تعد سوريا واحدة من أكثر دول المنطقة تنوعًا عرقيًا ودينيًا، إذ تضم مكونات عرقية ودينية متعددة تؤثر بشكل كبير على نسيجها الاجتماعي والسياسي.
يتشكل هذا التنوع من العرب الذين يمثلون الأغلبية، إلى جانب الأكراد، السريان، التركمان، الأرمن، الجركس، وأقليات أخرى، فضلًا عن الطوائف الدينية المختلفة مثل السنة، العلويين، الدروز والمجموعات المسيحية. هذا التعدد العرقي والديني يشكل جزءًا أساسيًا من هوية سوريا ويعكس موروثًا طويل الأمد من التعايش والتفاعل بين هذه المجموعات.
مع دخول البلاد في مرحلة ما بعد الأسد، سيظل هذا التنوع محوريًا في تحديد شكل الدولة السورية المستقبلية، حيث ستكون التحديات التي تفرضها هذه التعددية العرقية والدينية حاسمة في بناء أسس السلام الاجتماعي والسياسي وإعادة تأسيس النظام السياسي الذي يضمن حقوق جميع الأطراف.
سوريا: التركيبة العرقية
يحاول هذا التقرير رسم خريطة التنوع الديمغرافي في سوريا، وتقدير نسب المكوّنات التي تجمع لوحة الفسيفساء السورية، الإثنية والدينية، ولا بدّ أن نشير، إلى هذه الأرقام والنسب هي تقديرات فيها قدر كبير من السيولة، ولا يمكن اليوم لأي جهة تقديم أرقام حاسمة في ظل غياب إحصاء رسمي سواء لعدد سكان سوريا أم لعدد السوريين في الداخل والشتات والمهجر، فضًلا عن وجود إحصاء ذي صبغة عرقية وطائفية، وما نحاوله هنا هو تقريب الأرقام والوصول لنسب محتملة قريبة من الواقع.
العرب
يشكل العرب حوالي 78.5% من السكان، ويعتبرون أكبر المكونات السكانية العرقية في سوريا. يشكلون أغلبية في جميع المحافظات السورية باستثناء محافظة الحسكة. يمكن تقسيم العرب في سوريا إلى ثلاث فئات رئيسية:
-
- القبائل العربية القديمة: استقرت منذ العصور الأنتيكية وبعد الفتح الإسلامي، وشكلت قاعدة اقتصادية وعسكرية خلال العصر الأموي، لكنها تراجعت بعد غزوات المغول.
- القبائل المهاجرة من نجد: انتقلت خلال القرنين الـ17 و18 إلى وادي الفرات وريف حلب، وتشكل نحو 20% من السكان، مع لهجة عربية نجدية. يشمل ذلك أيضًا الدروز الذين استقروا في جبل العرب خلال الفترة نفسها.
- المستعربون: يشكلون 64% من السكان، ينحدرون من أصول آرامية، واستعربوا تدريجيًا حتى القرن الـ11، ويتميزون باللهجة السورية العامة.
الكرد
يقدر عدد الأكراد في سوريا – بحسب تقديرات غير رسمية – بـ1.6 مليون نسمة، ويشكلون و8% من سكان سوريا، و6% من أكراد العالم، يتركزون بشكل أساسي في ثلاث مناطق رئيسية على طول الحدود التركية: شمال محافظة الحسكة، منطقة عين العرب (شمال شرق محافظة حلب)، ومنطقة عفرين (شمال غرب محافظة حلب). بالإضافة إلى ذلك، هناك تجمعات كردية كبيرة في مدن مثل دمشق وحلب.
سعى الأكراد في سوريا، على مدى عقود، إلى الحصول على حقوقهم والاعتراف الرسمي بلغتهم وثقافتهم، في ظل تهميش طويل الأمد. ومع اتساع رقعة الثورة السورية، تصاعد نفوذهم بشكل ملحوظ، حيث وجدوا فرصة لتعزيز حضورهم السياسي والعسكري. واستفاد حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي) من الوضع القائم، متحالفًا مع النظام السوري والإيراني، ليتمكن من السيطرة على مناطق ذات أغلبية كردية شمال البلاد. كما تلقى دعمًا عسكريًا ولوجستيًا من الولايات المتحدة، بدعوى محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
على مدى عقود، تعرضت المناطق الكردية في سوريا لسياسات تمييزية استهدفت تغيير بنيتها الديموغرافية والاجتماعية، أبرزها الاستيلاء على الأراضي وتوطين العرب خلال مرحلة الإصلاح الزراعي، والتعريب الممنهج لأسماء المدن والقرى، وسحب الجنسية من الأكراد، مما حرمهم من حقوقهم الأساسية. كما فُرضت قيود على النشاط الثقافي واللغوي الكردي، ما أدى إلى تهميش هويتهم. رغم ذلك، يبقى شمال شرق سوريا ذا أهمية استراتيجية، حيث يضم 80% من الإنتاج الزراعي السوري، و70% من النفط والغاز، و35% من الثروة الشجرية.
السريان الكلدان الآشوريون
يشكلون ثلث مسيحيي سوريا، ويقدر تعدادهم بـ250,000 يتوزعون بين دمشق وحلب والجزيرة، ويتبع أغلبهم الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، هاجر 60% منهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى الدول الغربية وأستراليا وأمريكا.
كانت هذه المكونات الصغيرة تحصل على أجزاء من حقوقها الثقافية والإدارية وبعض الامتيازات. وخلال الثورة السورية انقسم المجتمع السرياني الكلد الآشوري إلى قسم مؤيد للنظام، وآخر انضم إلى الإدارة الذاتية.
التركمان
يمثلون أقلية مهمة ضمن التركيبة السكانية للبلاد، لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد التركمان في سوريا، إلا أن أحزابًا سياسية تركمانية تقدّر عددهم بين 3 إلى 3.5 مليون شخص. يتوزع التركمان في عدة مناطق، أبرزها حلب وريفها، اللاذقية وريفها، حمص وريفها، دمشق، والجولان. وينقسمون من حيث استخدامهم للغتهم الأم (التركمانية) إلى قسمين رئيسيين: سكان القرى الذين تمكنوا من الحفاظ على لغتهم، وسكان المدن الذين اندمجوا مع المجتمعات المحيطة، ما أدى إلى تراجع استخدامهم للغتهم الأم ونسيانها في كثير من الحالات.
رغم أن غالبية التركمان في سوريا يتحدثون العربية، فإنهم يحرصون على الحفاظ على هويتهم الثقافية والتركية، ويستخدمون في بعض الأحيان اللغة التركية في حياتهم اليومية ضمن التجمعات التركمانية.
يتميز التركمان في سوريا بكونهم جزءًا من نسيج المجتمع المتعدد الثقافات في البلاد، حيث يعيشون في مناطق مختلطة مع العرب والأكراد.
الشركس
هم مجموعة صغيرة تعود أصولها إلى منطقة القوقاز، وقد انتقلوا إلى سوريا في بداية الستينيات من القرن التاسع عشر بعد حملة التجنيد الإجباري التي أقدمت عليها السلطنة العثمانية في بلادهم. وفق الإحصاءات غير الرسمية، يقدر عددهم بحوالي 100,000 نسمة. يتوزعون في مناطق متفرقة مثل القنيطرة ودمشق، لكن دون وجود تجمع مركزي لهم سوى في ناحية “خناصر” جنوب حلب، معظمهم ينتمون للمذهب السني، ويحتفظون بتراثهم الثقافي، حيث لا تزال شرائح كبيرة منهم يتحدثون اللغة الأديغية ويصونون عاداتهم التقليدية.
الأرمن
جزء من الشتات الأرمني الذي هاجر إلى البلاد بعد الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها من قبل السلطنة العثمانية في عام 1915. وفقًا لمنظمات الشتات الأرمني، يقدر عدد الأرمن في سوريا بحوالي 150,000 نسمة. معظمهم يعيشون في مدينة حلب وبلدة الكسب في أقصى شمال محافظة اللاذقية قرب جبل الأكراد. كان هناك تجمع سكاني كبير للأرمن في مدينة دير الزور قبل أن يهجروها بسبب الضغوطات التي تعرضوا لها من القبائل العربية الرحل.
الأشوريون والسريان
يُقدر عددهم بحوالي 1-3%، من سكان سوريا ينتشرون في مناطق الجزيرة السورية، مثل الحسكة والقامشلي.
تعددية دينية وطائفية.. المسلمون السنة في الصدارة
تمثل سوريا نموذجًا للعيش المشترك بين عدة طوائف وأديان في توازن دقيق، يشمل المسلمين من مختلف المذاهب، المسيحيين، الدروز، الإيزيديين، الشيعة، والعديد من الأقليات الأخرى. تاريخيًا، ساهم هذا التنوع في تشكيل الهوية السورية المعقدة، التي تتمثل في التعددية الثقافية والدينية واللغوية.
المسلمون السنة (75%)
يعتبر المسلمون السنة أكبر طائفة دينية في سوريا. يعيشون في معظم المناطق السورية، حيث يمثلون أغلبية في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص ودير الزور والرقة، وكذلك في أرياف العديد من المحافظات.
يشكلون الغالبية في دمشق، حلب، حمص، الرقة، درعا، دير الزور، الحسكة، وأجزاء من محافظات حماه والقنيطرة. في بعض المناطق مثل مدينة حلب، يمزجون مع الطوائف الأخرى، مما يساهم في التنوع السكاني.
يتميز المجتمع السني بتنوع كبير في العادات واللغة، حيث يتواجد في مناطق مختلطة مع العلويين في اللاذقية وطرطوس، وأحيانًا مع المسيحيين في بعض المدن مثل حمص ودمشق.
المسيحيون (10%)
يشكل المسيحيون في سوريا طائفة دينية قديمة ومتنوعة، تضم السريان، الكلدان، الأشوريين، والأرمن، يتواجد المسيحيون في دمشق وحلب والساحل السوري (طرطوس واللاذقية) وحمص وحماة، حيث توجد تجمعات مسيحية مهمة مثل حي باب توما في دمشق، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل الجزيرة.
تُشير التقديرات إلى أن عدد المسيحيين في سوريا شهد تراجعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي. قبل عام 2011، كان عددهم يُقدَّر بحوالي 1.5 مليون نسمة، ما يعادل نحو 10% من إجمالي السكان.
مع اندلاع النزاع وما تلاه من هجرة ونزوح، انخفض العدد بشكل كبير. في عام 2021، قدّرت منظمة “أوبن دورز” غير الحكومية عدد المسيحيين بحوالي 677 ألفًا.
في عام 2023، أشارت منظمة “العون للكنيسة المحتاجة” إلى أن العدد تراجع إلى نحو 300 ألف، أي أقل من 2% من السكان. وقد هاجر المسيحيون في ثلاث دفعات: الأولى من 2012 إلى 2014، والثانية من 2015 إلى 2017، والثالثة بعد عام 2020 بسبب الفقر والحصار الاقتصادي.
العلويون (12-15%)
يشكل العلويون طائفة دينية نابعة من الطائفة الشيعية، لكنهم يختلفون عن الشيعة الإثنا عشرية في عقيدتهم، ينتشر العلويون في المناطق الساحلية السورية، وخاصة في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث يشكلون الأغلبية. كما يتواجدون في بعض أحياء حمص وحماه ودمشق.
ارتبط العلويون بالحكم السياسي في سوريا منذ فترة الاستقلال مع صعود حافظ الأسد، حيث كانوا يشكلون العمود الفقري للجيش والنظام الأمني.
الدروز (4%)
هم طائفة دينية تنحدر من المذهب الشيعي الإسماعيلي، لكنهم يتبعون تفسيرًا خاصًا لطقوسهم الدينية، يشكل الدروز الأغلبية في محافظة السويداء، حيث تنتشر طائفتهم في مناطق مثل صلخد، القريا، وجبل الدروز. كما توجد تجمعات درزية في مناطق أخرى مثل جرمانا في ريف دمشق.
يعتبر الدروز جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي السوري، ويتمتعون بخصوصية دينية وثقافية، ولا سيما من خلال الزعماء الدينيين والسياسيين الذين كان لهم دور في السياسة السورية.
طوائف أخرى (1%)
الإسماعيلية
هي طائفة فرعية من الشيعة الإثنا عشرية، وتتميز بمعتقدات دينية فريدة، يتركزون بشكل أساسي في ريف محافظة حماه وطرطوس، حيث تتواجد أغلبية ساحقة من الإسماعيليين في منطقة السلمية، التي تعتبر عاصمتهم الروحية في سوريا والشرق الأوسط، يعتبر الإسماعيليون جزءًا من المذهب الشيعي، لكنهم يتبعون أئمة خاصين بهم، ولهم تعاليم وأعياد تختلف عن تلك التي يتبعها الشيعة الإثنا عشرية.
الإيزيدية
هي طائفة كردية تتبع دينًا قديمًا يعد مزيجًا من الديانات الشرقية القديمة، يتواجد الإيزيديون بشكل رئيسي في منطقتي الجزيرة وعفرين في شمال سوريا، يقدر عددهم بحوالي 150,000 نسمة، وهم يمثلون جزءًا من المجتمع الكردي في سوريا.
الشيعة
يعتبر الشيعة في سوريا أقلية صغيرة، لكنهم شهدوا نموًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة بسبب الدعم الإيراني، تركز الشيعة في سوريا بشكل رئيسي في دمشق (حي السيدة زينب، زين العابدين، الجورة)، وحلب وإدلب (بلدة نبّل، الزهراء، كفرياـ الفوعة)، وحمص ودير الزور، حيث كانت هناك هجرة من العراق ولبنان في الثمانينات والتسعينات.
في هذه المناطق، توجد العديد من الحسينيات والمراكز الثقافية الإيرانية التي تروج للثقافة الشيعية وتستقطب أتباعًا جددًا من الطوائف الأخرى.
التنوع الديمغرافي في سوريا: فرصة للاستقرار أم تحدٍ دائم؟
يعد التنوع العرقي والديني في سوريا -كما ذكرنا – من أبرز ملامح هوية المجتمع السوري، ويمثّل هذا التنوع سيفًا ذا حدين، فقد يكون أساسًا للاستقرار السياسي والاقتصادي، أو محفزًا للتوترات والصراعات.
في مرحلة ما بعد الأسد، تواجه سوريا تحديات كبرى لبناء نظام سياسي يعكس هذا التنوع. يعد توزيع السلطة أحد أهم القضايا، حيث يجب إيجاد نظام عادل يضمن التمثيل المتوازن لجميع المكونات، سواء من خلال نموذج لامركزي أو صياغة نظام يدمج الخصوصيات الثقافية والعرقية في سياق وطني موحد. إضافة إلى ذلك، يتطلب التعامل مع حقوق الأكراد نهجًا جديدًا يضمن لهم اعترافًا بهويتهم الثقافية، مما قد يشكل أساسًا لتحقيق التهدئة الاجتماعية وتخفيف النزاعات المستقبلية. كما أن المشاركة السياسية للأقليات الأخرى، كالسريان والأرمن، تمثل جزءًا أساسيًا من هذا المشروع لضمان توازن يعكس الواقع السكاني ويمنع التهميش.
بناء دولة جديدة يتطلب صياغة دستور حديث يعترف بالتعددية العرقية والدينية، ويحمي الحقوق الثقافية والدينية لكل فئة دون تمييز. ويجب أن يوفر هذا الدستور إطارًا قانونيًا يمكّن الجميع من المشاركة في صنع القرار ضمن نظام يعزز التعايش بين السلطة المركزية والإدارات المحلية، مما يعزز ويضمن استقرار البلاد.
وعلى الدولة الجديدة أن تراعي التنوع الديني والعرقي من خلال التوزيع العادل للموارد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتفعيل مبدأ المساواة بين جميع المواطنين. وإذا ما جرى استغلال التنوع سياسيًا وعسكريًّا نتيجة الشعور بالتهميش والإقصاء، فإنه قد يؤدي إلى انقسامات أعمق بين المكونات الدينية والطائفية وبالتالي نهايات لا تحمد عقباها.