منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة، اتبع الاحتلال الإسرائيلي سياسة الاعتقال الممنهج بحق السكان، إذ أخفى الآلاف قسرًا، وهو ما يعدّ جريمة حرب لا جدال فيها. ووفقًا لمصادر إسرائيلية، فقد شهدت الفترة بين منتصف أكتوبر/ تشرين الأول ومنتصف ديسمبر/ كانون الأول زيادة بنسبة 50% في عدد المعتقلين من قطاع غزة، ليصل العدد إلى 3 آلاف و436 معتقلًا، في حين أفرجت عن 151 معتقلًا لأسباب مختلفة.
في أثناء حرب الإبادة، استحدثت “إسرائيل” قانون “المقاتلين غير الشرعيين”، لتبرير استخدام العنف وتشريع القوانين التي تسمح باعتقال المدنيين الفلسطينيين دون أي دواع قانونية، وعليه اعتقلت مدنيين من كافة الفئات الاجتماعية والعمرية، بما في ذلك النساء وكبار السن والأطفال القُصَّر، بالإضافة إلى الصحفيين والأطباء، وكان آخر هؤلاء المعتقلين الدكتور حسام أبو صفية من مستشفى كمال عدوان، الذي تم اعتقاله في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
وفي ظل غياب أي تحرك دولي قانوني أو إنساني فعّال، تجد “إسرائيل” مجالًا للتصعيد في ممارساتها الخطيرة والوحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث يستمر الاحتلال في ممارسة الاعتقال الممنهج، بطرق تتنافى مع قوانين حقوق الإنسان والمعايير الإنسانية، إذ تخفي بعضهم داخل معتقلاتها لأشهر دون أن تفصح عن أسمائهم أو أماكنهم، عدا عن أنها تسبّبت في استشهاد عدد منهم تحت ممارسات التعذيب التي شملت الضرب المبرح والتجويع والاعتداء الجنسي.
📍توفي 68 أسيرًا فلسطينيًا على الأقل في سجون الاحتلال الإسرائيلي نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي بحسب ما أفادت صحيفة هآرتس.
📍وأكدت الصحيفة أن عدد الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في “إسرائيل” يفوق عدد الإسرائيليين المحتجزين في قطاع #غزة، لكنهم لا يحظون بأي ذكر أو اهتمام. pic.twitter.com/1CbIJxQTMu
— نون بوست (@NoonPost) January 13, 2025
جناح راكفت واستحداث المعتقلات
كرست “إسرائيل” مختلف السبل والأدوات لممارسة سياستها في التنكيل بسكان قطاع غزة، بما في ذلك تكثيف وتيرة الاعتقال الممنهج، ما ترتب عنه بناء المزيد من المعسكرات والمعتقلات المخصصة لأسرى قطاع غزة، وكان آخرها جناح راكفت، الذي أثار جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي وعلى مستوى الهيئات المعنية بحقوق الأسرى.
أمر وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بتشييد هذا الجناح، الذي يُعرف بسياسته التنكيلية والممنهجة ضد الفلسطينيين بشكل عام، والأسرى في السجون والمعتقلات بشكل خاص، وهو مجمع سرّي يقع تحت الأرض في سجن نفحة، وخصص لاستيعاب مزيد من المعتقلين من قطاع غزة، الذين تدّعي “إسرائيل” مشروعية اعتقالهم عبر تصنيفهم كمقاتلين من حركة المقاومة الفلسطينية حماس.
وبحسب ما أعلن عنه، فإن المعتقلين في راكفت يعيشون ظروفًا قاسية لا يمكن تحملها، حيث يُحرمون من الوصول إلى ضوء الشمس، وفي تصريح لبن غفير لـ”هيئة البث العام الإسرائيلية”، قال: “حتى النافذة الصغيرة في الجناح أُغلقت أمام المعتقلين”، في إشارة واضحة إلى السياسات التي تهدف إلى فرض حكم الموت البطيء على الأسرى.
المعتقل يضم حاليًا حوالي 75 أسيرًا محتجزين تحت الأرض، حيث يتم تزويدهم بكميات قليلة وغير كافية من الطعام، مع فرض قيود صارمة عليهم بتقييدهم لمدة 23 ساعة في اليوم، كما جُهّز الجناح بتكنولوجيا مراقبة متقدمة، حيث تحتوي كل زنزانة على كاميرات ذكية، ما يزيد من الخناق على الأسرى ويستهدف وضعهم النفسي من خلال المراقبة المستمرة.
من المحتشدات البريطانية إلى سديه تيمان.. تاريخ معسكرات الاعتقال الجماعية الإسرائيلية
يجدر بالذكر أن جناح راكفت هو منشأة تم إغلاقها في سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت مخصصة لأخطر المجرمين الإسرائيليين، لكن “إسرائيل” أعادت فتحها في خضمّ الحرب المستمرة ضد قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتحقيق أهداف تخدم مصالح “إسرائيل” في سياق الإبادة الممنهجة.
ومنذ السابع من أكتوبر، عمدت “إسرائيل” إلى استحداث معتقلات ومعسكرات جديدة مخصصة لأسرى قطاع غزة، من بينها معسكر نفتالي، ومعسكر سيديه تيمان، وعناتوت، وعوفر، وهي معسكرات إما جرى إعادة فتحها وإما تشييدها حديثًا.
يأتي هذا التوسع في المعتقلات والمعسكرات في ضوء وصول السجون والمعتقلات القديمة إلى طاقتها القصوى من حيث عدد المعتقلين، في ظروف مأساوية. وفي الوقت نفسه، فإن المعسكرات المستحدثة لا تقل قسوة عن المعتقلات السابقة، بل رفع الاحتلال وتيرة التعذيب بعد السابع من أكتوبر، ما أدى إلى استشهاد العديد من الفلسطينيين داخل هذه المعسكرات.
أوضاع الأسرى المأساوية
منذ السابع من أكتوبر الماضي، يعيش الأسرى الفلسطينيون في أوضاع كارثية نتيجة سياسة التعذيب الممنهجة التي يتعرضون لها، والتي دفعت العديد من المنظمات الحقوقية لتوصيف السجون الإسرائيلية بـ”معسكرات تعذيب” بحق الأسرى الفلسطينيين.
وفي هذا السياق، أفادت العديد من الشهادات التي نقلتها هيئة شؤون الأسرى، إثر زيارة محاميها خالد محاجنة لبعض معتقلي قطاع غزة في سجن “عوفر”، أن العديد من الأسرى فقدوا وعيهم نتيجة للضرب المفرط والمفتوح الصلاحية، ما تسبّب في استشهاد العشرات منهم نتيجة التعذيب الوحشي.
أساليب تعذيب الأسرى في “سديه تيمان”.. حوار مع المحامي خالد محاجنة
كما استوحش جنود الاحتلال في معاملة الأسرى بصورة مهينة، شملت تعريتهم من ملابسهم وضربهم وتعذيبهم لفظيًا وجسديًا، وبحسب الشهادات السابقة فإن آلية التعذيب شملت تكسير العظام وإحداث إصابات خطيرة في الرأس، كما شكلت عملية نقل الأسرى إلى المستشفيات مرحلة أكثر وحشية في التعذيب.
كذلك شملت سياسات القمع بحرمانهم من أدنى حقوقهم، مثل الحق في الطعام والشرب والحصول على أدوات النظافة الشخصية، ما أدى إلى تفشي الأمراض فيما بينهم كالجرب.
وكانت “إسرائيل” قد أثارت جدلًا واسعًا بسبب انتهاجها الاغتصاب كوسيلة تعذيب في معتقل سديه تيمان الذي يُعرف بسوء سمعته، وبحسب تقارير حقوقية فإن هذا المعتقل تفرد بوحشية لا نظير لها في التعذيب، شملت إبقاء المعتقلين مقيدين الأطراف على الدوام، ما أدى إلى تسجيل حالات بتر، إضافة إلى التعذيب الجنسي.
الاعتقال الممنهج كجزء من الإبادة الجماعية
يشكل الاعتقال الممنهج جزء من الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، وذلك في ظل منع إسرائيل المؤسسات الحقوقية والطبية من زيارة المعتقلين أو الوصول إليهم، في حين أن أغلب الشهادات إما وصلت عن طريق عدد قليل أُفرج عنه من معتقلي القطاع، وهو عدد يعدّ قليلًا مقارنة بعدد المعتقليين الذين أُخفوا قسرًا، وإما عن طريق إحدى المحاميين كالمحامي خالد محاجنة الذي سُمح له بزيارة معتقل عوفر وسيديه تيمان.
يشكل الاعتقال الممنهج جزءًا من جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، حيث تعمل “إسرائيل” على منع المؤسسات الحقوقية والطبية من زيارة المعتقلين أو الوصول إليهم، ما يعني أن الشهادات المتوفرة عن هذه المعتقلات جرى جمعها من عدد قليل من المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم، وهو عدد ضئيل مقارنة بعدد المعتقلين الذين أخفوا قسرًا.
وتهدف “إسرائيل” من تعميم الظروف القاسية على جميع المعتقلات التي تضم أسرى قطاع غزة إلى تنفيذ سياسة ممنهجة من القتل البطيء، من خلال حرمان المعتقلين من أبسط مقومات الحياة، رغم أن غالبيتهم من المدنيين العزل الذين تم اعتقالهم بشكل غير قانوني من داخل القطاع.
تعدّ المعتقلات الإسرائيلية، بما في ذلك جناح راكفت الذي استحدثته “إسرائيل” مؤخرًا، انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والإنساني، إذ تتجاوز “إسرائيل” بشكل واضح الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، وتعاملهم معاملة غير إنسانية تهدف إلى نزع صفتهم البشرية، في اتساق مع تصريحات القيادات الإسرائيلية التي وصفت الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية”.
وعلى إثر هذه الممارسات البشعة وغيرها، تواجه “إسرائيل” اتهامات بارتكاب جريمة إبادة جماعية، إذ تجاوز عدد الشهداء في قطاع غزة 46 ألفًا، بالإضافة إلى أكثر من 109 آلاف جريح، كما ارتكبت كارثة إنسانية تستمر وتيرتها في القصف والموت، وتدمير القطاع الصحي بالكامل، وحجب المساعدات الإنسانية بجميع أشكالها، وهو الواقع الذي نأمل أن ينتهي بعد الوصول إلى اتفاق الهدنة خلال الأيام القليلة المقبلة.