لم يكن استهداف ناقلتي النفط في بحر عمان في الـ13 من يونيو/حزيران الماضي سوى شرارة أولى لحرب ناقلات عالمية من الواضح أن رحاها ستدور فوق ملعب الشرق الأوسط، هذا الملعب الذي يبدو أنه سيكون ساحة كبرى للعديد من المعارك الجانبية، بعضها يحمل تغييرًا كبيرًا في خريطة المنطقة، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وفي الـ4 من يوليو/تموز الحاليّ تصاعدت الأوضاع بشكل متسارع مع احتجاز القوات البحرية البريطانية لناقلة نفط إيرانية “غريس 1” بجبل طارق للاشتباه في تهريبها النفط إلى سوريا بما ينتهك عقوبات مفروضة من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي توعدت فيه طهران بالرد الحازم في أسرع وقت.
وبالفعل.. بالأمس وصلت الأوضاع إلى ذروتها بعد اتهام لندن لطهران باحتجاز سفينتين، إحداهما ترفع عَلم بريطانيا وأخرى ترفع عَلم ليبيريا في مضيق هرمز، التصرف الذي أثار غضب البريطانيين ومعهم الحليف الأمريكي الذي تعهد بالعمل مع حلفائه للتصدي لما وصفه “سلوك إيران الخبيث”.
ليس معروفًا ما إذا كانت طهران تقصد ناقلة النفط الإماراتية “M Riah“، التي أبحرت من الإمارات في مياه الخليج، وفقد الاتصال بها في فجر الأحد الماضي، بعد جنوحها نحو المياه الإيرانية، وسط مخاوف بشأن مصيرها، هذا في الوقت الذي نفت فيه أبو ظبي أي صلة لها بالناقلة.
أجواء ملتهبة تخيم على أرجاء المنطقة، سخونة تُزيد من وطأتها الحرب السياسية والإعلامية بين إيران من جانب وبريطانيا وأمريكا والخليج من جانب آخر، ولم يكن الأمن وحده الثمن المدفوع جراء هذه المواجهة التي من المحتمل أن تأخذ مناحي أخرى، فمن المتوقع أن تلقي بظلالها القاتمة على سوق النفط الذي يبدو أن استقراره بات درب خيال في المرحلة الحاليّة.
بريطانيا تندد وطهران تنفي
أحدث احتجاز الناقلة الأولى صدمة للبريطانيين، تعمقت بعدما أظهرت بيانات “ريفينيتيف” لتعقُّب حركة السفن، أن ناقلة نفط ثانية تديرها شركة بريطانية وترفع عَلم ليبيريا، حوَّلت اتجاهها فجأة شمالاً صوب ساحل إيران في الساعة 16:00 بتوقيت جرينتش، مساء الجمعة 19 من يوليو/تموز، بعد مرورها غربًا عبر مضيق هرمز إلى الخليج، وذلك بعد 40 دقيقة فقط من توقيف الناقلة الأولى.
الخارجية البريطانية وعلى لسان وزيرها جيريمي هانت في أول تعليق له قال: “أشعر بقلق شديد إزاء احتجاز السلطات الإيرانية سفينتين في مضيق هرمز”، مضيفًا “سأحضر بعد قليل اجتماعًا أمنيًا، لاستعراض ما نعلمه وما يمكننا فعله لضمان الإفراج سريعًا عن السفينتين: سفينة ترفع علم بريطانيا، وأخرى ترفع علم ليبيريا”.
هانت اعتبر احتجاز (السفن) أمرًا غير مقبول، مشيرًا أنه من الضروري الحفاظ على حرية الملاحة وقدرة كل السفن على التحرك بأمان وحرية في المنطقة، فيما امتنعت رئاسة الوزراء البريطانية عن التعليق على الحادث في انتظار ما ستسفر عنه الاجتماعات الوزارية المصغرة المشكلة لهذا الغرض.
البعض ذهب إلى أن هذا التصعيد من شأنه أن يسرع خطى نشوب صدام عسكري بين إيران والفريق الآخر، لكن بات من الواضح أن التوتر في المنطقة تجاوز النقطة الحرجة التي يمكن أن يقع فيها صدام من هذا النوع
الرواية البريطانية لم تلق قبولاً لدى الإيرانيين، حيث نفت مصادر عسكرية ما جاء على لسان الخارجية البريطانية، مؤكدة أن الحرس الثوري الإيراني لم يحتجز الناقلة “مسدار” التي تديرها شركة بريطانية وترفع عَلم ليبيريا في الخليج، وفق ما ذكرت وكالة “تسنيم” للأنباء “إيرانية”.
الوكالة أضافت “رغم التقارير، لم يتم احتجاز السفينة… وسُمح لها بمواصلة طريقها بعدما نبهتها القوات الإيرانية بشأن أمور تتعلق بالسلامة”، وفي الإطار ذاته كان التليفزيون الرسمي الإيراني ذكر أمس الجمعة أن الحرس الثوري احتجز ناقلة نفط بريطانية تحمل اسم “ستينا إمبيرو” في مضيق هرمز.
التليفزيون نقل عن بيان لـ”الحرس الثوري”، قوله إنهم احتجزوا الناقلة التي تحمل اسم “Stena Impero” بناء على طلب السلطات البحرية في إقليم هرمزجان الإيراني، بسبب “عدم اتباعها قواعد الملاحة الدولية”، مضيفًا أن الناقلة اصطُحبت لمنطقةٍ قبالة الساحل، وسُلمت إلى السلطات، لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقها.
رسائل للغرب
حزمة من الرسائل ذات الدلالات الواضحة بعثت بها طهران من وراء سلوكها الإقليمي الذي بات علامة استفهام لدى كثير من مراكز الدراسات السياسية في العالم، على رأسها تصديرها لصورة أنها دولة ذات سيادة ونفوذ كبير في مياه الخليج، قادرة في أي وقت كانت أن تحدث إرباكًا واضطرابًا في حركة الملاحة في واحد من أهم ممرات العالم البحرية “مضيق هرمز”.
رسالة كهذه تحمل بين ثناياها تقليلاً من قدرة القوات البحرية الأمريكية الموجودة بكثافة في تلك المنطقة التي يبدو أنها بدت عاجزة عن فعل شيء كما هو الحادث سابقًا مع حادثتي ناقلات ميناء الفجيرة الأربعة وناقلتي بحر عمان خلال مايو ويونيو الماضيين، ولعل هذا كان سببًا وراء إرسال أمريكا عددًا من قواتها للسعودية بعد غياب دام قرابة 16 عامًا.
الغموض الذي يخيم على التصريحات المتبادلة بشأن جنسية الناقلات المحتجزة، سيضع لندن في موقف حرج للغاية، خاصة حال ثبوت اتهام احتجاز الحرس الثوري لناقلة بريطانية، الأمر الذي سيجعلها مضطرة لأن تطلق سراح الناقلة “غريس1” هذا بخلاف أن ما حدث يعد رسالة تحذير شديدة اللهجة تدفع البريطانيين وغيرهم إلى التفكير أكثر من مرة قبل المضي قدمًا في تكرار مثل هذه العمليات التي تتعامل معها طهران على أنها مسألة حياة أو موت، كونها تمس المورد الاقتصادي الأكبر في البلاد.
خلال السنوات الأخيرة تغيرت وجهة الصادرات النفطية الخليجية، فبدلاً من أوروبا التي ظلت لعقود طويلة الوجهة الأساسية لتلك الصادرات، باتت اليوم إلى دول شرق وجنوب شرق آسيا وفي مقدمتها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية
البعض ذهب إلى أن هذا التصعيد من شأنه إسراع خطى نشوب صدام عسكري بين إيران والفريق الآخر، لكن بات من الواضح أن التوتر في المنطقة تجاوز النقطة الحرجة التي يمكن أن يقع فيها صدام من هذا النوع، خاصة بعد تراجع الرئيس الأمريكي عن توجيه ضربة عسكرية انتقامية لإيران في الـ21 من يونيو/حزيران الماضي، عقب إسقاطها لطائرة استطلاع أمريكية.
الإدارة الأمريكية تتعامل مع الملف الإيراني ببراجماتية واضحة، معتبرة الدولة الإسلامية ركنًا أصيلاً في تحقق الكثير من المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية للغرب في المنطقة، وهو ما يحصر الاشتباكات بين الجانبين في السجال الإعلامي والسياسي فقط، الذي يعود بالنفع على الطرفين بلا شك.
وعلى الأرجح فإن الأيام القادمة ستشهد جولة جديدة من المفاوضات على أسس مختلفة، لا سيما بعدما استعرضت طهران قوتها في مياه الخليج، الأمر الذي سيدفع الغرب إلى تفعيل المسار التفاوضي بما يحقق الوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع، تحفظ ماء وجه الإيرانيين وفي الوقت ذاته تحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.
يذكر أن ترامب خلال اجتماع حكومي بالبيت الأبيض، الثلاثاء الماضي، أعلن حدوث “تقدم كبير” فيما يتعلق بملف إيران، قائلاً “هناك تقدم كبير مع طهران”، وفق ما ذكر موقع قناة “الحرة“، لافتًا في تصريحات سابقة له إلى عدم سعيه لـ”تغيير النظام في إيران”، وهو ما اعتبره مقربون نسفًا لكل السيناريوهات المطروحة بشأن اللجوء إلى الخيار العسكري.
ناقلة النفط الإيرانية “غريس” التي احتجزتها بريطانيا قبل أيام
أسواق النفط.. إلى أين؟
بُعد آخر تذهب إليه حرب الناقلات المستعرة في مياه الخليج، وهو المتعلق بأسواق النفط، فالمواجهات الساخنة بين الأطراف المتناحرة اتخذت من مضيق هرمز والمناطق القريبة منه ساحة لها، وهو ما يعني باختصار تهديد حركة الملاحة في المضيق الذي يمر من قرابة 20% من صادرات النفط العالمية القادمة من السعودية والإمارات والكويت وقطر بالدرجة الأولى.
معروف أنه خلال السنوات الأخيرة تغيرت وجهة الصادرات النفطية الخليجية، فبدلاً من أوروبا التي ظلت لعقود طويلة الوجهة الأساسية لتلك الصادرات، باتت اليوم إلى دول شرق وجنوب شرق آسيا وفي مقدمتها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، خاصة بعد تحول أوروبا إلى الاعتماد على مصادر طاقة روسية ونرويجية وجزائرية وليبية.
يذكر أن اليابان وحدها تستورد يوميًا 3.5 مليون برميل تشكل نسبة النفط السعودي منها 40% والخليجي أكثر من 70%، وتستورد الصين يوميًا أكثر من 8 ملايين برميل يشكل النفط السعودي لوحده نسبة 14% منها، فيما تعمل الصين والهند وكوريا الجنوبية على زيادة وارداتها النفطية من السعودية ودول عربية أخرى كالعراق للتعويض عن توقفها عن شراء أكثر من مليون برميل نفط إيراني يوميًا خوفًا من العقوبات الأمريكية ضد المتاجرة بهذا النفط.
وعليه… فإن أي تسخين للأوضاع في مضيق هرمز سيلقي بظلاله القاتمة من الدرجة الأولى على الدول الخليجية وإيران والدول المصدرة للنفط على رأسها السعودية التي تصدر يوميًا أكثر من 7 ملايين برميل، هذا بجانب تعرض مصالح الدول المستوردة في جنوب شرق آسيا لهزة اقتصادية جراء تعرض خط الملاحة الرئيسي للنفط المصدر لها لأي تهديد، ولعل هذا يفسر تأرجح أسعار النفط بين الحين والآخر عكسيًا مع حالة الأمن والاستقرار في تلك الممرات الدولية.
إلا أنه وفي الجهة الأخرى فإن هناك فرصًا ذهبية لدول أخرى ربما تجد فيما يحدث أرضًا خصبة لزيادة صادراتها من النفط وفتح أسواق جديدة، في مقدمتها روسيا وفنزويلا ونيجيريا وليبيا والعراق والولايات المتحدة، غير أن نسب استفادة كل منها تحتاج إلى إعادة نظر في ظل القراءة المتأنية لخريطة الإنتاج والتصدير لكل دولة.
فروسيا على سبيل المثال لا يمكنها زيادة صادراتها بالشكل الذي يسد النقص المحتمل حال تهديد الخط الملاحي المصدر لجنوب شرق آسيا، نظرًا لمحدودية إنتاجها، الأمر ذاته ينطبق على نيجيريا وليبيا وفنزويلا والعراق، في ظل الصراعات والأزمات التي تواجهها في الداخل لديها، ليبقى الطريق ممهدًا أمام الولايات المتحدة.
نجحت أمريكا خلال العقود الماضية في تعزيز إمكاناتها النفطية عبر تنويع مصادر التمويل والتنقيب، فزاد إنتاجها مؤخرًا إلى أكثر 12.3 مليون برميل يوميًا وذلك بفضل استخراج النفط الصخري، لتتفوق بذلك على روسيا والسعودية، أما الاحتياطي لديها والبالغ أكثر من 470 مليون برميل حاليًّا فيكفي لإمداد السوق العالمية بأكثر من مليوني برميل يوميًا على مدى أكثر من سبعة أشهر.
الاستفادة الأمريكية من هذه الحرب لم تتوقف عند إيجاد أسواق جديدة لنفطها وكسر هيمنة منظمة “أوبك” على سوق الطاقة العالمية وفقط، بل نجحت منذ قدوم ترامب في إنعاش سوق صناعة السلاح لديها
علاوة على ذلك تخطط السلطات الأمريكية إلى زيادة إنتاجها خلال السنوات القادمة لأكثر من مليون برميل سنويًا، الأمر الذي يؤهلها لزيادة الصادرات النفطية إلى أكثر من 5 ملايين برميل في اليوم في غضون خمس سنوات أو أقل من ذلك، غير أن المشكلة الرئيسية كانت وتظل إيجاد سوق قادر على احتواء هذه الكميات، وفي ظل ثبات الأسواق النسبي في ضوء سيطرة الكيانات المصدرة الكبرى فإن الأمر غاية في الصعوبة، ولا بد من تراجع حصص كبار المصدرين حتى يفسح الطريق أمام النفط الأمريكي.
ومن ثم فإن إشعال مياه الخليج بالصراعات والنزاعات والتلويح بين الحين والآخر بنشوب حرب هنا وهناك، من شأنه أن يعرقل عملية التصدير ويضع مستقبل الملاحة في هذه المنطقة على المحك، وهنا تكون الفرصة سانحة لأمريكا لتحقيق حلمها في منافسة كبار مصدري النفط في العالم، لتغزو أسواق جنوب شرق آسيا خلال سنوات قليلة قادمة.
الاستفادة الأمريكية من هذه الحرب لم تتوقف عند إيجاد أسواق جديدة لنفطها وكسر هيمنة منظمة “أوبك” على سوق الطاقة العالمية وفقط، بل نجحت منذ قدوم ترامب في إنعاش سوق صناعة السلاح لديها، بعدما استطاعت إقناع حلفائها الخليجيين بضرورة التسليح في مواجهة الشبح الإيراني الذي يهددهم ليل نهار، وصل الأمر إلى أن دول دول الخليج وفي مقدمتها السعودية تشتري سنويًا أسحلة بقيمة أكثر من 100 مليار دولار جلها من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.