في الآونة الأخيرة، استحوذت المنتجات والسلع على غالبية المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، ومن حينها لم يعد استخدام هذه المنصات مقتصرًا على التواصل ومواكبة الأخبار في العالم، وإنما أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عالم التجارة الحديثة التي حولت هذه المواقع إلى متاجر ومستخدميها إلى مستهلكين شرهين يمتلكون كل ما يرغبون به بضغطة زر وخلال ثوانٍ.
المثير للاهتمام في هذا الجانب هو دخول أسواق البالة أو الأدوات المستعملة إلى هذه الساحة ومنافسة مسوقي الملابس الجديدة بقوة، وبحسب بعض التقارير، أصبح هذا النوع من التجارة يشكل تحديًا وأحيانًا تهديدًا لبعض نماذج البيع الأخرى، ومن باب تسليط الضوء على ما يحدث داخل السوق الإلكتروني وأسباب اندفاع العالم نحو سوق الأدوات المستعملة، نستعرض في هذا المقال تاريخ سوق البالة التقليدي وسبب نموها بسرعة في العالم الافتراضي.
قصة ظهور أسواق البالة التقليدية
في مطلع القرن الرابع عشر، لم يكن باستطاعة جميع الناس في العالم شراء ملابس جديدة بسبب ندرة توافرها وارتفاع أسعارها، إذ كانت كل قطعة تُصمم من أجل شخص واحد ولمناسبة محددة، وكان عمرها يطول لسنوات وسنوات وحتى لعقود، فلقد اعتادت الأمهات والآباء توريث مقتنياتهم إلى الأبناء، كما كان أصحاب الطبقات الرفيعة يقدمون ملابسهم المستعملة للعاملين لديهم كطريقة لدفع الأجور والمستحقات.
زاد الإقبال الشعبي عليها حفاظًا على موارد البيئة الطبيعية واحتجاجًا على ظروف التصنيع القاسية التي يتعرض لها عمّال مصانع شركات العلامات التجارية الكبرى
وفي منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت الملابس متوافرة لجميع الطبقات الاجتماعية تقريبًا وسلعة اقتصادية تصدر للأسواق الأخرى، وخلال الحرب العالمية الثانية، ظهرت أسواق البالة في أوروبا لأول مرة، وبدأت كأسواق لبيع أشياء وملابس الجنود الأمريكيين الذين مروا من المدن الأوروبية، وتدريجيًا باتت هذه الأسواق ملجأ الناس في جميع دول العالم، ولكن الطلب عليها ازداد في البلدان النامية وانخفض في الدول الصناعية المتقدمة، والسبب أن الدول الاستعمارية كانت تصدر الملابس المستعملة والأدوات المملوكة مسبقًا إلى مستعمراتها
في الجهة الأخرى، اعتمدت الجمعيات والمنظمات الخيرية على هذه الأسواق وأرباحها في جمع التبرعات والمساعدات، ولكن في فترة الثمانينيات اختلفت توجهات هذه المحال وباتت أهدافها ربحية بحتة، تلاحق النساء والرجال الذين يبحثون عن ملابس عصرية وأنيقة بأسعار معقولة، إلى أن اتسعت نماذج البيع لديها واختلفت مستويات جودة السلع وشملت الحقائب والأحذية والكتب والأدوات الموسيقية والمعدات المنزلية والرياضية وغيرها الكثير من السلع التي سيطرت عليها متاجر التجزئة لسنوات عديدة.
أما اليوم، فلقد ازداد انتشارها والإقبال الشعبي عليها بشكل واسع، ليس فقط بسبب انجذاب بعض الأشخاص إلى الأزياء العتيقة والكلاسيكية، ولكن أيضًا بسبب التوجهات الفكرية الواعية بالتكلفة الحقيقية للموضة السريعة التي تدعم إعادة تدوير الملابس والأدوات المستعملة حفاظًا على موارد البيئة الطبيعية واحتجاجًا على ظروف التصنيع القاسية التي يتعرض لها عمّال مصانع شركات العلامات التجارية الكبرى، فبحسب دراسة حديثة أجرتها مؤسسة “إلين ماكثر”، فإن عربة واحدة مملوءة بالأقمشة تُهدر كل ثانية، وصناعة الأزياء تعتبر ثاني أكبر مستهلك وملوث للمياه على مستوى العالم.
قيمة سوق الأدوات المستعملة الإلكترونية الاقتصادية
في البداية، سوف نتحدث عن السوق الإلكترونية التركية كمثال على أسواق البالة الافتراضية التي تشهد طفرة في نموها وانتشارها، إذ تملك تركيا نحو 13 تطبيقًا مختصًا ببيع الأدوات المستعملة، بدايةً من الكتب والإكسسورات ونهاية بالأدوات المنزلية والسيارات وغيرها الكثير، وكل ذلك بأسعار زهيدة ومعقولة جدًا. يضاف إلى ذلك بأنها تعتمد على الأسماء الشهيرة والشخصيات العامة في الترويج للمنتجات المسوقة على منصاتها.
يتم تحميل نحو 9 آلاف منتج على سوق “دولاب” الرقمي وينضم إليه أكثر من 3 آلاف عضو يوميًا، و20% من المنتجات التي يتم بيعها تعود لعلامات تجارية فاخرة
وبحسب بعض التقارير، فلقد بلغت قيمة الملابس المستعملة والمعروضة إلكترونيًا نحو 400 مليون ليرة تركي، ومن المتوقع أن تنمو السوق بشكل عام بنسبة 130% في عام 2025 وذلك بناءً على آمال أحد مؤسسي هذه التطبيقات، وهو جنك تشيفيتشي، مؤسس تطبيق “دولاب” الذي قال: “مع نمو الموضة السريعة وتكدس الخزائن بالملابس باستمرار، امتلك الشباب نظرة إيجابية تجاه فكرة اقتناء ملابس وأدوات مستعملة لعلامات تجارية شهيرة، مع إتاحة المجال لكسب المال من بيع أشيائهم الخاصة”.
جدير بالذكر أنه يتم تحميل نحو 9 آلاف منتج على سوق “دولاب” الرقمي وينضم إليه أكثر من 3 آلاف عضو يوميًا، و20% من المنتجات التي يتم بيعها تعود لعلامات تجارية فاخرة مثل لويس فويتون وشانيل ومايكل كورس وغوتشي، ومن جهة أخرى تتصدر علامات تجارية أخرى مثل زارا ومانجو وجدج، كما تعد العلامات التجارية الرياضية مثل نايك وأديداس من أكثر العلامات مبيعًا، وأكثر المتسوقين من النساء اللواتي تقل أعمارهن عن 25 عامًا، وتبلغ نسبتهن نحو 80%.
من المرجح أن ترتفع قيمة السوق إلى 64 مليار دولار بحلول عام 2028، في حين أن أزياء الموضة السريعة لن تصل إلا إلى 44 مليار دولار
وعادةً ما تجري عملية البيع كالتالي: يصور المستخدم وهو البائع الرقمي في هذه الحالة، أحد أغراضه التي يرغب في بيعها، وليكن حذاءً على سبيل المثال، ويذكر عدد المرات التي ارتداه وما علامته التجارية وما المبلغ المطلوب ومدة وكيفية التوصيل، ويمكنك كمستهلك أو زبون أن تختار ما يلائم ذوقك وميزانيتك الخاصة.
إلى جانب تطبيق “دولاب”، اكتسح تطبيق “موضة كروز” الساحة منذ تأسيسه عام 2014، إذ تبلغ القيمة الإجمالية للمنتجات داخل الموقع 155 مليون ليرة تركية، محققًا 5 ملايين زيارة في الشهر الواحد مع زيادة في حجم المبيعات بنسبة 500% في الربع الأول من العام.
وبعيدًا عن السوق التركية، لم تتوافر أرقام رسمية عن إجمالي قيمة سوق الملابس المستعملة، ولكن أشارت الإحصاءات أن قيمتها بلغت 24 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها عام 2018، مقابل 35 مليار دولار للأزياء السريعة، ما يشير بكلمات أخرى إلى أن رغبة المستهلكين في ارتداء ملابس جديدة تتضاءل وهناك منافس جديد لنماذج البيع التقليدية، لا سيما أنه من المرجح، أن ترتفع قيمة السوق إلى 64 مليار دولار بحلول عام 2028، في حين أن أزياء الموضة السريعة لن تصل إلا إلى 44 مليار دولار.
وإذا بحثنا عن أسباب نمو هذه السوق في كلا البلدين النامية والمتقدمة، سنلاحظ أنها نفسها التي شجعت الناس سابقًا على الشراء من أسواق البالة التقليدية، وهي زيادة وعي المستهلك بالاستدامة والمسؤولية البيئية وأهمية إعادة التدوير والتداول وإقناعه بنموذج جديد يسمح له بتغيير خزانة ملابسه بسهولة، ما أثر على سلوكهم وقراراتهم الشرائية. يضاف إلى ذلك أن زوال الحرج الاجتماعي من شراء أو بيع المواد المستعملة علنًا، ساهم بشكل أو بآخر في زيادة الإقبال الشعبي على هذه المتاجر الإلكترونية، فلطالما تخوف رواد هذه الأماكن من الوصمة الاجتماعية والنظرة الدونية لهم، إلا أن هذه المحال الرقمية باتت غطاءً جيدًا لهم ومنحتهم الفرصة للتعامل براحة وسهولة دون القلق من التعليقات الاجتماعية المزعجة.