حانت لحظة الحقيقة أخيرًا، ليصبح اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة واقعًا ملموسًا، بعد أن بدا بعيد المنال لفترات طويلة. بهذه الخطوة، تنتهي الحرب الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، والتي استمرت لنحو عام و4 أشهر، تاركةً خلفها دمارًا واسعًا طال كل جوانب الحياة في قطاع غزة.
أنجزت المقاومة الفلسطينية اتفاقًا يعكس إصرارها على تحقيق المطالب الأساسية التي تمسكت بها منذ بداية الحرب، حيث نص على عودة غير مشروطة للنازحين في جنوب القطاع إلى أماكن سكنهم في شماله، وانسحاب تدريجي لجيش الاحتلال من أراضي القطاع، بما يشمل تفكيك جميع المواقع العسكرية التي أقامها الاحتلال، كما تضمن صفقة تبادل أسرى نوعية، تضمن إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، خصوصًا ذوي المحكوميات الطويلة والمؤبدات.
جاء هذا الاتفاق بوساطة قطرية ومصرية، بعد مخاض عسير ومفاوضات شاقة شهدت ضغوطًا متعددة، ليس فقط على المقاومة الفلسطينية، بل أيضًا على الاحتلال الإسرائيلي. ولعبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دورًا محوريًّا في دفع الأطراف نحو طاولة المفاوضات الجدية، ما أجبر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على إعادة حساباته والتخلي عن سياسة المماطلة المعتادة، التي لطالما أعاقت الوصول إلى تفاهمات سابقة.
يحمل الاتفاق دلالات مهمةً على عدة مستويات، إذ يُظهر المسافة الكبيرة بين أهداف الحرب التي سعى الاحتلال إلى تحقيقها وبين الواقع الذي فرضه صمود غزة، فبينما كان بنيامين نتنياهو يبحث عن “النصر المطلق” ليدخل التاريخ، وجد نفسه مجبرًا على التراجع أمام إرادة قطاع غزة وأهله ومقاومته.
في المقابل، أكدت المقاومة الفلسطينية، من خلال هذا الاتفاق، أنها قادرة على فرض شروطها في أصعب الظروف، وأنه في استطاعة إرادة الشعب الفلسطيني أن تهزم أحلام قادة اليمين الصهيوني، إذ يمثِّل هذا الاتفاق نقطة تحول تاريخية في مسار الصراع، ويضع حدًّا لطموحات الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني. إنها اللحظة التي تثبت أن الصمود والتضحية يمكنهما تغيير المعادلات وتحقيق ما كان يبدو مستحيلًا.
الرئيس الأمريكي جو #بايدن عن اتفاقية وقف إطلاق النار في #غزة:
📍 سيتم الإفراج عن رهائن أميركيين في المرحلة الأولى من الاتفاق ونحن مصممون على إعادة جميع الرهائن.
📍 إسرائيل ستنسحب من كامل قطاع #غزة واتفاق وقف إطلاق النار سيصبح وقفًا دائمًا كما ستبدأ عملية كبيرة لإعادة إعمار… pic.twitter.com/d5OCTen67u
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2025
دلالات رئيسية
يحمل الوصول إلى الاتفاق، بما يشمله من التفاصيل المُعلَنة، العديد من الدلالات التي سترافق المرحلة القادمة، وستشكل جزءًا محوريًّا من التفاعلات السياسية المستقبلية ومآلات الصراع:
فشل أهداف الحرب المُعلَنة: يشكِّل الاتفاق المرتقب إقرارًا دوليًّا وإسرائيليًّا بفشل الأهداف المُعلَنة للحرب، والتي حددها رئيس وزراء الاحتلال ومجلس حربه آنذاك، فقد سعت “إسرائيل”، منذ بداية العدوان، إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتفكيك حكم حركة حماس، واستعادة أسرى الاحتلال دون تقديم تنازلات، لكن الاتفاق أتى ليؤكد أن الاحتلال لم يحقق أيًّا من هذه الأهداف، إذ بقيت المقاومة قائمة ومتماسكة، واستعادت “إسرائيل” أسراها عبر بوابة التفاوض التي فرضتها المقاومة كخيار وحيد.
رغم أن الاحتلال حصد “إنجازات” عسكرية عبر تدمير البنية التحتية واستهداف المدنيين والمنازل والمنشآت الحيوية، إلا أن ما وصفه نتنياهو بـ”النصر المطلق” ظل سرابًا، حيث كشفت الحرب عن عجز كبير في تحقيق التفوق النوعي، ما أثبت محدودية الأهداف الإسرائيلية في ظل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته.
انهيار أطروحات إعادة الاحتلال: في خلال الحرب، عادت أطروحات إعادة الاحتلال لتطفو على السطح ضمن خطط وأفكار تنوعت بين فرض حكم عسكري على القطاع، والسيطرة الأمنية الكاملة، وإعادة الاستيطان، وما يرافقها من إجراءات عسكرية وأمنية لحماية المستوطنين وخلق وقائع جديدة على الأرض.
هذه الأطروحات، رغم عدم إعلانها صراحةً بوصفها هدفًا سياسيًّا رسميًّا، بقيت مسيطرة ضمنيًّا على خطط الحرب الإسرائيلية، لكن المقاومة الفلسطينية، بصمودها الميداني والصلابة السياسية التي أبدتها في التفاوض، أفشلت هذه الأطروحات تمامًا، إذ إن الانسحاب التدريجي الذي ينص عليه الاتفاق من محورَي نتساريم وفيلادلفيا يمثل اعترافًا ضمنيًّا من “إسرائيل” بانعدام قدرتها على تحمُّل كلفة إعادة الاحتلال أو فرض واقع أمني جديد في القطاع.
اليوم التالي فلسطينيًّا: منذ اليوم الأول للعدوان، شكّل عنوان “اليوم التالي” أحد أبرز محاور الجدل داخل “إسرائيل” وخارجها، ففي حين حملت الخطط الإسرائيلية والإقليمية طموحات لإعادة ترتيب قطاع غزة بما يخدم مصالح الاحتلال وحلفائه، حدَّد الفلسطينيون شكل وتركيبة “اليوم التالي” بوضوح، مؤكدين أنه لن يكون إلا فلسطينيًّا، وأن بوابته الوحيدة تتمثل بالتوافق الداخلي.
إن موقف حركة حماس، التي أعلنت استعدادها للتنازل عن حكم القطاع، شكَّل مرونة تجاه الأطروحات التي تسهِّل ترتيب المشهد الفلسطيني. هذا الموقف، إلى جانب الحراك الإقليمي والأمريكي الذي انحصر في بوابة التوافق الفلسطيني، جعل من المقاومة الطرف الأبرز في تحديد ملامح المرحلة المقبلة.
فوارق في حسابات ترامب-نتنياهو: لعب مبعوث الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب دورًا حاسمًا في الضغط على بنيامين نتنياهو لدفعه نحو قبول الصفقة، إذ أشار مسؤولون إسرائيليون وأجانب إلى أن المهلة الزمنية التي منحها ترامب لإتمام الاتفاق كانت تشمل “إسرائيل” أيضًا.
لذا، وضعت هذه المهلة نتنياهو أمام معضلة سياسية كبرى، إذ إن رفض الصفقة كان سيؤدي إلى صدام مع الإدارة الأمريكية التي يعول عليها في تحقيق مصالح استراتيجية، خصوصًا مع اقتراب بداية دورة ترامب الرئاسية التي قد تتيح لنتنياهو تحقيق مشاريع داخلية وخارجية.
يدرك نتنياهو أن دعم ترامب ضروري لإتمام خططه الكبرى، بما في ذلك تعزيز التطبيع الإقليمي واستكمال مشروع التعديلات القضائية في “إسرائيل”، الذي كان مثار جدل مع الإدارة الديمقراطية السابقة. لذلك، اضطر نتنياهو إلى المضي قدمًا في الصفقة، مستثمرًا النصف الممتلئ من الكأس لتعزيز موقعه السياسي.
ملامح تحالف فلسطيني داخلي: كشفت مجريات المفاوضات عن ملامح تعاون فلسطيني داخلي جديد بين قوى المقاومة، مثل حركة حماس، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحركة الجهاد الإسلامي، بما يعكس مستوى عاليًا من التنسيق والتفاهم المشترك.
لم يقتصر هذا التعاون على الجانب السياسي، بل اقترن بفعل ميداني مشترك عزَّز ثقة هذه القوى ببعضها البعض. ورغم أن هذا التنسيق لم يرتقِ بعد إلى صيغة تحالف رسمي، إلا أن التجربة الحالية تمهِّد لبناء أواصر أقوى من الثقة والتفاهم.
إن إتمام الصفقة، وما ستتضمنه من إطلاق سراح قيادات الحركة الأسيرة، قد يكون نقطة انطلاق لصياغة مشهد فلسطيني داخلي جديد، سيسهم في مواجهة حالة الهيمنة على التمثيل الرسمي الفلسطيني من قبل السلطة، ويدفع نحو تعزيز العمل الوطني المشترك بشكل أكثر فعالية في المستقبل.
ملفات مستقبلية صعبة
رغم تجاوز المخاض الرئيسي للوصول إلى وقف إطلاق النار، وبدء مسار تبادل الأسرى والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، فإن مرحلة ما بعد الحرب تحمل في طياتها تحديات كبرى تمسّ مستويات متعددة، فقد تجاوزت الحرب في تأثيراتها حدود قطاع غزة الجغرافية، لتطال الملف الفلسطيني وإطاره السياسي، بالإضافة إلى ترتيبات إقليمية أوسع.
تضع التطوراتُ التي صاحبت “طوفان الأقصى” القوى الفلسطينيةَ أمام ملفات صعبة تتطلب استدراكات ديناميكية ومرونة تكتيكية مقرونة برؤية استراتيجية، تستند إلى تصويب أوضاع المشروع الوطني الفلسطيني ومؤسساته. تنقسم هذه الملفات إلى التالي:
إعادة بناء قطاع غزة: أحد الأهداف “غير المعلنة” التي سعى الاحتلال لتحقيقها كان تدمير قطاع غزة بشكل شامل، وجعله مكانًا غير قابل للحياة، بهدف دفع سكانه نحو “الهجرة الطوعية”، وقد روَّج وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، لهذه الفكرة باعتبارها تمهيدًا لإعادة الاستيطان في القطاع في المستقبل.
إعادة بناء قطاع غزة ليست مجرد مهمة هندسية لإعادة إعمار المباني، بل تمتد إلى ترميم الإنسان الفلسطيني، وصيانة هوية المخيمات والمؤسسات الوطنية والتعليمية، إذ يجب أن يستعيد القطاع مكانته بوصفه بقعة تنبض بالحياة، تحمل أفقًا لمستقبل مشرق لشعب صمد في وجه أقسى حرب إبادة عرفتها المنطقة.
يكمن التحدي الأكبر في هذا الملف في ضمان ألَّا تتحول عملية إعادة الإعمار إلى أداة ابتزاز سياسي واقتصادي بيد الاحتلال، وذلك يتطلب تنسيقًا وثيقًا مع الوسطاء، وصياغة نصوص تفصيلية في المراحل اللاحقة من اتفاق التهدئة، لضمان تنفيذ عملية إعادة الإعمار بمعزل عن السيطرة الإسرائيلية، وضمان تعويض أهالي القطاع بكرامة.
رفع الحصار: الحصار المفروض على قطاع غزة أحد أبرز فصول المعاناة الفلسطينية للمقاومة وأداة دائمة يستخدمها الاحتلال للعقاب الجماعي، وقد شكَّل الحصار الشرارة لجولات الاشتباك السابقة، ويشكِّل رفعه مطلبًا رئيسيًّا للمقاومة.
إن إنجاز رفع الحصار بشكل شامل وكامل يمثِّل تحديًا استراتيجيًّا صعبًا، إذ يدرك الاحتلال مدى فاعلية الحصار في ابتزاز الشعب الفلسطيني وقواه السياسية بأدوات لا تتطلب اشتباكًا عسكريًّا مباشرًا.
في المقابل، فإن القطاع المنهك من الحرب لن يكون بوارد الذهاب إلى جولات مواجهة إضافية في المستقبل القريب. لذلك، سيكون تحقيق مطلب رفع الحصار إنجازًا نوعيًّا، ينعكس على مستقبل غزة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وهو ما يتطلب ضغطًا كبيرًا من المقاومة، مع استثمار الدعم الإقليمي والدولي لتعزيز فرص تحقيق هذا المطلب.
إعادة الأمن وترميم الجبهة الداخلية في قطاع غزة: شهد قطاع غزة في خلال الحرب استهدافًا مباشرًا للبنية الأمنية والقوى الشرطية، إضافةً إلى استهداف لجان الحماية الشعبية التي شكَّلت عنصرًا حاسمًا في ضبط الأمن في خلال شهور الحرب. فتح هذا الاستهداف المجالَ لظهور عصابات من الخارجين عن القانون، بعضهم تعاون مع الاحتلال لتحقيق أهدافه بإشاعة الفوضى، ولم تنتهِ هذه الظواهر مع انتهاء الحرب، بل باتت تهدِّد استقرار الجبهة الداخلية، خاصةً في ظل الأضرار التي لحقت بالعديد من العائلات نتيجة أفعال تلك العصابات.
إعادة ترميم الأمن الداخلي أولوية مُلحَّة لقوى المقاومة الفلسطينية، إذ يتطلب الأمر معالجة جذرية وسريعة لضمان ألَّا تنزلق الأوضاع إلى حالة من الفوضى التي قد تعطِّل مسارات إعادة الإعمار أو تسهم في تصعيد النزاعات المحلية، ما يتطلب محاصرة هذه الظواهر وفرض سيادة القانون بحزم وعدالة لتجنب أي ردود فعل قد تُفاقم الأوضاع.
ترتيبات المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي: حملت الحرب معها تحولات كبيرةً في المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي، إذ أظهرت بعض الأطراف مواقف متباينة، وصلت في بعض الحالات إلى مستوى الحياد السلبي أو التواطؤ. وقد كانت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أبرز مثال على ذلك، إذ شنت هجمات إعلاميةً على قوى المقاومة، تلتها حملة أمنية على مخيم جنين، فيما رفضت المشاركة في لجنة الإسناد المجتمعي لقطاع غزة. كشفت هذه المواقفُ عن تصدُّع واضح في الالتزام بتفاهمات الوحدة الوطنية، خصوصًا مع تنصُّل السلطة الفلسطينية لكل التفاهمات الوطنية، بما فيها مخرجات موسكو وبكين.
تُعَدُّ مرحلة ما بعد الحرب محطةً مفصليةً لإعادة صياغة الاستراتيجيات السياسية، وقد يُشكِّل خروج شخصيات قيادية مثل مروان البرغوثي ضمن صفقة تبادل الأسرى نافذةً لإعادة ترتيب المشهد السياسي داخل حركة فتح، ما قد يعزِّز فرص جديدة للتوافق الوطني. إذ تتطلب المرحلة المقبلة تجاوز الحسابات الفصائلية الضيقة والعمل على صياغة قيادة فلسطينية موحَّدة قادرة على مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، والعمل جديًّا لتلافي الدخول في فصل جديد من فصول الانقسام.
التغيرات الإقليمية في الشرق الأوسط: تأتي الحرب في غزة في ظل تحولات إقليمية واسعة النطاق تعيد صياغة معادلات القوة والنفوذ في الشرق الأوسط. تفرِض هذه التحولات، التي تتضمن تراجع أدوار بعض القوى الإقليمية وبروز أخرى، على القوى الفلسطينية قراءة دقيقة للمشهد الإقليمي.
تحتاج السياسة الفلسطينية في المرحلة المقبلة إلى توازن بين الحفاظ على المصالح الوطنية وتجنُّب التورط في صراعات المحاور، بالإضافة إلى حشد وتعزيز الدعم الإقليمي للقضية الفلسطينية يتطلب تحركًا دبلوماسيًّا نشطًا، مع التركيز على الحفاظ على هوية مخيمات الشتات واستثمار طاقاتها لخدمة المشروع الوطني الفلسطيني.
مواجهة مخططات التصفية الإسرائيلية: رغم انتهاء الحرب، فإن الاحتلال سيواصل العمل على تنفيذ مخططاته التصفوية بحق القضية الفلسطينية. تسعى حكومة الاحتلال الحالية إلى تجنيد دعم من الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، واستثمار نتائج الحرب والتعويل على “تحييد غزة” من معادلة الاشتباك لفرض وقائع جديدة، مثل ضم الضفة الغربية وتكثيف مشاريع الاستيطان.
يتطلب التصدي لهذه المخططات توافقًا فلسطينيًّا داخليًّا على برنامج مواجهة شامل يوظِّف كل طاقات الشعب الفلسطيني للتصدي لهذه المخاطر، إذ ستكون المرحلة المقبلة اختبارًا لإرادة الشعب الفلسطيني وقواه السياسية في الحفاظ على مكتسبات النضال الوطني.
مواجهة موجة التطبيع الجديدة: يمثِّل التطبيع مع “إسرائيل” خطرًا استراتيجيًّا على القضية الفلسطينية، إذ تسعى “إسرائيل” والولايات المتحدة إلى توسيع دوائر التطبيع لتشمل دولًا عربية وإسلامية جديدة، وتُعَدُّ المملكة السعودية الهدفَ الأبرزَ لهذه الجهود، إذ يطمح الاحتلال إلى توقيع اتفاق تطبيع معها لفتح الباب أمام دول أخرى.
تتطلب مواجهة هذا التحدي من القوى الفلسطينية تطوير أدوات جديدة للتأثير في قرارات الدول المستهدَفة. كما يجب تكثيف الجهود الإعلامية والدبلوماسية لتسليط الضوء على مخاطر التطبيع، والعمل على حشد دعم شعبي عربي وإسلامي لمناهضة هذه الموجة التي تهدِّد المشروع الوطني الفلسطيني ومكانة القضية الفلسطينية في المنطقة.
ختامًا، تؤكد الوقائع أن القوى الفلسطينية لا تمتلك رفاهية الوقت للراحة أو التقاط الأنفاس بعد المعركة الأشد دموية في تاريخ الشعب الفلسطيني، ورغم أن المقاومة الفلسطينية نجحت في انتزاع اتفاق يوقف العدوان ويضع حدًّا لمفاعيل حرب الإبادة، فإن التحديات الكبرى ما تزال ماثلة أمام الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية.
المطلوب الآن مسارعة فلسطينية للمراكمة على ما تحقَّق من إنجازات في اتفاق وقف إطلاق النار، واستثمار ما حمله “طوفان الأقصى” من مكاسب سياسية ومعنوية، لحماية حقوق الشعب الفلسطيني وتعزيز قضيته على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
تشكِّل المرحلة القادمة فرصةً سانحةً لإعادة الاعتبار إلى مشروع التحرر الوطني الفلسطيني بوصفه مشروعًا جامعًا لكل مكونات الشعب الفلسطيني، لمغادرة مرحلة التراجع بفعل الانقسام الفلسطيني الداخلي وعدوان الاحتلال المستمر، ما يحتاج إلى إعادة صياغة برؤية استراتيجية تُلبي تطلعاتِ الشعب الفلسطيني، وتؤكد ثوابتَه الوطنيةَ في الحرية والكرامة والاستقلال.
إن ما حققه “طوفان الأقصى” من حضور نوعي للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية يجب أن يُستثمر بحنكة ودقة، فالتأييد الشعبي والرسمي الذي شهدته القضية الفلسطينية في خلال المعركة يشكِّل أساسًا قويًّا لتحشيد مزيد من الدعم الدولي، والضغط من أجل تحقيق مكاسب ملموسة للشعب الفلسطيني، سواءٌ على مستوى رفع الحصار عن غزة، أو وقف التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، أو تحقيق عدالة أكبر على المستوى الدولي.
إن وقف إطلاق النار ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسار طويل يتطلب العمل الجاد والمثابر، فعلى القوى الفلسطينية أن توحِّد صفوفها لمواجهة استحقاقات إعادة الإعمار، وتأمين حياة كريمة لأهالي غزة، والتمسك بشروط الاتفاق، وضمان تنفيذها بعيدًا عن أية محاولات التفاف من الاحتلال.
يحمل المستقبلُ تحديات كبرى، لكنه يحمل أيضًا فرصًا مهمة إذا ما استُثمِرَت بحكمة، فالشعب الفلسطيني وقواه الوطنية أمام مسؤولية تاريخية لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يحفظ الحقوق ويضمن استمرار النضال نحو الحرية والاستقلال.