يحتل الطفل في مختلف دول العالم المتقدم محور الاهتمام الأول لكل أجهزة الحكم بشتى أنواعها، تتصدرها المؤسسات الثقافية والفنية، تلك التي تشكل هوية الطفل وترسم الخيوط الأولى لبنائه العقلي والتوعوي، الأمر الذي جعله قبلة التركيز الأساسية ومسرى شريان المجتمع وأوردته.
وتمثل السينما أحد أبرز الروافد التي تغذي عقل وروح الطفل في بداياته الأولى، ومن ثم وضعت حكومات العديد من الدول – التي تولي نشئها الرعاية – سينما الطفل أهمية كبرى، فباتت تنافس غيرها من السينما الروائية ذات العائد الربحي الكبير، وهو ما ساهم بشكل أو بآخر في إحداث حالة من التوازن المجتمعي، الفكري والثقافي.
محاولات على استحياء
رغم الريادة العربية في دخول عصر السينما، فإن واقع السينما الموجهة للطفل كان أقل حظًا، إذ بدأ التعريف بها في ستينيات القرن الماضي، عن طريق بعض المحاولات في مصر وسوريا والعراق وفلسطين، لكنها لم ترتق بعد لمستوى الإبداع القادر على المنافسة.
الكاتب المتخصص في أدب الطفل، يعقوب الشاروني، في كتابه الصادر مؤخرًا عن المركز القومي المصري لثقافة الطفل، تحت عنوان “سينما الأطفال في مصر والعالم العربي” أشار إلى أن المسؤولين في البلدان العربية لم يخصصوا لتلك الصناعة دعمًا، ماليًا وفنيًا وتقنيًا، معقولًا، فلم تأخذ خطوات واثبة نحو التطور.
الكتاب الذي يتضمن 11 دراسة، مع عرض لموضوعات 32 فيلمًا عرضوا فى دورات مهرجان القاهرة الدولي لسينما الأطفال، منذ دورته الأولى عام 1990 حتى دورة عام 2011، كشف العديد من التجارب العربية في هذا المضمار، بداية بمصر التي بدأت بتخصيص ميزانيات لإنتاج خمسة أفلام، أخرج أحمد كامل مرسي أولها عن قصة يحيى حقي “السلم اللولبي”، وحين حضر وزير الثقافة آنذاك عرضًا خاصًا للفيلم نفسه، انصرف من القاعة، لأن ما شاهده “ليس فيلمًا للأطفال”، وهكذا توقف المشروع.
العديد من الدراسات أشارت أن جميع الدول العربية تستورد معظم ما تعرضه من أفلام للأطفال من دول أوروبية وأمريكية وآسيوية، وذلك لاعتبارت اقتصادية
وبعدها قدمت مصر بعض الأعمال الأخرى منها فيلم الرسوم المتحركة “العصفورة عزيزة” الذي فاز بجائزتين تقديريتين في مسابقة دولية لسينما الأطفال، بجانب أعمال أخرى مثل “خمسة واحد” و”قصة شجرة” و”الأراجوز فرقع لوز” و”زيزي الشقية” و”السندباد الأخضر” و”نرجس”.
فلسطينيًا.. أنتجت منظمة التحرير الفلسطينية فيلمًا عن رسوم الأطفال في معسكرات اللاجئين، ورغم أن الفيلم حقق نجاحًا ملموسًا، فقد تعرض لبعض الانتقادات كونه أقرب إلى الأفلام التسجيلية، إلا أنه كونه بدايةً أثار إعجاب وتقدير الكثير من المهتمين بسينما الطفل العربية.
رائد أدب الطفل يعقوب الشاروني
أسباب التراجع
الشاروني في كتابه عدد من أسباب عرقلة هذا الفن في العالم العربي، منها منافسة الإنتاج الأجنبي، فالمنَتج متوافر ورخيص، لذا صار شراء الفيلم أسهل من إنتاجه، هذا بجانب ندرة الكوادر المدرَّبة على صناعة فيلم الطفل، وبالتالي جاءت معظم الأفلام عن الأطفال وليس لهم، كما أن قلة الأماكن المخصصة لعرض أفلام الأطفال سبب آخر.
وأضاف الأديب المصري أن فيلم “الأميرة والأقزام السبعة” الذي لم يستمر عرضه أكثر من أسبوعين في القاهرة يعد دليلًا على عائق آخر يتمثل في التسويق الذي كان فشله ذريعًا، رغم المجهود الذي بُذِلَ لمدة عام في دبلجة الفيلم، متسائلاً: هل مقدرات الدول العربية من كتابة وإخراج وتقنية وأموال، غير قادرة على تقديم أفلام تناسب الطفل؟ مجيبًا عن نفسه: بالطبع لا، ولكن علينا أن نتخطى العوائق، وعلى الدول العربية أن تتولى إنتاج وإهداء وإعارة تلك الأفلام إلى المؤسسات الثقافية والتعليمية والتربوية، فليس لدينا أهم من الاستثمار في الطفل، باعتباره العمود الفقري لمستقبل الوطن العربي.
وفي حوار له أوضح أن العديد من الدراسات أشارت أن جميع الدول العربية تستورد معظم ما تعرضه من أفلام للأطفال من دول أوروبية وأمريكية وآسيوية، وذلك لاعتبارت اقتصادية، داعيًا الحكومات العربية ورؤوس الأموال العربية لتوفير الإمكانات المادية لإنتاج أفلام الأطفال، وتدعيم الإنتاج المشترك فيما بينها، وذلك لتوفير الإمكانات الفنية ورأس المال اللازم للإنتاج فى هذا المجال لأهميته
فيما ذهب المخرج المسرحي محمود أبو العباس أن ما يقال بشأن إرجاع الإهمال في سينما الطفل لعدم ارتيادهم السينما كثيرًا ليس إلا وهمًا لا علاقة له بالحقيقة، مشيرًا إلى أن الأطفال أكثر اهتمامًا بالسينما، فالهجمة الكبيرة على صناعة سينما الأطفال الغربية تعني أن هناك قفزة بالوعي في فهم الطفل وتوافقه مع ما أفرزته الحضارة وتطور تقنيات السينما التي يمكن أن ينسجم معها الطفل ويستمتع بها ويستفيد منها في توسيع مداركه ومعارفه.
وأضاف أن تراجع إقبال المنتجين على هذه النوعية من الأفلام يعود في المقام الأول لكلفتها الكبيرة، ومن ثم الخوف من الخسارة حال عدم نجاح الفيلم وضعف الإقبال عليه، موضحًا “بشكل عام لا يمكن إنكار أن هناك إهمالاً واضحًا لكل ما يخص ثقافة الطفل والاهتمام به، عدا ما نجده في بعض المؤسسات التي تعني بالطفل والأسرة ككل”.
الحل يكمن في ابتكار شخصيات كارتونية عربية تقدم ما نرد أن ننميه في أطفالنا من قيم وسلوكيات بشرط أن يكون الدور الأول للفن، وأن تأتي القيم التربوية على نحو غير مباشر
أزمة ثقافية
آخرون ذهبوا إلى أن غياب سينما خاصة بالطفل العربي يعكس أزمة ثقافية وفنية مرشحة للاستمرار خلال السنوات القادمة، لا سيما أنه لا يوجد حتى الآن ما يمكن اعتباره صناعة سينمائية موجهة للأطفال قائمة بنفسها أو لها ملامح، بل إن أزمة سينما الأطفال في الدول العربية تمتدّ إلى ما هو أعمق من هذا بكثير.
تتجسد ملامح هذه الأزمة في أن معظم الأفلام السينمائية الغربية تحمل مضامين وثقافات وقيمًا تخالف القيم العربية والإسلامية، وهو ما يعرّض الصغار في نفس الوقت لشكل من أشكال الاغتراب نتيجة تأثرهم بما يعرض عليهم من أفلام غربية تستهدفهم، وتسبب لهم تضاربًا وحيرة بين ما يتلقونه من قيم ومبادئ وأفكار في بيئتهم المحلية، وما يتعرّضون له من أفكار غريبة عنهم وعن المجتمع الذي يعيشون فيه التي تقدمها السينما الغربية.
الناقد السينمائي محمود قاسم يحذر مما وصفه بـ”التأثير الخطير” لأفلام الأطفال الأجنبية على الأطفال العرب، معتبرًا أن مثل هذه الأفلام تنشر بين الأطفال العرب أفكارًا وثقافات ومبادئ غريبة تهدد النسيج المجتمعي وتقوض منظومته القيمية، لافتًا إلى الخلط الواضح لدى القائمين على ثقافة الأطفال بين الأفلام التي يمثل الأطفال فيها وأفلام سينما الأطفال، ويقول “من الممكن أن يمثل الأطفال في أفلام موجهة للكبار، والعكس أن يمثّل الكبار في أفلام موجهة للأطفال”.
دعوات لمزيد من الاهتمام بسينما الطفل عربيًا
ما الحل؟
“على رأس الصعوبات التي تعرقل صناعة السينما الاحترافية للأطفال في العالم العربي، أنه لا يوجد على وجه الدقة من يعرف أو يدرك كيف يفكر الأطفال أو ما القضايا التي تشغل بالهم؟ كما أن من يحاولون العمل في مجال سينما الأطفال لا يفكرون كما يفكر الأطفال، وهو ما يعكس حالة من عدم الاتساق بين القليل الذي ينتج من أفلام موجهة للأطفال، وما يريده هؤلاء الأطفال فعلًا”، بهذه الكلمات علقت الناقدة زينب حسن الإمام على واقع سينما الأطفال العربية.
الإمام أشارت إلى أن أول خطوة في طريق الحل تتمثل في ضرورة الاهتمام بالبحوث التي تقيس اتجاهات الأطفال، وتقترح إنشاء هيئات خاصة لإنتاج سينما الأطفال، مؤكدة أن من بعض الأخطاء الشائعة في هذا الشأن الاعتقاد بأن السينما هدفها إضحاك الأطفال فحسب، ولكن في حقيقة الأمر الأطفال على صغر سنهم لهم مشاعر وقضايا وهموم، وهم يريدون من يعبر عن هذه القضايا والمشاعر والهموم من خلال سينما خاصة بهم، على حد قولها.
الأمر ذاته ذهب إليه أستاذ علم النفس التربوي سعيد منصور الذي يرى أن عدم معرفة القائمين على صناعة سينما الأطفال بما يفكر فيه هؤلاء الأطفال، يعتبر إشكالية كبيرة، بجانب عيوب البحث العلمي فيما يتعلّق باستطلاع آراء الأطفال في الأعمال المخصّصة لهم، خاصة ما يتعلق بمسألة التأكد من صدق الإجابات التي يدلي بها الأطفال في استطلاعات الرأي المخصصة لهم، ليس لأن الأطفال كاذبون.
أما الشاروني فيرى أن الحل يكمن في ابتكار شخصيات كارتونية عربية تقدم ما نرد أن ننميه فى أطفالنا من قيم وسلوكيات بشرط أن يكون الدور الأول للفن، وأن تأتي القيم التربوية على نحو غير مباشر، وأضاف “لدينا عدد كبير من القصص التى أبدعها المؤلفون المصريون والعرب للأطفال الصالحة لتكون موضوعًا لأفلام الأطفال، بالإضافة إلى ما يحفل به تراثنا العربى من قصص استفادت منها كثيرًا السينما العالمية مثل “السندباد وعلى بابا وعلاء الدين” وغيرها، لكن القضية تكمن في عدم إدراك صانع القرار مدى أهمية وقوة أثر السينما على خيال وعقول وسلوك أطفالنا، واعتبار كل ما ننفقه على فيلم للأطفال هو استثمار أساسي في بناء أجيالنا الجديدة”.
وتتفق معه في الرأي الناقدة السينمائية حنان شومان التي ترى أن الثراث العربي مليء بالشخصيات التي تصلح لصناعة هذه النوعية من الأفلام، متسائلة: أين المنتج الذي سيغامر لصنع عمل كهذا في ظل غياب صناعة السينما بوجه عام، مشيرة إلى أن السينما التي توجه للطفل في الوقت الحاليّ يجب أن تحتوى على تقنيات عالية وإبهار في ظل التطور التكنولوجي، اﻷمر الذي يحتاج إلى تكلفة إنتاجية عالية.