في الـ26 من أغسطس/آب 2003 سلم مسؤولون أمريكيون السلطات السعودية قاعدة الأمير سلطان الجوية الواقعة في مدينة الخرج جنوب شرق العاصمة الرياض، في مراسم وداعية، قيل حينها إنها إعلان رسمي لنهاية الوجود العسكري الأمريكي في المملكة.
وبعد 192 شهرًا من مراسم الوداع ها هو الوجود العسكري الأمريكي يعود مجددًا للمملكة، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء السعودية أمس الجمعة بشأن موافقة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود على استضافة قوات أمريكية في السعودية لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أكدت تلك الخطوة في بيان سابق لها بأنها سترسل قوات وموارد إلى السعودية لتقديم “رادع إضافي” في مواجهة التهديدات، تلك الخطوة التي تأتي وفق مسؤول بوزارة الدفاع السعودية بهدف “رفع مستوى العمل المشترك في الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها وضمان السلم فيها”.
فيما قال مسؤول أمريكي طلب عدم نشر اسمه إن العملية ستشمل إرسال نحو 500 فرد من الجيش الأمريكي إلى السعودية وإنها تأتي في إطار زيادة عدد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط التي أعلنها البنتاغون الشهر الماضي، بحسب ما ذكرته وكالة “رويترز” اليوم السبت.
عودة بعد 16 عامًا
مثلت قاعدة الأمر سلطان أهمية كبرى للأمريكان خلال وجودهم بها قبل 16 عامًا، إذ لعبت دورًا أساسيا في إستراتيجية واشنطن بالمنطقة، وذلك لما كانت تتمتع به من قوة عسكرية هائلة تجاوزت في بعض الأحيان 60 ألف عسكري أمريكي بجانب أحدث منظومات العتاد المتطور.
اليوم تفكر واشنطن في العودة مرة أخرى في وقت تشهد فيه المنطقة تسخينًا من أطراف عدة، يوشك أن يحول الشرق الأوسط إلى ساحة حرب عالمية، خاصة في ظل ما يمارس من تحرش عسكري في مياه الخليج على ضوء حرب الناقلات بين إيران من جانب والغرب وحلفائه الخليجيين من جانب آخر.
عودة القوات الأمريكية للقاعدة السعودية ليس وليد اللحظة، إذ كشفت العديد من البيانات الصادرة عن جهات رسمية عزم واشنطن القيام بهذه الخطوة منذ فترة، ففي تقرير سابق لمحطة “سي إن إن” أشار إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” تستعد لإرسال مئات الجنود إلى القاعدة التي تقع بمنطقة صحراوية شرق العاصمة السعودية الرياض.
يأتي هذا الإجراء تزامنًا مع التصعيد الإيراني الغربي المشتعل منذ الانسحاب الأحادي الأمريكي من الاتفاق النووي الموقع في 2015 واللجوء مجددًا إلى سياسة فرض العقوبات الاقتصادية
التقرير أشار إلى وجود عدد قليل من الجنود بالموقع للتمهيد لاستقبال وتشغيل بطارية لنظام الدفاع باتريوت، وتطوير مدرج للطائرات استعدادًا لوصول قاذفات مقاتلة، فيما قال البنتاغون أمس الجمعة إن شركة لوكهيد مارتن فازت بعقد قيمته 1.48 مليار دولار لبيع منظومة ثاد الدفاعية الصاروخية للسعودية، مضيفة أن العقد الجديد تعديل لاتفاق سابق لإنتاج المنظومة الدفاعية لصالح السعودية، وذكرت أن الاتفاق الجديد يرفع القيمة الإجمالية لصفقة ثاد إلى 5.36 مليار دولار.
The Trump administration is reinforcing its controversial military relationship with Saudi Arabia by preparing to send hundreds of troops to the country amid increasing tensions with Iran https://t.co/FGiqgLB4Ya
— CNN (@CNN) July 18, 2019
وبحسب مسؤول أمريكي، فإن قاعدة الأمير سلطان منشأة نشطة، لكن أجزاءً منها ستحتاج إلى تأهيل لاستيعاب القوات الأمريكية، بما في ذلك تعزيز وتوسيع الطرق والممرات، الأمر ذاته ينطبق على المنشآت السكنية بها التي تحتاج إلى تحديث هي الأخرى، بجانب بناء الولايات المتحدة منشأة طبية، الأمر الذي يشير إلى احتمالية البقاء لفترات طويلة.
جدير بالذكر أن أنباء إرسال قوات أمريكية للسعودية تأتي بعد يوم واحد فقط من تصويت مجلس النواب لصالح ثلاثة تشريعات تحظر بيع القنابل الذكية للسعودية والإمارات على خلفية انتهاكات البلدين لحقوق الإنسان واستهداف المدنيين في حرب اليمن، فيما تبنى الكونغرس قرارًا بوقف الدعم العسكري للمملكة، إلا أن الرئيس دونالد ترامب استخدم حق الفيتو لتعطيل القرار، وتعهد بإعاقة أي قرارات تؤثر سلبًا في العلاقة مع الحليف السعودي.
عودة القوات الأمريكية للقاعدة الجوية السعودية بعد غياب 16 عامًا
ما الدوافع؟
يأتي هذا الإجراء تزامنًا مع التصعيد الإيراني الغربي المشتعل منذ الانسحاب الأحادي الأمريكي من الاتفاق النووي الموقع في 2015 واللجوء مجددًا إلى سياسة فرض العقوبات الاقتصادية، الأمر الذي ضيق الخناق على طهران التي توعدت بالرد دفاعًا عن مصالحها.
تهديدات عدة – ظاهريًا على الأقل – تمثلها إيران للمصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة، ما دفع واشنطن إلى تقوية حضورها الشرق أوسطي عسكريًا ونفوذها الذي سُحب بساطه من تحت أقدامها لصالح قوى أخرى مثل روسيا التي نجحت خلال الأعوام الثلاث الأخيرة في تسويق نفسها اللاعب الأساسي في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة.
الوجود العسكري الأمريكي في السعودية من المؤكد ألا يحمّل الخزانة الأمريكية أي أعباء، فالفاتورة بكل تفاصيلها سيتحملها الشريك السعودي، المستفيد الأقرب من هذه الخطوة
القيادة المركزية الأمريكية في بيان لها علقت على هذا الإجراء بقولها: “بالتنسيق مع وبدعوة من المملكة العربية السعودية، أذن وزير الدفاع بنقل الأفراد والموارد الأمريكية من أجل الانتشار في المملكة العربية السعودية.. يوفر هذا التحرك للقوات رادعًا إضافيًا، ويضمن قدرتنا على الدفاع عن قواتنا ومصالحنا في المنطقة من التهديدات الناشئة والموثوقة، هذا التحرك يخلق عمقًا عملياتيًا وشبكات لوجستية”.
النشر الجديد للجيش الأمريكي في القاعدة السعودية يشكل موقعًا آخر في المنطقة – بجانب القواعد المنتشرة الأخرى في بعض الدول الخليجية – لمواجهة أي تهديد محتمل من إيران، فيما أشار مسؤول أمريكي أن القاعدة تزود الولايات المتحدة “بمواجهة إستراتيجية وعمق دفاعي” مع إيران، مما يعني القدرة على مواجهة طهران من مسافة قريبة، بينما لا تكون في مدى الصواريخ الإيرانية.
التجييش العسكري الأمريكي في السعودية على وجه الخصوص يحمل رسائل تهديد لحلفاء طهران في اليمن ولبنان “حزب الله” وفي سوريا، هذا بجانب ميليشاته في العراق التي نجحت في الاندماج بالجيش الوطني العراقي وتعيين قائد الحشد الشعبي رئيسًا لهيئة أركان الجيش، الخطوة التي اعتبرها البعض تعزيزًا للنفوذ الإيراني في بلاد الرافدين.
العاهل السعودي والرئيس الأمريكي
الإجراء غير المفاجئ له أبعاد أخرى، ليس بالضرورة أن تكون سياسية أو اقتصادية، تتمثل في الإبقاء على الوضع مشتعلاً في هذه المنطقة الملتهبة بطبيعتها، ما يمهد الطريق نحو تقليص النفوذ النفطي للدول المصدرة ومنظمة أوبك، ما يفتح الباب أمامه نحو خلق أسواق جديدة لتسويق نفطه الصخري الذي بلغ احتياطه أكثر من 470 مليون برميل حاليًّا، يكفي لإمداد السوق العالمية بأكثر من مليوني برميل يوميًا على مدى أكثر من سبعة أشهر، ما قد يجعله متفوقًا على عمالقة التصدير في العالم، السعودية وروسيا.
وعلى أي حال فإن الوجود العسكري الأمريكي في السعودية من المؤكد ألا يحمّل الخزانة الأمريكية أي أعباء، فالفاتورة بكل تفاصيلها سيتحملها الشريك السعودي، المستفيد الأقرب من هذه الخطوة، على الأقل فيما يتعلق بتجنب أي تحرشات إيرانية، وفي المقابل فإن مكاسب الأمريكان – كالعادة – ستفوق السقوف المتوقعة، وهو ما قد يستخدمه ترامب كورقة دعائية في معركته الانتخابية القادمة.