ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الذي تسعى فيه القوات العراقية لدحر آخر بقايا تنظيم الدولة بشق الأنفس، وبينما تتقطع السبل بحوالي مليون و800 ألف شخص مشرّد، يلوح في الأفق تحد سياسي وإنساني على نفس القدر من الأهمية وربما أكثر تعقيدًا في العراق، يتمثّل في مواجهة مستويات الفساد الفظيعة في العراق التي أثرت سلبا على العلاقة الأساسية بين الدولة العراقية ومواطنيها.
خلال السنة الماضية، أفاد متظاهرون في ميناء المعقل الواقع جنوب مدينة البصرة بأن الفساد الذي تفشى في البلاد لا يشمل الرشوة فحسب، وإنما “آلة النهب” بأكملها التي تضع يدها على موارد البلاد ولا تقدم شيئًا في المقابل. ويُعتبر المواطنون العاديون ضحية ثقافة الكسب غير المشروع المتجذّرة في البلاد، حيث أن عددا من أهم الشركات المستثمرة في البلاد، على غرار شركة الاتصالات الفرنسية العملاقة “أورنج”، التي تعرّضت استثماراتها للمصادرة، قد أُقصيت من السوق في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد العراقي إلى دعمها.
علاقة طفيلية
تتمحور الصعوبات الجمّة التي تعاني منها البلاد في انعدام مصداقية وشرعية المؤسسات الحكومية الرسمية العراقية، حيث أنها فشلت فشلا ذريعا في التصدي للهجوم الذي شنّه تنظيم الدولة سنة 2014، وفي وقف عمليات الكسب غير المشروع الذي يبدو أنه تغلغل في العلاقات البيروقراطية الوطنية. ولعلّ أفضل طريقة لتسليط الضوء على مدى تأثير الفساد على الحوكمة العراقية إلقاء نظرة فاحصة على إحدى القصص، التي غالبا ما تُصنّف من ضمن “قصص النجاح” في فترة إعادة إعمار عراق ما بعد الحرب: ألا وهي إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي.
يبدو أن البحث الوحيد الذي يشير إلى أن إقليم كردستان العراق يعتبر أقل فسادًا هو تقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة، بناء على أسئلة طُرحت على موظفي الخدمة المدنية حول عدد الرشاوى التي تُعرض عليهم.
في الواقع، يخضع إقليم كردستان العراق الذي يتمتّع بجانب كبير من الاستقلالية، والذي غالبا ما يعتبر نموذجا يُحتذى به في بقية البلاد، للحكم الإقطاعي الذي تمارسه عائلة بارزاني ذات النفوذ القوي، والتي حظيت مؤخرًا بدرجة حكم تضاهي الحكم “الملكي” بعد أن أُنتخب اثنين من أفرادها، مسرور برزاني ونيجيرفان بارزاني، على التوالي، رئيسا للوزراء ورئيسا للحكومة في إقليم كردستان.
في إحدى المناسبات، عندما ادعت وحدة الاستخبارات الاقتصادية أن الفساد في إقليم كردستان ليس بالسوء ذاته كما هو في باقي العراق، أشارت إلى أن هذه “نقطة تُحسب لصالح الإقليم نظرًا لأن العراق احتل المرتبة 171 من ضمن 177 دولة حسب مؤشر مدركات الفساد في مسح أجرته منظمة الشفافية الدولية”. وفي الواقع، يبدو أن البحث الوحيد الذي يشير إلى أن إقليم كردستان العراق يعتبر أقل فسادًا هو تقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة، بناء على أسئلة طُرحت على موظفي الخدمة المدنية حول عدد الرشاوى التي تُعرض عليهم.
في حال تمّ الاستناد على النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة، فإن نسبة موظفي الخدمة المدنية الذين تلقّوا رشاوى في واحدة من أكثر الدول فسادًا على وجه الأرض لا يتجاوز أربعة بالمئة في إقليم كردستان العراق وخمسة بالمئة في بغداد، ولكن هذه النسب في حقيقة الأمر أعلى بكثير.
ما حصل مع شركة أورنج يكشف أن لا أحد في مأمن
لا يحتاج المرء إلى اللجوء إلى الإحصاءات الدولية لكشف عمق الفساد في كردستان العراق. وفي هذا السياق، سلّطت الصحيفة الفرنسية الأسبوعية “لو جورنال دي ديمانش” في مقال نشرته الشهر الماضي الضوء على قيمة الخسائر التي قد تتكبّدها شركة الاتصالات متعددة الجنسيات “أورنج” وشريكتها “أجيليتي”، اللتين تعتبران من أكبر الشركات الأجنبية المستثمرة في البلاد.
الإخفاق الذي يحيط برغبة عائلة بارزاني في مصادرة أحد أبرز المستثمرين في البلاد يعكس أيضًا الإحساس المطلق بالحصانة الذي يشعر به القادة العراقيون عندما يتعلق الأمر بالاستحواذ على ثروات البلاد
من المتوقع أن تخسر هاتان الشركتان أكثر من 810 ملايين دولار، ويقع تجريدهما من أسهمهما في شركة الاتصالات النقالة “كورك تيليكوم”، من قبل هيئة الإعلام والاتصالات العراقية. وفي الوقت الذي يزعم فيه المنظّمون أن أورنج وشريكتها فشلتا في “الوفاء بالتزاماتهما”، فإن هاتين الشركتين تصران على أن استثماراتهما قد تعرّضت للمصادرة في عملية فساد.
في الحقيقة، يتمثل السبب الأساسي لهذه الاتهامات في أنّ المدير العام لشركة اتصالات “كورك تيليكوم” هو سيروان بارزاني، ابن عم نيجيرفان بارزاني والشخصية الرئيسية في عائلة بارزاني المذكورة آنفا. ووفقا لملفّات المحكمة، قام سيروان بارزاني باستغلال نفوذه لاختلاس عشرات الملايين من الدولارات من الشركة من خلال القروض المشبوهة.
خلال السنة الماضية، أثبتت صحيفة “فاينانشال تايمز” صحة الادعاءات التي تفيد بأن سيروان بارزاني وحلفاءه ساهموا في إفساد هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، وذلك من خلال الكشف أن الرئيس التنفيذي للهيئة التنظيمية كان يقطن في منزل بلندن على ملك أحد شركاء بارزاني التجاريين. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، وافق المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستشارية التابع للبنك الدولي على النظر في دعوى شركة أجيليتي ضد الحكومة العراقية.
دفع ثمن باهظ
هناك سؤال يطرح نفسه: لماذا تتلاعب إحدى أقوى الشخصيات في كردستان العراق بمسؤولي الهيئة التنظيمية لمصادرة كبار المستثمرين؟ ربما لمنع هؤلاء المستثمرين، من ممارسة نفوذهم للسيطرة الكاملة على شركة كورك. وبالتوازي مع الشركات الكبرى مثل “سيمنز” الألمانية و”جنرال إلكتريك” التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، والتي تسعى إلى مساعدة العراق على إعادة بناء وتوسيع بنيته التحتية غير الملائمة، فإنه قد يكُون لمصادرة كورك تأثير كبير على كل هذا.
رغم الثروات النفطية، تعاني المنطقة من حالة ركود اقتصادي وارتفاع معدل البطالة بنسبة 20 بالمئة بين صفوف أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة و69 بالمئة بالنسبة للنساء
إن الإخفاق الذي يحيط برغبة عائلة بارزاني في مصادرة أحد أبرز المستثمرين في البلاد يعكس أيضًا الإحساس المطلق بالحصانة الذي يشعر به القادة العراقيون عندما يتعلق الأمر بالاستحواذ على ثروات البلاد. وفي حين تُقدم هذه الهيئة القيادية لمنطقة كردستان العراق نفسها كشريك موثوق به لدى الغرب، تظل الإحصاءات الاقتصادية الخاصة بالمنطقة سيئة للغاية على الرغم من تلّقي مساعدات خارجية طيلة عدّة سنوات.
رغم الثروات النفطية، تعاني المنطقة من حالة ركود اقتصادي وارتفاع معدل البطالة بنسبة 20 بالمئة بين صفوف أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة و69 بالمئة بالنسبة للنساء، إلى جانب مشكلة انقطاع التيار الكهربائي. إلى جانب ذلك، أدت سيطرة الفصائل على مشاريع البناء والوزارات إلى ترك التعليم العام يواجه نقصا حادا على مستوى عدد المدارس والمدرسين. فمن إجمالي 6800 مدرسة في إقليم كردستان العراق، تُشير التقديرات إلى أن 25 بالمئة منها بحاجة إلى الهدم، في حين أن النصف الآخر بحاجة إلى التجديد بالكامل. وبسبب الصراعات الداخلية لم تقدر الحكومة الإقليمية على تلبية أي من هذه الاحتياجات الملّحة.
بينما تتمتع الشركات الدولية مثل شركة “أورنج” بإمكانية الحصول على اللجوء الخارجي، لا يجد العراقيون خيارا آخر سوى التعايش مع فساد أجهزة الدولة في ظل غياب المساءلة. وفي مواجهةٍ مثل هذه الصورة القاتمة، وبسبب عجز الحكومات العراقية المتعاقبة عن التفكير بشكل أساسي في التعامل مع موارد البلاد، فإنّها مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ مرحلة أخرى من عدم الاستقرار.
المصدر: مودرن ديبلوماسي