شكلت العقوبات الأخيرة التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على بعض الشخصيات السياسية والحشدية العراقية في 18 يوليو 2019، وطالت كل من محافظ نينوى السابق نوفل العاكوب ومحافظ صلاح الدين السابق أحمد الجبوري، بسبب ملفات الفساد ودعم الإرهاب، فضلًا عن شمول قياديين في الحشد الشعبي وهما ريان الكلداني ووعد القدو، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، استمرارًا لسياسة العقوبات الأمريكية التي انطلقت منذ العام 2017، واستهدفت من خلالها العديد من المليشيات والمصارف والشخصيات السياسية العراقية القريبة من إيران، وهو ما يمثل سياسة أمريكية واضحة للتضيق أكثر فأكثر على الحكومة العراقية بسبب تماهيها المستمر مع السلوك الإيراني في المنطقة، في توجه أمريكي على ما يبدو بدأ لا يعبأ كثيرًا للسيادة العراقية التي أصبحت على المحك اليوم.
فالإدارة الأمريكية اليوم وفي ظل صراعها المتصاعد مع إيران، وجدت في العراق ساحة أخرى لتصفية الحسابات، فنجاحها في العراق يعني إمكانية إسقاط ملف مهم من ملفات التفاوض الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم قد تكون العقوبات الأمريكية المفروضة مؤخرًا ذات تأثيرات كبيرة على الواقعين السياسي والأمني العراقي، إلا أن الحكومة العراقية أمامها تحدٍ صعب في إمكانية تبني موقف مستقل بعيدًا عن خط الأزمة بين أمريكا وإيران، فحتى المبادرات السياسية التي طرحتها في إطار جهودها المستمرة لخفض حدة التوتر الحاصل في المنطقة، من خلال دعوتها لعقد مؤتمر إقليمي في العراق من أجل تخفيف حدة الصراع بين أمريكا وإيران، لم تشفع لها للتخلص من سياسة العقوبات الأمريكية.
وبالتالي فإن عدم تبني موقف سياسي مستقل، يعني استمرارًا لسياسة العقوبات الأمريكية التي قد تحول الحكومة العراقية بالنهاية إلى حكومة راعية للإرهاب، وهذا ما قد يفتح الباب أمام إمكانية العودة لتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، باعتبار أن الحكومة العراقية تضطلع بجهود تقوض الأمن والسلم الدوليين.
هناك معلومات كثيرة تشير إلى عزم وزارة الخزانة الأمريكية وبالتنسيق مع وزارة الخارجية الأمريكية، إصدار قوائم أخرى تضم شخصيات سياسية عراقية رفعية المستوى، في تحرك أمريكي على ما يبدو لفرض مزيد من الضغوط على الحكومة العراقية
وعلى الرغم من هروب الحكومة العراقية للأمام من خلال إصدار الأمر الديواني المرقم 237 الخاص بالحشد الشعبي في 3 يوليو 2019، وذلك من خلال جعل الحشد الشعبي جزءًا من المنظومة الأمنية العراقية، فمن الواضح أن إصدار هذا الأمر الديواني جاء مترافقًا مع الزيارة التي قام بها وفد دولي ممثل من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى بغداد، للاطلاع على واقع عمل المؤسسات السياسية والدستورية في العراق.
إصدار هذا الأمر الديواني بهذا التوقيت، تم تفسيره على أنه محاولة عراقية لمجاملة الوفد الدولي، خصوصًا أنه لم يكشف عن حالة جديدة، بل جاء تأكيدًا على الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي في العام 2018، فضلًا عن أنه لم يختلف كثيرًا عن الصياغة التي خرج بها القانون الذي أقره مجلس النواب العراقي في العام 2016، الذي جاء بعنوان “الحشد الشعبي والهيئات التابعة له”، وهو ما جعل التوصيات التي خرج بها التقرير الذي رفعه الوفد الدولي للأمم المتحدة بعد مغادرته للعراق، لا يحمل الكثير من المؤشرات الإيجابية التي قد تخدم العراق أمام المجتمع الدولي.
إن العقوبات الأمريكية التي فرضت مؤخرًا لن تكون الأخيرة، فهناك معلومات كثيرة تشير إلى عزم وزارة الخزانة الأمريكية وبالتنسيق مع وزارة الخارجية الأمريكية، إصدار قوائم أخرى تضم شخصيات سياسية عراقية رفعية المستوى، في تحرك أمريكي على ما يبدو لفرض مزيد من الضغوط على الحكومة العراقية التي بدت عاجزة اليوم عن ضبط تحركات الحشد الشعبي المستفزة للوجود الأمريكي في العراق.
الحكومة العراقية اليوم يبدو أنها أكثر طرف إقليمي متأثر من حالة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وهو ما يتضح من الارتدادت السلبية التي شهدها الواقع السياسي العراقي منذ اندلاع فتيل الأزمة بين الجانبين
وعلى الرغم من عدم تأثير هذه العقوبات الأمريكية التي فرضت مؤخرًا، كون الشخصيات المفروضة عليها العقوبات ليس لها ذلك الثقل المالي والسياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى في أوروبا، فإنها أتاحت الفرصة أمام أي مواطن عراقي برفع دعوى ضد هذه الأسماء أمام المحاكم الأمريكية أو التضييق على فرصهم لتولي مناصب سيادية مستقبلًا.
وإذا استمرت سياسة العقوبات الأمريكية هذه، وضمت أسماء أخرى هي جزء من المعادلة السياسية العراقية، فإن هذا يشكل تحديًا صعبًا أمام الشرعية السياسية التي تتمتع بها الحكومة العراقية على الصعيد الدولي، فإذا أخذت العقويات الأمريكية منحىً تصاعديًا، عندها لن تدخر الولايات المتحدة الأمريكية جهدًا في تحويل الملف إلى مجلس الأمن الدولي، على غرار ما حصل مع حزب الله اللبناني، وذلك من خلال الضغط على أعضاء مجلس الأمن الدولي بضرورة التعاطي مع الحالة العراقية على نفس الشاكلة التي تم التعاطي بها مع حزب الله اللبناني.
يبدو أن الحكومة العراقية اليوم أكثر طرف إقليمي متأثر من حالة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وهو ما يتضح من الارتدادت السلبية التي شهدها الواقع السياسي العراقي منذ اندلاع فتيل الأزمة بين الجانبين، بدءًا من الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له السفارة الأمريكية، ومن ثم محاولات السيطرة على السفارة البحرينية في بغداد، ناهيك عن حالة الاحتقان الجغرافي التي تشهدها الساحة العراقية، من خلال خريطة الانتشار العسكري الأمريكي، الذي يوجد على خطوط التماس مع مناطق وجود الحشد الشعبي، وبالتالي فإن سياسة العقوبات الأمريكية هي الأخرى تفرض نفسها كأحد مسارات الصراع بين الطرفين الأمريكي والإيراني على الساحة العراقية، وهو ما قد يتصاعد في الأيام القليلة القادمة.