بعد أسابيع طويلة من الترقب والانتظار، خطف أنفاس الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومعه أحرار العالم أجمع، جاء الخبر اليقين بإعلان نجاح جهود التهدئة ووقف إطلاق النار، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة تحمل في طياتها مسارًا مشرفًا لتبادل الأسرى.
بعد أكثر من 467 يومًا من القتل والدمار، نجحت غزة بإرادتها الصلبة في إيقاف عداد الموت الذي حاول الاحتلال أن يجعله قدرًا دائمًا لشعبها. انتصرت غزة بإصرارها وصمود أهلها وعزيمة مقاوميها على كل قوى الطغيان وآلة القتل الصهيونية التي طمحت لاقتلاعها وتهجير شعبها مجددًا.
خاضت غزة ملحمة بطولية ستُخلَّد في سجلات التاريخ، لتُضاف إلى قصص النضال الإنساني في وجه جبروت الظلم والطغيان. قدَّمت غزة درسًا للعالم أجمع عن انتصار الحق على الباطل، الإرادة على القوة، والتضحية على آلة الدمار. أصبحت غزة أيقونة حية أمام العالم، تثبت أنه في إمكان الصمود قهر أعتى الحروب وأكثرها قسوة.
اليوم، تدحر غزة محتليها، وتتطلع عيون أبنائها إلى إعادة بناء مستقبلهم، الذي حاول الاحتلال أن يُطفئه بتحويل القطاع إلى بيئة غير قابلة للحياة، وترك آلاف الشهداء تحت الأنقاض. على الرغم من المآسي الإنسانية الكبيرة التي خلَّفتها الحرب، فإن أمل غزة وأهلها لم ينطفئ. سيعود النازحون إلى مناطقهم التي هُجِّروا منها، وستُعاد الحياة إلى كل زاوية، لبناء أسطورة جديدة تُكمل ملحمة الصمود بأسطورة النهوض من جديد.
نجحت المقاومة الفلسطينية في انتزاع اتفاق يتوافق مع شروطها، والتي أصبحت عنوانًا للإجماع الشعبي الفلسطيني، فأجبرت المقاومة الاحتلال على الانسحاب الكامل من قطاع غزة، وتفكيك كل مواقعه، مع ضمان عودة النازحين إلى أماكن سكنهم دون شروط، وصفقة تبادل أسرى مشرفة. بهذا، أغلقت غزة فصلًا من أكثر فصول الشعب الفلسطيني ألمًا في مواجهة حرب الإبادة، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء واستعادة الحياة.
عناصر من كتائب #القسام في غزة تشارك الأهالي فرحة النصر #غزة_تنتصر pic.twitter.com/I3ybjT0r8o
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2025
أن تُنتزَع الحياةُ من مَخالب الإبادة
انتزعت غزةُ حياتها من مَخالب نازيِّي العصر الحديث، وأوقفت كل عقارب الساعة، لتصبح عنوان الزمن وزمن البطولة والمواجهة. كانت غزة التحدي في وجه الظلم والقهر العالميين، وواجهت الإبادة والقتل والتهجير بصرخة “لا” مدوية، ليس فقط في وجه “إسرائيل”، بل في وجه كل المنظومة الغربية المنحازة، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي شاركت في الإبادة.
على الرغم من كل ما أصابها من قتل ودمار، ومن فقدان خيرة قادتها وأبطالها وأطفالها ونسائها وشيوخها، أسمعت غزةُ اسمَ فلسطين لكل العالم. لم تنحنِ غزة يومًا، لم تستسلم، ولم تقبَل الهوان أو الاحتلال. قاوم أبطالها كل قوى العدوان بصدورهم العارية ولحمهم المتشظي، وبعزيمتهم التي لا تلين.
تحدَّت غزةُ كل قوانين الطبيعة وموازين القوة، وراهنت على شعبها وأبطالها. كانت ندًّا يُكتَب في الروايات، وأعادت كتابة التاريخ بصفحة من العز والصمود والبطولة أسمها “طوفان الأقصى”.
على مدار سنة وأربعة أشهر، كانت غزة في مساحتها البالغة 365 كلم² تجربة مكثَّفة لنكبة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ عام 1948. قالت بوضوح إن هذا الشعب يمتلك ممكنات المواجهة ولن يقبل التهجير أو الاحتلال أو سلب أراضيه. لن يذهب الفلسطيني إلى رحلة لجوء جديدة، بل سيواجه ويصمد حتى ينتزع حقه.
“أخلع الدرع الذي كان جزءًا من جسدي”.. فلسطينيون في #غزة يحملون مراسل الجزيرة أنس الشريف الذي كان من أبرز الأصوات التي حاولت إيصال معاناتهم على أكتافهم احتفالًا بالإعلان عن وقف إطلاق النار pic.twitter.com/NxtwSmCG6k
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2025
حملت غزةُ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول حلمَ الشعب الفلسطيني بالتحرير، فأسقطت الحدودَ، عبرت إلى الأراضي المحتلة، وحررت أراضي فلسطينية بالقوة، ولو مؤقتًا، لتؤكد أن المستحيل يصبح ممكنًا حين تتوفر الإرادة والعزيمة المقرونة بالعمل الجاد.
قاتلت غزة لأكثر من 467 يومًا لتقول إن ما جرى لن يكون أثرًا عابرًا، بل واقعًا جديدًا وحلمًا يتحقق، وعلى الاحتلال والعالم أن يتقبلوا حقيقة أن فكرة التحرير ستكون عنوان المرحلة القادمة.
واجهت غزةُ أعتى الحملات الإجرامية، ومزقت أسطورةَ الجيش الذي لا يُقهر في خان يونس، والشجاعية، ورفح، والشاطئ، والبريج، والمغازي، والزيتون، وتل الهوى، والشيخ رضوان. حسمت الحربَ وطموحاتِ قادة الاحتلال في جباليا ودفنتها في بيت حانون وبيت لاهيا.
كانت مقاومة غزة رمزًا للصمود، إذ لم يعرف مقاتلوها التراجع أو الاستسلام أو الانهيار. تقدَّمهم قادتهم في الصفوف الأولى، مشتبكين، مقدِّمين حياتهم دون تردد، ليسطِّروا ملحمة بطولية جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني.
عندما يتكامل الميدان والسياسة
ضرب الشعبُ الفلسطينيُّ في “طوفان الأقصى” نموذجًا يُحتذى به، تجسَّد في التكامل الفريد بين المستوى السياسي للمقاومة، داخل القطاع وخارجه، وأبطالها في الميدان، وفي حالة الصمود والتعاضد الشعبي التي أظهرها أهالي قطاع غزة. لقد قدَّمت المقاومة نموذجًا تاريخيًّا مزجت فيه السلوك السياسي بالفعل الميداني، فكان الأداء العسكري على الأرض مكمِّلًا للحركة السياسية لقادتها.
في هذه المعركة، اختلطت الدماء بالدماء، وتلاشت الفوارق المعتادة بين القيادة السياسية والمقاومين على الأرض، ليصبح الجميع جزءًا من ملحمة سيخلدها التاريخ، ليس فقط في ذاكرة الشعب الفلسطيني، بل في تاريخ الشعوب الحرة في العالم أجمع.
العرض الذي انتزعته المقاومة اليوم ذاته العرض الذي وافق عليه الشهيد القائد إسماعيل هنية، وفاوض على تفاصيله قائد الطوفان الشهيد يحيى السنوار، ورسم محدداتِه الشهيد القائد صالح العاروري. كان هذا العرض نتيجة مباشرة لتضحيات رجال أبو خالد الضيف قائد أركان المقاومة، الذين حافظوا على الأسرى وأمَّنوا سلامتهم وسط عدوان طال كل شبر من قطاع غزة.
حسمت المقاومةُ الفلسطينيةُ طموحاتِ الاحتلال وأحزاب اليمين الإسرائيلي في إعادة احتلال القطاع. لقد شهد العالم النسخة الفلسطينية من معركة “ستالينغراد”، التي أوقفت طموحاتِ النازيين في الحرب العالمية الثانية. كانت جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا العناوين التي أوقفت العدوان وأفشلت المخططات الصهيونية في غزة.
راكمت القيادة السياسية المشتركة، ممثلة بحركة حماس، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحركة الجهاد الإسلامي، على إنجازات المقاومين في الميدان، حيث تمسكت هذه القيادة برفض أي شكل من أشكال التواجد الاحتلالي على أراضي قطاع غزة، لتكون الرسالة واضحة: إما انسحاب كامل وغير مشروط من القطاع، أو ارتفاع مستمر في عداد قتلى الجيش الإسرائيلي. في معركة “طوفان الأقصى”، كل شبر من قطاع غزة كان “أرضًا حرامًا” على الاحتلال ومستوطنيه.
الرئيس الأمريكي جو #بايدن عن اتفاقية وقف إطلاق النار في #غزة:
📍 سيتم الإفراج عن رهائن أميركيين في المرحلة الأولى من الاتفاق ونحن مصممون على إعادة جميع الرهائن.
📍 إسرائيل ستنسحب من كامل قطاع #غزة واتفاق وقف إطلاق النار سيصبح وقفًا دائمًا كما ستبدأ عملية كبيرة لإعادة إعمار… pic.twitter.com/d5OCTen67u
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2025
لم تخضع المقاومة للضغوط الدولية، ولا للعقوبات، ولا للتهديدات. ظلت ثابتة لا تزحزحها الرياح، لا داخل القطاع ولا خارجه. أثبتت المقاومة أنها على قدر توقعات وصمود أبناء شعبها، الذين حملوا تمسكهم بأرضهم وحقهم في الحياة من كل مخيمات النزوح، رافضين التهجير، ومتشبثين بحق العودة إلى بيوتهم.
إن هذا التكامل الفريد بين قيادة المقاومة، وشعبها، ومقاتليها، يعكس مستقبلًا يتطلع إليه الشعب الفلسطيني، إذ تكون القيادة تعبيرًا حقيقيًّا عن حقه في المقاومة والصمود والمواجهة، وحفظ كرامته وعنفوانه.
في هذا السياق، التفَّ كل قطاع غزة حول محددات التفاوض الأساسية: لا اتفاق دون عودة النازحين إلى بيوتهم؛ لا اتفاق دون انسحاب كامل لجيش الاحتلال؛ لا اتفاق دون تبادل الأسرى.
كان الموقف السياسي والفعل الميداني حاملًا لهذه المطالب. لم تفرض “إسرائيلُ” ولا داعموها شروطهم، بل كان ما أراده الشعب الفلسطيني هو الحاكم والمحدد لمسار المفاوضات.
تضميد الجراح
آن لغزة الآن أن تستريح، وأن تضمد جراحها العميقة، وأن تلملم أشلاء أبنائها، وتدفن شهداءها، وتعالج جراحاها التي أثخنتها الحرب. آن لأهاليها أن يتفقدوا بيوت أحبائهم الذين ارتقوا، وأن يعود النازحون إلى بيوتهم التي هُجِّروا منها قسرًا. آن لهذا الشعب العظيم أن يتنفس الصعداء بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتوقف ضجيج المدافع وهدير الطائرات، وانتهى مشهد الموت والدمار الذي كان يوميًّا.
لقد مسَّت الحربُ كل بيت في قطاع غزة، فلم تسلَم عائلة من نارها، ولم ينجُ قلب من ألم الفقد والفجع. الجرح الذي خلفته الحرب أكبر من أن يُوصَف، لكن ما يوازي هذا الجرح حجم العزة والإباء والصمود الذي جسده أهل غزة، وهو أيضًا أكبر من أن يختزله الكلام.
آن لغزة أن تبدأ حربَها القادمة، حربَ النهوض من تحت الركام، لتعيد الحياةَ إلى كل زاوية وكل شارع وزقاق. تستحق غزة أن يُمُدَّ لها يدَ العون كلُّ أحرار العالم، لإعمار منازلها، ومدارسها، وجامعاتها، ومستشفياتها، وأن يُعاد بناء المخيمات التي كانت شاهدة على صمود هذا الشعب وألمه.
لن تنسى غزة من وقَفَ معها في محنتها، من رفع صوته عاليًا في كل الميادين والمنابر، من كان حاضرًا في المواجهة بدمه وتضحياته، من حمل قضيتها ودافع عنها أمام العالم. غزة مدينة لكل من حمل همَّها ودافع عن حقها في الحياة والكرامة.
لكن غزة أيضًا لن تنسى من خذلها، مَن تآمَر على قتلها وتهجير شعبها، من دعم الاحتلال وكان شريكًا في إبادتها. لن تنسى غزة مَن ساهم في تصفية قضيتها ودعم آلة العدوان بالمال والسلاح والغطاء السياسي. لن تغفر غزة لهؤلاء، وستبقى ذاكرتها حاضرة، تحفظ أسماءهم وجرائمهم للأجيال القادمة.
فرحة السوريين بانتصار #غزة لا تقلّ عن فرحة الغزاويين..احتفالات من #حماة فرحاً بغزة pic.twitter.com/1PgCDAjNkQ
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2025
تقف غزة اليوم كالعنقاء، تنهض من تحت الركام لتعلن للعالم أن الإرادة أقوى من المدافع والطائرات، وأن الدماء والتضحيات التي جبلت بها الأرض لن تهزمها أي قوة في هذا العالم.
نكتب هذه اللحظة والقلب يعتصر ألمًا على أكثر من 60 ألف شهيد ومفقود، وعلى أكثر من 10 آلاف مجزرة ارتكبها الاحتلال، وعلى أكثر من مليونَي نازح، و18 ألف طفل أُزهقت أرواحهم قبل أن يروا الحياة. نكتبها ونتذكر أن 1,600 عائلة أبيدت بالكامل، ومُسِحت من السجل المدني، وعشرات آلاف الجرحى يئنون دون مستشفيات، وآلاف الأسرى والمفقودين مجهولي المصير.
على الرغم من هذا النزف، تُصر غزة على الحياة، تملؤها العزة والكرامة والإباء، وتُعلِّم العالَمَ درسًا خالدًا: إن الإرادة التي صُنعت بالتضحيات والدماء لن تُهزَم أبدًا. ليست غزة مجرد مكان، إنها فكرة تتجسد، وصوت يعلو، ورمز للأمل الذي لا ينكسر.