في الساعات الأخيرة ما قبل الولادة، تُنقل المرأة وحدها إلى الغرفة التي ستشهد أهم تجربة في حياتها كامرأة، وبجانبها الطبيب والممرضات اللواتي يشجعنها بلطف على الدفع والتنفس بشكل صحيح، ويطمئنونها على صحتها وصحة الطفل بين الحين والآخر. وبمساعدة العلم الذي درسوه لسنوات طويلة، سوف يولد الطفل وينتهي عناء المرأة، ولكن أين الأب؟
جرت العادة، وتحديدًا في فترة ما قبل السبعينيات أي عندما كانت النساء لا زالت تلد في المنازل وليس المستشفيات، ألا يحضر الرجل ولادة طفله، بحيث اقتصر دوره على تشكيل هذا الجنين ومن ثم رعايته بعد أن يصل إلى الحياة، ولكن كل ما يحدث بين هاتين المرحلتين، فهو يخص الأم وحدها وكأنها مسألة نسائية خالصة أو تجربة فردية لم تبن على مبدأ المشاركة، فما سبب غياب الرجل في هذه اللحظات؟ وكيف تغير ذلك تدريجيًا في وقتنا الحاضر؟
الأسباب التي دفعت الرجال إلى ترك النساء وحدهن في غرف الولادة
تقول الطبيبة، لورا كينج، في جامعة ليدز البريطانية، “في الخمسينيات، لم يتمكن الكثير من الرجال تقبل هذه الفكرة أو التعامل معها، وكانت النساء أيضًا لا يفضلن فكرة أن يراهن أزواجهن بهذه الطريقة”، وتشير إلى أنه في فترة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن الأزواج يرون بعضهم البعض عراة من باب الاستحياء والشعور بالحرج، على الرغم من أن لديهم 6 أطفال وأكثر، وعلى ذلك لم تلقى هذه الفكرة ترحيبًا من الشركاء آنذاك”.
ينص العرف المجتمعي على أن المرأة هي المسؤولة عن تربية الأطفال والاهتمام بهم، فإن عملية ولادتهم أيضًا مسؤولية الأم بالكامل ولا شأن لرجل بهذا الموضوع، على اعتبار أن مسؤوليته تقع في نواحي أخرى.
وفي محاولة لفهم هذا الغياب، حاور “نون بوست”، إيناس خلف، مرشدة أهالي ومستشارة نوم الأطفال، والتي أفادت بأن “العرف الاجتماعي لغى دور الرجل من تجربة الولادة، وكانت القابلة تأتي لإنجاز هذه المهمة، وبسبب عاداتنا العربية المحافظة، لم يكن وجود الرجل مريحًا بالنسبة لها، وخاصةً إذا أرادت أن تكشف عن ذراعيها أو أن تتصرف براحة، ولذلك كان غياب الرجل تعبيرًا عن احترامه لخصوصية القابلة”. وتكمل قائلةً: “في مجتمعاتنا التقليدية، يُنظر إلى هذه الفكرة على أنها انتقاص لرجولة الزوج على اعتبار أنه حدث نسائي بحت”، عدا عن أنظمة المستشفيات التي لم تسمح لزوج بالدخول إلى الغرفة واضطراره إلى الانتظار في الخارج.
إلى جانب ذلك، تذكر خلف بأن غياب الرجل عن هذه الساحة مرتبط بشكل أساسي بالوعي المجتمعي حول الشراكة الزوجية ودور الأب في الأسرة والتربية، فكما ينص العرف المجتمعي السائد بأن المرأة هي المسؤولة عن تربية الأطفال والاهتمام بهم، فإن عملية ولادتهم أيضًا مسؤولية الأم بالكامل ولا شأن للرجل بهذا الموضوع، على اعتبار أن مسؤوليته تقع في نواحٍ أخرى.
وبطبيعة الحال، كان هناك بعض الاستثناءات القليلة جدًا. على سبيل المثال، حرصت العائلات الملكية والحاكمة وبعض طبقات المجتمع الرفيعة الأخرى، أن يحضر الآباء ولادة أطفالهم الذكور، استقبالًا واحتفالًا بالوريث القادم. وشيئًا فشيئًا، جاء التغيير الحقيقي في السبعينيات عندما بدأت الأمهات الولادة في المستشفيات بدلًا من المنازل، وطالبن بأن يكون هناك مرافق معهن، وبالتحديد الزوج. وهو ما يؤكده، مارك هاريس، مقدم برنامج عن تعليم التوليد، قائلًا: “كانت فكرة وجود الرجال داخل غرف الولادة مدفوعة برغبة النساء التي من شأنها أن تعزز العلاقة بين الشريكين”.
في جانب آخر، يفسر هاريس، ردود فعل الآباء الرافضين لخوض هذه التجربة، ويقول: “إنها آلية هروب طبيعية، أي رد فعل تلقائي بموجب التطوّر”، مضيفًا أن “الرجل يحكمه التستسترون، وبناء عليه يختار رد الفعل عندما يوضع بموقف يفعّل لديه وضع “القتال أو الهرب” (Fight or Flight mode). ما يعني أن دور الذكر يتمثل في منظومة التطور في الطبيعة بحماية مساحة الولادة ومحاربة الحيوانات المفترسة، وعليه قد يختار غالبية الرجال أن يكونوا شركاء مع زوجاتهم في ذلك الموقف حتى وإن كان ذلك يثير الغثيان في معداتهم.
قد يغيب الآباء عن هذه التجربة خوفًا من الشعور بالاشمئزاز تجاه زوجاتهن، ولا سيما بالنسبة للرجال الذين يشاهدون العملية بكاملها، وهو ما قد يتسبب لاحقًا بتوقف مؤقت للعلاقة الجنسية بين الزوجين
كما يوضح أسباب تملص البعض من هذه التجربة، وهي أن الرجال يعتقدون أن رغبتهم الجنسية تجاه زوجاتهم سوف تقل عندما يشاهدوا خروج الطفل من المهبل، أو خوفًا من الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة الذي يحدث بسبب إحساسهم بالعجز وفقدان السيطرة على الأمور. يضاف إلى ذلك، أن بعض الأطباء يشعرون بالتهديد لوجود شخص في الغرفة، يطرح الأسئلة عما يقومون به ويزيد الضغط ويتدخل في عملهم ويشكك في كفاءتهم على إنجاز هذه المهمة، وبالتالي يصبح وجود الرجل في هذه الأثناء ليس موضع ترحيب أبدًا وتأثيره سلبي على المرأة.
في هذا الخصوص، قالت المرشدة خلف: “قد يغيب الآباء عن هذه التجربة خوفًا من الشعور بالاشمئزاز تجاه زوجاتهم، ولا سيما بالنسبة للرجال الذين يشاهدون العملية بكاملها ولا يكتفون بالوقوف بجانب رأس الأم فقط، وإنما يشاهدون لحظة خروج الطفل من المهبل مع الدم والماء، وهو ما قد يتسبب لاحقًا بتوقف مؤقت للعلاقة الجنسية بين الزوجين”، مشيرةً إلى سلسلة الخلافات الزوجية التي قد تتبع هذه التجربة وتقلل من تقدير الأم لذاتها ولقيمتها وجمالها ونظرتها لعلاقتهما العاطفية الخاصة.
أظهرت التحليلات بأن وجود زوج مدرب مع المرأة الحامل أثناء المخاض حد بشكل ملحوظ من قلق الأم وتوترها
ومع ذلك، فهناك تغير واضح في السنوات الأخيرة، إذ نجد العديد من الدورات التحضيرية والتدريبية المهتمة في تعليم الآباء كيفية تقديم الدعم والتصرف في ساعات ما قبل الولادة وأثناءها وما بعدها. ويمكن تعليل هذا الوعي الحالي بالانفتاح الواسع على الغرب ومنصات السوشيال ميديا التي تتبادل عليها العائلات تجاربها الخاصة في هذا الموضوع وترويجهم لفكرة أن الزوج شريك وليس مساعد أو “مموّل” للعائلة، عدا عن الدراسات الأكاديمية والعلمية التي أثبتت أهمية وجوده بجانب الأم.
فوفقًا لأطروحة ماجستير من جامعة أصفهان للعلوم الطبية في إيران، أجريت دراسة على 84 امرأة من النساء اللواتي سجلن في دورات ودروس تعليمية حول الولادة، وتمت مقارنة درجة القلق والتوتر بين 3 مجموعات، الأولى كانت بدون مرافق، والثانية مع مرافق، والثالثة برفقة الزوج المدرب. ووفقًا لنتائج، أظهرت التحليلات بأن وجود زوج مدرب مع المرأة الحامل أثناء المخاض حد بشكل ملحوظ من قلق الأم وتوترها، وعلى ذلك أوصت منظمة الصحة العالمية بضرورة أن تكون المرأة الحامل مصحوبة بشخص تثق به وتشعر بالأمان بجانبه.
ما مدى أهمية حضور الأب عملية الولادة؟
في هذا الشأن، سأل “نون بوست”، المرشدة خلف عن تأثير وجود الأب في هذه الساعات بجانب زوجته، فقالت إن: “وجود الرجل، سيف ذو حدين. من الجهة الأولى، يمكن أن يقوي العلاقة بينهم، خاصةً عندما يرى الزوج بعينه المشقة والمعاناة التي تمر بها زوجته ساعة الولادة، إذ يبدأ الوعي بمبدأ الشراكة بالتربية منذ تلك اللحظة التي يعيشها الاثنين معًا ومع إدراكهما بأن هذه التجربة ليست أمرًا هينًا”، وتضيف بأن الكثير من النساء شعرن بتقدير أزواجهن لهن بعد خوضهن هذه المرحلة ونجوهن من العملية.
يمكن إثبات ذلك من خلال دراسة أجريت في عام 1994، فقد تم إجراء فحص على فئتين عشوائيتين من النساء الحوامل، وشملت الفئة الأولى 100 امرأة حامل ممن كانوا أزواجهن حاضرين عند الولادة، أما الفئة الثانية فلقد ضمت 100 امرأة من النساء اللواتي ولدن أطفالهن دون أزواجهن، وتم فحص مدة المخاض تكرار عدد تهديدات الاختناق داخل الرحم وفترة الولادة. وأظهرت النتائج أن المجموعة التي كان الزوج فيها حاضرًا، كانت مدة المخاض أقصر وعدد حالات الاختناق داخل الرحم أقل، كما كانت العمليات القيصرية أقل خطورة أيضًا.
أما فيما يخص الجهة الأخرى، ترى خلف بأن “حضور الزوج قد يكون له تأثير سلبي، ولا سيما بالنسبة للرجال الذين ليس لديهم قدرة على التحمل وقد يصابون بالإغماء والغثيان، وبالتالي يضطر الطاقم الطبي المشرف على الزوجة أن يتخلى عن أحد أفراده من أجل مساعدة الزوج والاهتمام به، وهو ما قد يزيد من نسبة الأدرينالين في دم الأم ويضاعف التوتر لديها ويشتت انتباهها وخاصةً إذا تم اصطحاب الزوج لخارج الغرفة”.
وفي نفس الموضوع، كشفت دراسة بريطانية أن المرأة التي تفتقر إلى المودة الحميمية مع شريك حياتها تعاني مزيدًا من الألم في وجوده بجوارها أثناء الولادة، وفي كثير من الحالات يبطئ إنتاج هرمون أوكسيتوسين الذي يساعد في عملية المخاض ويجعل وجوده شعورها بالألم أسوأ ويزداد سوءًا لدى النساء اللائي يتجنبن التقارب في علاقاتهن.
ومن الحالات التي تجعل تجربة وجود الأب داخل الغرفة تجربة سلبية، هي حدوث بعض المضاعفات المفاجئة والحالات المستعصية قد تخلق علاقة سلبية بين الطفل والأب، خاصة في الحالات التي تؤدي إلى وفاة الأم، وبالتالي قد يولد لدى الأب شعور بالنفور تجاه الطفل.
يُنصح الآباء بضرورة تفهم مدى أهمية هذا الحدث بالنسبة للمرأة، فهو لا ينحصر بخروج الطفل من جسم المرأة في ساعة واحدة، فقد يمتد الأمر إلى 25 ساعة في بعض الأحيان، وعليه أن يدرك التغيرات الجسدية والعاطفية التي تصاحب هذه التجربة وتؤثر على المرأة بشكل عميق
وتجنبًا لذلك، تشير المرشدة إلى أهمية مشاركة التوقعات وملاءمتها بين الزوجين قبل خوض التجربة، بمعنى أن تخبر الزوجة شريكها بالأمور التي تتوقعها منه، مثل التوضيح له ما إذا كانت ترغب بوجوده بجوارها طوال العملية أم أنها لا ترغب بتواجده من الأساس، وإن كانت تريد أن يشاركها فقط في اللحظات الأولى، وذلك تجنبًا لمشاعر الإحباط وخيبات الأمل.
كما تنصح خلف الآباء بضرورة تفهم مدى أهمية هذا الحدث بالنسبة للمرأة، فهو لا ينحصر بخروج الطفل من جسم المرأة في ساعة واحدة، فقد يمتد الأمر إلى 25 ساعة في بعض الأحيان، وعليه أن يدرك التغيرات الجسدية والعاطفية التي تصاحب هذه التجربة وتؤثر على المرأة بشكل عميق، ولذلك فإن الدروس التحضيرية والإرشادية وتبادل الخبرات مع العائلات الأخرى، سوف تساعده على تهيئة نفسه عقليًا ونفسيًا.
ولا داعي للذكر بأن هذه العملية تحمل قيمة مقدسة بالنسبة للمرأة ولذلك توصي خلف، بأهمية وجود الشخص الذي تثق به وتحبه بجانبها، وتفيد أن التواصل مع زوجها في هذه اللحظات الحاسمة تعزز علاقتهما وتزيد من عمق الارتباط بينهما وبين الكائن الصغير الذي سيخرج من رحم أمه ليلامس الأم والأب معًا، وهو ما كان الطب يوصي به دائمًا، على أساس أن التلامس في هذه الأثناء مع الأب يؤثر بشكل إيجابي على علاقته مع الطفل وتصاغ بينهما صلة مميزة منذ اللحظة الأولى وحتى سنوات نموه وتطوره.