شهدت انتخابات الرئاسة المصرية عزوفاً واضحاً عن الذهاب لصناديق الاقتراع؛ ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن المشير السيسي لا يتمتع بشعبية ما. تماماً مثل القول بأن المتظاهرين والمعارضين للنظام الحالي في مصر ليسوا سوى أقلية صغيرة. الصحيح، أن المصريين منقسمون بصورة لا نعرف حدودها وحجمها على نحو يقيني؛ كما انقسموا خلال الأيام القليلة السابقة على 30 حزيران/يونيو، وانقسموا قبلها في انتخابات الرئاسة الأولى بعد الثورة، وحول أولوية الدستور أو انتخابات الرئاسة، وحول نظام مبارك، قبل سقوطه وبعد السقوط. الانقسام، كما أشرت في هذا الموقع من قبل، سمة رئيسية للاجتماع السياسي العربي ـ الإسلامي، يعود بجذوره إلى النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وانهيار الاجماع التاريخي المكرس للثقافة والمرجعية. ويتعلق أحد أبرز خطابات الانقسام السياسي المصري بالحفاظ على الدولة المصرية واستمرارها.
لم يبرز خطاب الدولة هذا في الاسابيع القليلة الماضية، في معرض التأييد لرئاسة المشير السيسي ومكافحة معارضيه، وحسب، بل كان سبباً رئيسياً في الاصطفاف، متعدد الأصوات والخلفيات، الذي أدى إلى إطاحة الرئس مرسي، أول رئيس منتخب للجمهورية بإرادة حرة.
لم يكن مرسي هو مرشح الرئاسة الوحيد في انتخابات 2012 الذي جاء من خارج دائرة الدولة المصرية. الحقيقة، أن أغلب المرشحين يومها، بمن في ذلك حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي، نظر إليهم باعتبارهم غرباءً على الدولة وتقاليدها. بين مرشحي معركة الانتخابية الرئاسية البارزين، كان عمرو موسى وأحمد شفيق فقط من انحدرا من حضن الدولة، ونظرت إليهما دوائر الدولة بود ومعرفة. وهذا ما جعل ولاية مرسي تواجه سلسلة من العقبات، منذ اليوم الأول للعام الوحيد الذي احتل فيه مقعد رئاسة الجمهورية. هذه دولة لم تسلم مقاليدها لغرباء عليها طوال القرنين اللذين مضيا على ولادتها في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، وبالرغم من انتقالها من خديوية عثمانية، إلى احتلال بريطاني، ومن مملكة شبه مستقلة ومستقلة، إلى جمهورية ضباط الجيش، لم تتعرض لمتغيرات جوهرية، مفاجئة، في بنيتها، وقيمها، وشبكة مصالحها، أو طرائق عملها.
كان مرسي هو أول وافد غريب على هذه البنية والقيم وشبكة المصالح وطرائق العمل. ولم يكن مدهشاً، بالتالي، أن تستشعر الدولة، بمؤسساتها الرئيسة المختلفة، خشية من الوافد الجديد. وما إن بدأ مرسي في اتخاذ خطوات ملموسة لتغيير بنية وقيم وطرائق عمل الدولة، والمس بشبكة المصالح المرتبطة بها، حتى تحولت الخشية إلى خوف واستعداء. في النهاية، وعندما شعرت مؤسسات الدولة وأذرعها الأمنية والعسكرية بالغة القوة والنفوذ، ودوائر رجال الأعمال والمصالح وثيقة الصلة، بأن وجود مرسي بات يهدد استمرار الدولة كما عرفوها، انقلبت الدولة على رئيسها، كل أجهزة الدولة، وليس ذراعها العسكرية وحسب.
بيد ان إطاحة مرسي لم يحل مسألة انقسام الاجتماع – السياسي المصري، بل زاد هذا الانقسام تفاقماً، ودفع مصر إلى هوة عدم استقرار مديدة. انطلقت حركة احتجاج شعبي، غطت معظم مدن مصر وبلداتها. وبالرغم من أن مصر عرفت حوادث العنف المسلح المتفرقة طوال العقد الماضي، فقد تصاعدت وتيرة هذه الحوادث في الشهور العشرة الماضية. في مواجهة حركة الاحتجاج، انحدرت البلاد سريعاً إلى مناخ قمعي، اجتثاثي، لم يستهدف جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمي إليها الرئيس محمد مرسي، فقط، بل وقطاعاً عريضاً من الشبان والشابات من طلاب الجامعات بكافة توجهاتهم؛ إضافة إلى جماعات الاحتجاج التي شاركت في ثورة كانون ثاني/يناير 2011، ولم تكن بين مؤيدي مرسي بالضرورة، مثل جماعة 6 إبريل. اعتقل الآلاف، ويتعرض كثير منهم للتعذيب، وأصدرت أحكام قضائية بشعة ومبالغ فيها ضد كل من تمت محاكمتهم؛ أغلقت مئات الجمعيات الخيرية، وصودرت مئات أخرى من المدارس الخاصة، ونزعت ملكيات وأموال خاصة لعشرات من الشخصيات. أدى هذا المناخ إلى اتساع الهوة بين دوائر الدولة الشرطية والأمنية ـ العسكرية والقضائية، من جهة، وعموم المصريين، من جهة أخرى، وإلى تراجع فادح في فعالية العجلة الاقتصادية، وإثارة المخاوف لدى المستثمرين المحتملين في السوق المصري، من مصريين وغير مصريين. وكان طبيعياً أن يرتد هذا المناخ من التأزم السياسي ـ الأمني، والتدهور المالي ـ الاقتصادي، على الدولة المصرية ذاتها. وربما لم تواجه الدولة المصرية في تاريخها الحديث كله تحدياً بحجم التحدي الذي تواجهه اليوم، ولم تتعرض لتهديد لوجودها واستمرارها مثل التهديد الذي تتعرض له اليوم.
لكثير من المصريين، لم يعد البحث عن دور الدولة في هذه الأزمة مسألة تستحق البحث. ويعبر هؤلاء بطرق ولغة وتصرفات مختلفة عن شعورهم بالتأزم وعن التهديد الذي تواجهه دولتهم. ولكن التعبير الأكثر دلالة هو ذلك المتصل بالانتخابات الرئاسية. ثمة شريحة من المصريين كانت ستعطي أصواتها للسيسي مهما كانت الأوضاع، باعتباره «البطل» الذي خلص البلاد من خطر حكم الإسلاميين الداهم. ولكن القطاع الأكبر ممن قرروا اختيار السيسي رئيساً هم أولئك الذين حسبوا أنه الوحيد المؤهل للحفاظ على الدولة واستمرارها، الوحيد القادر على استعادة «النظام الطبيعي» للبلاد، اقتصاداً ومالاً وسياسة وعلاقات مصالح، الوحيد الذي سيضع نهاية للانحدار الأمني، ويضع نهاية لمناخ الطوارىء والقلق الذي بدا خلال الشهور الماضية أن ليس ثمة مخرج منه. ومصر، على أية حال، ليست استثناءً.
مر أغلب الثورات الشعبية عبر التاريخ بحالات من المد والجزر، التقدم والتراجع، الطبيعي والفوضوي، التفاؤل وفقدان الثقة واليقين. وعندما يسيطر مناخ التأزم والقلق وفقدان الأمن ونمط الحياة العادية، تستجدي قطاعات شعبية واسعة، لا علاقة لها بقوى الثورة المضادة بالضرورة، عودة مظلة الدولة وأمنها ويقينها. كل الدول الحديثة، بالطبع، تمارس قدراً من التحكم والقمع، وكلها توفر قدراً من الامتيازات للطبقة التي تستند إليها وتسندها، وكلها تحتفظ في داخلها بقوة خفية لإعادة توليد الذات.
الفارق بين الدولة الديمقراطية ودولة الاستبداد يتعلق بمستوى العقلانية القانونية والعرفية الذي تمارس فيه الدولة مهماتها، وثقل الدور المتاح للشعب في صناعة قرار الدولة ورقابتها، وحجم الدائرة الشعبية التي تعتقد بشرعية الدولة وتلبية هذه الدولة لحاجاتها وآمالها. عندما يصل غياب عقلانية الدولة أكثر مستوياته فداحة، وتبتعد ممارسات الدولة عن كل ما هو متعارف عليه، وتصل فاشيتها درجة غير قابلة للتحمل؛ عندما تشعر أغلبية كافية بأن الدولة لا تعبر عن إرادتها بأي صورة من الصور؛ وعندما يضيق حجم دائرة الشعب التي تعتقد بشرعية وجود الدولة وتلبيتها لحاجاتها، تندلع الثورة.
في المقابل، يستبطن تعثر مسار الثورة، وارتفاع وتير خطاب المحافظة على الدولة واستمرارها، التضحية بوعود الديمقراطية والحرية وإعادة بناء العلاقة بين الدولة وشعبها. تندلع الثورات أصلاً لفشل الدولة وإخفاقها في علاقتها متعددة المستويات مع شعبها. ولذا، فما إن يصبح هدف المحافظة على الدولة واستمرارها بوابة الخلاص من مناخ التأزم وفقدان الأمن والاستقرار، حتى تهوي البلاد إلى هاوية من العبث وانغلاق المستقبل، أو ما يعرف في المصطلح السياسي بالدائرة الملعونة. ليس فقط لأن التضحية بوعود الحرية والديمقراطية يفسح المجال لعودة سيطرة الأقلية، وشبكة المصالح، التي اندلعت الثورة لإطاحتها، ولكن أيضاً لأن هذه التضحية تعني عودة ممارسات الدولة السابقة في صورة أشد تفاقماً وانتقاماً: عودة انحياز القضاء لمنظومة المصالح وانهيار منظومة العدل، عودة القبضة الأمنية وإهدار الحقوق الإنسانية، وعودة تخلي الدولة عن واجباتها الخدمية تجاه شعبها: تعليماً وصحة ومواصلات ونظاماً مدينياً. بمعنى، أن لحظة اليأس والخوف والقنوط التي تدفع باللجوء إلى خطاب الحفاظ على الدولة واستمرارها، لن تحافظ في النهاية على الدولة ولا على استمرارها، بل ستستعيد خراب الدولة وإخفاقاتها، التي أدت إلى اندلاع الثورة في البداية.