“صوت الجوع لما الناس يجوعوا، أقوى كثير من صوت المدافع”، بهذه الكلمات وصفت المطربة الوطنية اللبنانية باسكال صقر، الحالة التي يعيشها الفلسطينيين سواء أكان ذلك داخل الوطن أو في مخيمات الشتات، وقد ظهر ذلك جليًا، إذ انتفض الفلسطينيون في لبنان غضبًا ضد قرارات الحكومة اللبنانية التي تشكلت حديثًا، والتي نصّت في بعض قراراتها الحديثة على العنصرية التامة تجاه الفلسطينيين، الذين لا مأوى لهم سوى المخيمات التي يعيشون بها في لبنان منذ عام 1948، فما هم إلا ضيوف على هذه الأرض حتى استرداد أراضيهم المحتلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
كانت أولى هذه القرارات ما تقدم به وزير العمل اللبناني حديثًا في النصف من شهر يوليو، حيث أقر الأولوية في العمل للعامل اللبناني على العامل الأجنبي بعد ارتفاع نسبة البطالة في صفوف اللبنانيين التي بلغت 32%، لكن الفلسطيني هنا مصنف على أنه من ضمن الأجانب، على الرغم من أنه مقيم في هذه الأرض منذ الولادة، ومصنف على أنه لاجئ، بشكل معاكس للأجنبي الذي لا يقيم في لبنان أساسا، فقد يحل هناك من أجل استثمارات أو سياحة.
وقد تعدى الوزير كميل أبو سليمان في ذلك حق العمل للفلسطينيين، فقد أصدر قرارًا بفرض غرامات “إجازة العمل على الفلسطيني” كونه أجنبي، حيث يتكفل الفلسطيني أو المؤسسة التي يعمل تحت إطارها أن تدفع سنويًا مليون وربع المليون ليرة لبنانية، وتصل غرامات الضمان الاجتماعي لمبلغ لا يقل عن ذلك، أي أن المؤسسة التي يعمل فلسطيني واحد ضمن طاقمها تتكفل بدفع 2,400 مليون ليرة (1500 دولار أمريكي)، في حين أن اللبناني لا تتعدى رسومه 56 ألف ليرة (40 دولار أمريكي)، فهنا ستضطر المؤسسة بالاستغناء عن الفلسطيني واستبداله بمواطن لبناني كونه أقل تكلفة مادية من الغرامات والضرائب المفروضة عليها سنويًا.
كاريكاتير إسماعيل البزم
وكانت سابقًا قد أقرت الحكومة اللبنانية بحظر 73 مهنة للفلسطينيين، وعلى رأسها مهام السلك التعليمي والهندسة والمحاماة والطب والإعلام، ما خلق فجوة كبيرة وبلبلة في الشارع اللبناني، بين المواطن اللبناني واللاجئ الفلسطيني، وقد تفاعلت القيادة السياسية الفلسطينية مع أبنائهم في لبنان، حيث عقدت منظمة التحرير الفلسطينية اجتماعًا في رام الله بقيادة الرئيس محمود عباس لمواجهة تداعيات “صفقة القرن” الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وتم مناقشة أزمة الفلسطينيين في لبنان، وقُرر على إثره إرسال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عزام الأحمد إلى لبنان لمناقشة أوضاع اللاجئين مع الأشقاء اللبنانيون.
جاء ذلك بعد موجة الاحتجاجات الغاضبة التي قام بها الشعب الفلسطيني في لبنان، حيث أغلقوا حواجز المخيمات وأشعلوا الإطارات، ورددوا هتافات ضد الحكومة اللبنانية الحالية التي تشكلت قبل فترة، وضد وزير العمل المكلف بها كميل أبو سليمان، مطالبين باستثناء اللاجئين الفلسطينيين من خطة وزارة العمل اللبنانية بمكافحة “العمالة الأجنبية غير الشرعية”.
وكان الفلسطينيون قد أغلقوا مخيمات مدينتي صيدا وصور التي تعج اللاجئين الفلسطينيين، منها مخيم “الرشيدية” و”البص” و”المية مية”، ووصلت إلى مخيمات بيروت أيضًا، كما حصل في مخيم “برج البراجنة” ومخيم “عين الحلوة”، التي تتكاثر فيها العناصر المسلحة التابعة للأحزاب الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح.
وقد تعالت أصوات الحقد من الطرفين ما يعيد إلى الذهن الأجواء المتوترة ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية التي كان الفلسطينيون أحد أهم أطراف الصراع بها عام 1975، ما رفضته الرئاسة الفلسطينية على لسان الرئيس عباس قائلًا خلال اجتماع منظمة التحرير برام الله “نرفض كافة أشكال التصعيد مع الأخوة اللبنانيين من أية جهة كانت”.
كاريكاتير إسماعيل البزم
فيما عقدت القوى الوطنية اجتماعًا طارئًا في مقر السفارة الفلسطينية في بيروت بإشراف السفير الدكتور أشرف دبور، التي أكدت فيها على الشراكة الأخوية والوطنية بين اللبنانيين والفلسطينيين، بعيدًا عن سياسات الحكومة.
وطالبت القوى باجتماعها بالسفارة بثلاثة قرارات يجب التعديل عليها وهم “إعفاء الفلسطيني من إجازة العمل”، و”تعديل قانون الضمان الاجتماعي رقم 128 لعام 2010، مما يجعله ملائمًا للاجئ الفلسطيني في لبنان” و”تعديل حق العمل للفلسطينيين وفك الحظر عنهم ببعض الأعمال والمهن، التي حرمت العديد من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية من الشباب الفلسطيني من ممارسة عمله”.
وقامت وزارة العمل اللبنانية مؤخرًا بإغلاق مؤسسات تجارية فلسطينية وإصدار مخالفات بحق مشغليهم، تحت بند “مكافحة العمالة الأجنبية الغير شرعية”، بل وإصدار أوامر اعتقالات بحق العديد منهم، ما اعتبرته منظمة التحرير الفلسطينية تجاوزا على لسان عضو لجنتها التنفيذية النائب أحمد أبو هولي، باعتبار أن الفلسطيني مقيم في لبنان قسرا وليس مهاجر غير شرعي، وأنه لا يشكل أية عالة على الدولة اللبنانية.
تراكمات عنصرية بحق اللاجئ الفلسطيني
مدير عام الهيئة “302” للدفاع عن حقوق اللاجئين في لبنان علي هويدي قال في حديث خاص لـ”نون بوست”: “إن الشارع اللبناني قد شهد موجة غضب للشبان الفلسطينيين، وذلك يرجع لتراكمات سابقة اتخذتها الحكومة اللبنانية تجاه اللاجئ الفلسطيني، وكان آخرها قرارات وزارة العمل، ومن أهم هذه التراكمات، حرمان الفلسطيني من العلاج، فالدولة اللبنانية لا تقدم أدنى خدماتها في العامل الصحي للفلسطينيين، تطعيم للأطفال على الأقل”.
الصحفية الفلسطينية إيمان الرفاعي والمقيمة في لبنان قالت “إن الموضوع لا يقف على منع التمدد السكني وإدخال مواد البناء فقط، بل حتى الأحجار المخصصة بتسوية قبر لميت من أموات الفلسطينيين في مخيمات لبنان، يحتاج إلى تنسيق عالي المستوى، قد تدوم ليوم أو يومين كاملين”.
وقد شهدت عدة حالات وفاة للفلسطينيين في المشافي اللبنانية بسبب المماطلة في العلاج لعدم توفر الرسوم اللازمة لذلك، كما حصل مع الطفلة ماريا أبو عمار مؤخرًا، وعلى الرغم من أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” تتكفل بالمصاريف العلاجية لهم، إلا أنها قد أعلنت التقشف مؤخرًا، دون أن تحرك الحكومة اللبنانية ساكنًا تجاه ذلك أو أن تبادر بمبادرة تطوعية على الأقل.
من الناحية السكنية، أشار الصحفي المقيم في لبنان وليم قاسم إلى أن السلطات اللبنانية تمنع على الفلسطينيين التوسعة في مخيماتهم أو زيادة رقعتها أو حتى بناء مخيمات جديدة بعد المخيمات التي سكنوها عقب هجرتهم من فلسطين إبان النكبة عام 1948، كما منعتهم من البناء بشكل أو إدخال حجر واحد إلى المخيمات، وفي حال أراد الفلسطيني ترميم منزله يجب أن يحصل على ترخيص من المخابرات اللبنانية بذلك.
الصحفية الفلسطينية إيمان الرفاعي والمقيمة في لبنان قالت “إن الموضوع لا يقف على منع التمدد السكني وإدخال مواد البناء فقط، بل حتى الأحجار المخصصة بتسوية قبر لميت من أموات الفلسطينيين في مخيمات لبنان، يحتاج إلى تنسيق عالي المستوى، قد تدوم ليوم أو يومين كاملين”.
وتابعت الرفاعي “على اعتبار بأن الفلسطيني أجنبي، لماذا يتم السماح للأجنبي بحق التملك في لبنان، بينما يُحرم منها الفلسطيني، كما أن الأجنبي يحصل على الجنسية اللبنانية وتُمنح له كافة الصلاحيات بعد خمسة سنوات من إقامته في هذه الأرض، بينما يُحرم على الأجنبي الفلسطيني من كافة حقوقه الإنسانية والحياتية، فإما أن تتخذ الدولة قرارا بمساومتنا مع الأجانب، أو مساومتهم معنا حتى لا نشعر بالعنصرية على الأقل”.
أهم الخط الخطوات التصعيدية للمنتفضين الفلسطينيين
الناشط الفلسطيني بديع الهابط الذي كان من أبرز أعلام المنتفضين في لبنان قال لـ”نون بوست”: “بعد إغلاق المخيمات وإشعال الإطارات والتظاهر بشكل سلمي، أصدرنا عدة خطوات تصعيدية أخرى، بتحريض رؤوس الأموال الفلسطينيين على سحب أموالهم من البنوك اللبنانية، وبالفعل خلال أول 48 ساعة من الأحداث سجلت المصارف اللبنانية سحب قرابة 100 مليون دولار أمريكي من مصارفها، وقرابة 10 مليار ليرة لبنانية”.
خلال جلسة النواب اللبنانيين لمناقشة موازنة الدولة لعام 2019، انفجر النائب عن حزب الله اللبناني علي عمار مطالبا من رئيس الجمهورية اللبنانية نبيه بري، بحل الإشكاليات مع اللاجئين الفلسطينيين بشكل فوري وسريع
خطوات تصعيدية أخرى افتعلها الشباب الفلسطيني في لبنان كما يوضح بديع الهابط، وهي مقاطعة السلع والبضائع اللبنانية ومنع إدخالها للمخيمات لمدة شهر كامل، حتى تتراجع الحكومة اللبنانية عن قراراتها بحق الفلسطينيين على الأقل، أو قرارات وزير العمل كميل أبو سليمان مؤخرا، كما تم مقاطعة التجار اللبنانيين، وقد شاركونا اخوتنا من الشعب اللبناني بهذه الخطوات، وتم مقاطعة سجائر “سيدرز” وخط نقل “فانات” الواصلة بين مدينتي صيدا وصور، حيث عدد كبير من سائقي الباصات بل وأغلبهم من الفلسطينيين.
كما قام نشطاء فلسطينيون بطباعة ختم “فلسطين عربية” أو “دولة فلسطين” أو “فلسطين الكرامة” على الأوراق النقدية في لبنان سواء أكان ذلك عملة الليرة اللبنانية، أو الدولار الأمريكي، أو عملة اليورو الأوروبية، وعلى الرغم من أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طمئن المواطنين عبر قناة mtv اللبنانية في لقاء اُستضيف فيه حول موضوع طبع العلم الفلسطيني على الأوراق النقدية، بأنه يمكن لأي شخص استبدالها بأوراق جديدة ولا ضير في ذلك، وأن هناك تضخيم في الموضوع، ولكن على الرغم من ذلك، إلا أن هذه الخطوة ما زالت تتصاعد بشكل مكثف، ونادرا ما تكون ورقة نقدية حاليا في لبنان قد سَلِمَت من ختم الفلسطينيين.
كاريكاتير إسماعيل البزم
وخلال جلسة النواب اللبنانيين لمناقشة موازنة الدولة لعام 2019، انفجر النائب عن حزب الله اللبناني علي عمار مطالبا من رئيس الجمهورية اللبنانية نبيه بري، بحل الإشكاليات مع اللاجئين الفلسطينيين بشكل فوري وسريع، لو على الأقل بكلمة من رئيس الوزراء سعد الحريري، أو وزير العمل كميل أبو سليمان، موضحا بأن اللبنانيين لا ينامون الليل خوفا من انفجار الوضع الأسوأ في أية لحظة، وخاصة بأن قوات الجيش اللبناني تجوب الشوارع ليلا بعمليات “كر وفر” بينها وبين المنتفضين الفلسطينيين.
يعاني ثلث اللاجئين هناك من الفقر المدقع، أي أن 160 ألف فلسطيني يقبع تحت خط الفقر من أصل 465 ألف، فيما تصل نسبة العاطلين عن العمل 56% في أوساط الفلسطينيين في لبنان
ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية في لبنان البالغ عددها 12 مخيمات عدا عن عشرات التجمعات، أكثر من 460 ألف شخص بحسب الإحصائيات المؤخرة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، ويعمل أغلبهم في البناء والسباكة والزراعة، كونهم محظورين من مزاولة مهنتهم الجامعية والتعليمية لأكثر من 70 مهنة، وتعاني المخيمات من نقص البنى التحتية، وتفشي بعض الأمراض نتيجة نقص العلاج، حيث أفادت إحصائيات للجامعة الأمريكية في بيروت، أن 72% من الأسر الفلسطينية في لبنان تعاني من إصابة أحد أفرادها بمرض مزمن، بينما بلغت نسبة الإعاقة عندهم 15%.
كما يعاني ثلث اللاجئين هناك من الفقر المدقع، أي أن 160 ألف فلسطيني يقبع تحت خط الفقر من أصل 465 ألف، فيما تصل نسبة العاطلين عن العمل 56% في أوساط الفلسطينيين في لبنان، في حين أن 120 ألف شخص منهم مهيأ لسوق العمل، ويعمل منهم 53 ألف فقط، و72% من هؤلاء العاملين تندرج مهامهم في الأعمال الموسمية مثل الزراعة والبناء والنظافة وغيرها، أي أنهم لا يأخذون حيّزًا في سوق المهن والخدمات الحكومية، بحسب إحصائيات الجامعة الأمريكية في بيروت.