقليمية، لكن في ظل المجاعة التي رافقت هذه الحرب شاع مثل شعبي ألماني يقول: “كل حبة بطاطس بمنزلة جندي”.
وفي الخمسينيات، اتخذ العالم شكلًا أكثر أنسنة وأقل ميلًا إلى استخدام القوة الخشنة بعد تأسيس الأمم المتحدة وصياغة مواثيق دولية، أما الغذاء فتحول من سلاح فعّال في الحروب إلى أداة أكثر فعالية للتأثير في زمن السلم، فكيف حدث هذا؟
عراب تسليح الغذاء
أدلى إيرل بوتز، وزير الزراعة الأمريكي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون بين عامي 1971 و1976، بتصريح جريء ومشين لمجلة “تايم” الأمريكية في عام 1974، قال فيه إن “الغذاء سلاح، وهو الآن إحدى الأدوات الرئيسية في مجموعة أدواتنا التفاوضية”، وهو ما جعله أول من انتهج سياسة تسليح الغذاء في مفهومها المعاصر.
شجّع بوتز على زيادة الإنتاج الزراعي في الولايات المتحدة، خاصة الحبوب على نحو كبير، عملًا بشعار شهير لها “ازرع أكثر”، والهدف جعل الغذاء أداة دبلوماسية وسياسية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
لكن هذا النهج وحده لم يكن كافيًا، إذ نظر بوتز إلى الوفرة الزراعية الأمريكية باعتبارها أداة للإكراه يمكن لواشنطن أن تستخدمها ضد دول العالم الثالث: المساعدات الغذائية والتجارة مقابل التنازلات السياسية، فلجأ إلى تغيير النمط الغذائي لمن يُطلق عليهم شعوب الجنوب، لتحويل اعتمادها إلى سلع معيّنة تمتلك أمريكا الفائض منها.
خلال حقبة الحرب الباردة، شاع القمح الأمريكي في أنحاء العالم، حيث كان الجميع يحصلون عليه بأسعار زهيدة أقل من سعر الزراعة والتكلفة، وهكذا صار القمح مصدر الغذاء الأساسي بدلًا من الأغذية الأخرى.
واستعان بوتز بحدس قديم قدم الثورة الزراعية، مفاده أن الغذاء يمنح السيطرة لأولئك الذين يمتلكونه، ويجعل أولئك الذين لا يمتلكونه عرضة للخطر، واستغلال هذا الضعف -على سبيل المثال، بحصار وتجويع السكان المدنيين في دولة معادية- هو بمثابة تحويل الغذاء إلى سلاح.
ولم يكن بوتز أول مسؤول عام يصرّح بوضوح بأن الغذاء سلاح، فخلال الحرب الأهلية الروسية، من عام 1917 إلى عام 1922، كان زعماء البلاشفة مهووسين بالحصول على الحبوب وتوزيعها، إذ كانت المجاعات في مختلف أنحاء أوروبا الشرقية بمثابة وسيلة للبلاشفة للتأثير على المعارضة الداخلية، حتى أنهم فكروا في رفض المساعدات الغذائية من إدارة الإغاثة الأمريكية، وأخبروا الأمريكيين صراحة بأن “الغذاء سلاح”.
خلال الحرب العالمية الثانية، كانت القوة النسبية لإنتاج الغذاء في الولايات المتحدة حاسمة بالنسبة إلى جهود الحلفاء في الحرب، إلى الحد الذي دفع مكتب معلومات الحرب الأمريكي إلى الترويج لتقنين الغذاء بشعار لافت للنظر: “الغذاء سلاح، لا تهدروه!”.
واستنادًا إلى سياسة بوتز، كان الغذاء عاملًا حاسمًا في كل صفقة كبرى أبرمها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، ففي الموافقة على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية “سالت”، حصلت روسيا على الغذاء الأمريكي، وحدث هذا في مصر، التي كانت تعتمد على الأرزّ، مقابل توقيع اتفاقية السلام مع “إسرائيل”.
ومع نسج أنظمة الغذاء الإقليمية في نظام عالمي مترابط، تصوَّر بوتز أن الهيمنة الأمريكية على تجارة الغذاء العالمية تمثل أداة للحرب الاقتصادية والسياسية، لكنه أخفق في التنبؤ بأن الترابط العالمي يجعل استهداف الدول الفردية غير ممكن، ففي عام 1980 اختبرت الولايات المتحدة اقتراح بوتز، وفرضت حظرًا على الحبوب على الاتحاد السوفييتي، لكن الخطة فشلت، حيث وجدت موسكو بسرعة موردين بديلين، وتكبّدت إدارة جيمي كارتر ردة فعل سياسية محلية شرسة.
لكن التجربة الأمريكية مع ما أطلق عليه البعض آنذاك “سلاح الغذاء”، قدمت درسًا قاتمًا مفاده أن قيود تجارة الغذاء يمكن أن تؤدي إلى عواقب خطيرة وغير متوقعة، ومن المرجح أن تضرَّ بحلفائها ودوائرها الانتخابية المحلية كما تضر بالهدف المقصود.
ضحايا تسليح الغذاء
كان اقتراح بوتز مجرد بداية، وكانت الخطوة التالية تغيير بنية السلع الغذائية نفسها، ففي دراسة نشرها معهد لايبنيز لعلم أحياء النظام البيولوجي في ألمانيا عام 2020، أظهرت التحولات التي أُدخلت على القمح طوال 120 عامًا، وتسبّبت في ارتفاع عدد المصابين بالاضطرابات الهضمية وحساسية القمح، وذلك نتيجة إخضاعه لعمليات انتقاء جيني مكثفة.
كان لهذا النهج المتطور من تسليح الغذاء أهدافًا متعددة تتعدى مفهوم النفوذ السياسي، أبرزها الهيمنة الاقتصادية، والتحكم في الأسواق، ومنع الدول الضعيفة من تحقيق الاكتفاء الذاتي، لتصبح في خندق واحد مع الدول الكبرى التي تفرض تلك السياسة.
ولما كانت الدول القوية تتسابق فيما بينها على التسليح التقليدي، فإن تسليح الغذاء، سواء بهدف الضغط الدبلوماسي أو العسكري، يدخل في صلب هذا السباق، ويبدأ بعد فرض حصار على منطقة يقطنها مدنيون، لتبدأ بعدها المساومات السياسية والصفقات تحت مسميات الهدنة المكلفة للكثيرين.
من الأمثلة الأكثر حداثة على تسليح الغذاء الحرب الأهلية السورية، حيث شنَّ نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وميليشياته ما أسماه “حملة التجويع حتى الاستسلام”، التي حملت رسالة “الجوع أو الركوع”، وحظر دخول الغذاء إلى المناطق السكنية التي يُعتقد أنها تأوي قوات المعارضة، وفرض سياسة التغيير الديموغرافي التي كان ضحاياها أطفال وعجزة جفت مآقيهم وبرزت عظامهم، وأصبح آخرون مجبرين على مغادرة المدن المستهدفة، أو معايشة الإبادة الجماعية عن طريق التجويع، أو الهروب وإخلاء المنطقة بعد تضييق الخناق وتشديد الحصار.
وعلى جانبي الحرب الأهلية في اليمن، لا تقلّ حرب التجويع الممنهجة أقل قسوة ولا بشاعة، فقد استهدفت قوات الحوثي والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الإنتاج الزراعي بالتدمير، وعطلوا أسواق الغذاء المحلية، وعرقلوا المساعدات الإنسانية، ودخلت قوات التحالف العسكري الذي قادته السعودية على خط الأزمة، مستخدمة سياسة تجويع ممنهجة لتحقيق أهدافها العسكرية، فاستهدفت قوارب الصيد والبنى التحتية من المزارع وأماكن التسوق ومواقع تخزين الأغذية، إضافة إلى منع دخول المواد الغذائية وإغلاق الموانئ البحرية والجوية.
في مكان آخر وصراع آخر، فرضت روسيا قيودًا على الصادرات الزراعية الأوكرانية من البحر الأسود، واتُّهمت بقصف صوامع الحبوب، وسحق المخزون الاستراتيجي الأوكراني من القمح، مستغلة تأثير تسليح الغذاء في منطقة واحدة على الأمن الغذائي للجميع، ما تسبّب في إرباك الغرب، وسحق المخزون الاستراتيجي الأوكراني من القمح، واكتساب النفوذ على البلدان المستوردة المحايدة.
يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن عالمًا أكثر فوضوية من شأنه أن يحسن من قوته النسبية، ويحمي نظامه، ويعزز أهدافه العسكرية، وقد أثبتت تصرفات الكرملين أن دولة واحدة قادرة على التسبب في تضخم أسعار الغذاء، وفرض أضرار جسيمة على الجوعى في مختلف أنحاء العالم.
إذ تشكل صدمة الحرب الروسية على أوكرانيا للإنتاج والتجارة الزراعية محركًا رئيسيًا لأزمة الغذاء العالمية التي ضاعفت الجوع الحاد العالمي 3 مرات تقريبًا منذ عام 2020، ما يجعل ما يصل إلى 333 مليون شخص معرضين لخطر المجاعة، التي يعني حدوثها أن العديد من الأرواح قد أُزهقت بالفعل، ولا يمكن إنقاذها.
التجويع كجريمة حرب في غزة
كان الصراع لفترة طويلة المحرك الرئيسي للجوع العالمي، ويتجلى هذا النمط الدائم بشكل مأساوي اليوم في قطاع غزة، حيث أخذت “إسرائيل” اقتراح وزير الزراعة الأمريكي إيرل بوتز إلى مستوى جديد من المعاناة، فجميع الأسلحة تستخدم في غزة لكن أشدها فتكًا ليست الرصاصة والقنابل بكافة أشكالها وأنواعها، بل الجوع.
في قطاع غزة المحاصر منذ نحو عقدين، ينتهج الاحتلال الإسرائيلي سياسة تجويع مشابهة، يقول مسؤولون أمميون إنها تتم بقرار سياسي من حكومة الاحتلال، التي تتحكم في كل شيء حتى في عدد السعرات الحرارية اللازمة للفرد، إلى جانب قطع الكهرباء وحظر الوقود ومنع دخول الأدوية والمياه الصالحة للشرب.
وعلى خلفية عملية “طوفان الأقصى” الأخيرة، فاقم الاحتلال أزمة أكثر من مليوني مدني من خلال اتخاذه من الخبز والماء سلاح حرب، واستعار سياسة تسليح الغذاء لارتكاب إبادة جماعية في غزة، فعندما لا يفي القتل الجماعي وتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها بالغرض، ينتقل الاحتلال إلى سلاح آخر مجرب، صحيح أنه ذو مفعول بطيء بعض الشيء لكنه فتاك حتمًا، فمن أخطأته صواريخ الاحتلال لن يفلته الجوع حتى ينال منه.
تعرقل “إسرائيل” عن عمد وصول المساعدات لأهل غزة بمستوى أعلى بكثير من أي وقت مضى، وكلما زادت الضغوط الدولية عليها، سمحت بدخول إمدادات أقل من تلك التي كان يستقبلها القطاع قبل فرض الحصار الشامل الأخير رغم الحاجة الماسّة إليها.
لم تقتصر الهجمات الإسرائيلية على قتل المدنيين الذين يطلبون المساعدة فحسب، بل دمرت البنية السياسية التي كانت تتلقى المساعدات وتسهر على توسيعها، واستهدفت الشرطة والمدنيين الذين كانوا يرافقون قوافل المساعدات، وبالموازاة مع ذلك يتزايد القلق من موجة أوبئة واسعة النطاق، في ظل تداخل مراكز الإيواء وتكدس النفايات وانعدام النظافة.
وتظهر الصور القادمة من غزة بعضًا من حجم المأساة الكبيرة، وما تفعله الحرب بالناس من مجاعة ومرض وخوف وضياع لحقوق الأرض، حيث ترتبط خطة الحصار والتجويع الممنهج التي يفرضها الاحتلال على أهالي القطاع بمخططات التهجير التي بدأ المتطرفون في حكومة نتنياهو التلويح بها منذ اليوم الأول للعدوان.
مع مرور الوقت، تضيق الممرات الإنسانية وآفاق الحل السياسي، ويبقى سكان غزة وحيدين تتخطفهم أيادي الموت من كل جانب، ولا يصحون على الاستهداف الممنهج للمخابز والأسواق في وقت ذروة تحركهم لشراء احتياجاتهم، إلا ويمسون على قصف وغارات، وبينهما تتداعى الوجوه ومصائر الناس حين يموتون جوعًا.
جريمة حرب لا يعاقب عليها القانون
رغم وجود مواثيق ومعاهدات أممية تصنف التجويع كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، فإن المحاكم الدولية تعجز عن حظر أحد أكثر أسلحة الحرب خزيًا وديمومة في تاريخ البشرية، بسبب وجود ثغرات كثيرة، فالقانون الإنساني الدولي، الذي صيغ قسم كبير منه في أوائل القرن العشرين، لم يكن ليتصور نظام الغذاء المترابط اليوم.
أما المجتمع الدولي فسيفه من خشب، ويفتقر الغرب إلى امتلاك أدوات فعالة لردع الدول المارقة عن تسليح الغذاء عالميًا، ولا تمنع اتفاقيات التجارة الزراعية القائمة استخدام القيود المفروضة على الصادرات كأدوات قسرية، ويسمح قانون الشحن البحري بتقييد نقل المساعدات الإنسانية.
أيضًا، لا توجد اتفاقية تمنع فرض قيود على صادرات الغذاء، وحتى الحظر الذي تفرضه اتفاقيات جنيف على تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب يشمل استثناءات وغموضًا يساعد على الإفلات من العقاب، مثل عندما يكون التجويع غير مقصود أو عرضيًا لأهداف عسكرية.
وتعترف المحكمة الجنائية الدولية بالتجويع كجريمة حرب عندما يتم توجيهها عمدًا ضد المدنيين، وعلى هذا النحو يمكن محاسبة الأفراد المسؤولين عن استخدام الغذاء كسلاح استراتيجي للحرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، حيث تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص.
مع ذلك، ليس للمحكمة الجنائية الدولية أي اختصاص في صراعات مثل حرب اليمن، لأن دول مثل الإمارات لم توقّع على نظام روما الأساسي، المعاهدة التي أسّست المحكمة الجنائية الدولية، كما لا تعترف الدول العظمى، بما في ذلك أمريكا وروسيا والصين، بسلطة المحكمة، ولا تحترم المذكرات الدولية الصادرة عنها، ولن تسلِّم مواطنيها للمحاكمة، كما لم تصادق على نظام روما الأساسي.
وفي حالة غزة، صدرت بالفعل مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية بشأن المسؤولية عن تهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستخدام الجوع سلاحًا، بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الجيش السابق يوآف غالانت، ومع ذلك لا تملك المحكمة وسيلة ضبط وإحضار ولا آلية لمحاكمة المتهمين غيابيًا، وتقتصر على الاعتماد على الدول الأعضاء لتنفيذ قراراتها واحتجاز المشتبه بهم قبل مثولهم للمحاكمة في لاهاي، ومع ذلك لا تلتزم جميع الدول الأعضاء بالاتفاق.
لكن حتى في الأزمات الأخرى من الصعب للغاية إثبات جريمة الحرب هذه، وبالتالي إن تأمين الملاحقات القضائية يظل يشكل تحديًا كبيرًا، فلم يسبق أن تم مقاضاة أي شخص بتهمة التجويع كجريمة حرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
ورغم أن الأمر الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 26 يناير/ كانون الثاني بنبرة لافتة لـ”إسرائيل” بتمكين تقديم المساعدات الإنسانية دون عوائق، فإن أوامر المحكمة ملزمة لكنها لا تملك قوة مادية لفرضها، والسؤال الكبير هو: من يلزم “إسرائيل” بتنفيذ أمر المحكمة، وكيف وهي التي تجاهلت قبل ذلك دعوة مجلس الأمن الدولي، أعلى هيئة دولية، لوقف فوري لإطلاق النار؟
كان الرد العملي على أمر المحكمة زيادة قوات الاحتلال من عرقلة وصول المساعدات بمعاونة المستوطنين اليمينيين المتطرفين، حتى أوصلت غزة إلى هذه المجاعة، بل ارتكبت مجازر اُستشهد فيها عشرات الفلسطينيين حينما كانوا ينتظرون الشاحنات القليلة التي سمحت لها بالدخول.
شهادات إنسانية قاسية وثقها تقرير لهيومن رايتس ووتش، أكّد فيه أن حرمان سلطات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين في #غزة من المياه يعدّ سياسة متعمدة وفعلًا من أفعال الإبادة الجماعية، وأوضح أن هذا النهج المقصود ترك آثارًا مدمرة على الفئات الضعيفة، مثل الرضع والنساء الحوامل والأمهات… pic.twitter.com/cXijYXNuBo
— نون بوست (@NoonPost) December 20, 2024
ورغم كل الأدلة التي تثبت استخدام “إسرائيل” سلاحًا قد يكون أشد فتكًا من السلاح الكيميائي والصواريخ، لم يكن هناك شيء ملموس من حيث العقوبات على مستوى القيادة أو المساءلة عن التجويع القسري، فقد سبق أن أدان الاتحاد الأوروبي المصادرة غير القانونية لآلاف الأفدنة من الأراضي الفلسطينية من قبل “إسرائيل”، لكن لم تكن هناك عواقب للقيام بذلك.
وفي عام 2022، دعا معهد الشؤون الدولية والأوروبية إلى وضع حد للإفلات من العقاب على تكتيكات التجويع، ومع ذلك إن إحدى الصعوبات في مقاضاة التجويع كأسلوب من أساليب الحرب هي أنه وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يجب إثبات أن الجاني “استخدم التجويع عمدًا” كأسلوب من أساليب الحرب.
وبالطبع، من الصعب إثبات النية في خضم الصراع، كما أن النية غير ذات صلة إلى حد كبير بالمدنيين الذين يعانون من العواقب، يُضاف إلى ذلك أن التكتيك الذي يؤدي بشكل عرضي أو غير متوقع إلى تجويع السكان المدنيين لدى العدو، وبالتالي يمنح بعض المزايا العسكرية، لا يمكن تمييزه غالبًا عن الاستخدامات المتعمدة للغذاء كسلاح.
ومع تراخي القانون الدولي، يصبح القتل الجماعي البطيء بلا دخان ولا نار أكثر شيوعًا وتكرارًا في فوضى حروب تُستباح فيها الكرامة الإنسانية، بينما يراقب العالم بلا مبالاة، وحتى لو صدرت إدانات لدول أو شخصيات تمارس التجويع وتسليح الغذاء، فإن تجارب العدالة في عالم اليوم لا تبشر كثيرًا، فلا يُعاقب كل المدانين في محاكم اليوم، ولو عوقبوا فسيكون بعد زمن طويل من فناء الضحايا.