قبل نصف قرن من الزمان، عندما انطلقت مهمة “أبولو 11” (Apollo11)، المعروفة باسم إيجل (أي النسر)، إلى سطح القمر، انضم صفوف من العلماء وخبراء الفضاء في ولاية تكساس بالولايات المتحدة إلى بقية العالم لمشاهدة هذه المحاولة، التي ولدت من رحم صراع دولي لغزو الفضاء والوصول إلى القمر، وانتهت إلى توحيد العالم بأسره، حتى ولو للحظة واحدة على الأقل.
على متن المركبة الفضائية كان طيار الوحدة القمرية إدوين ألدرين، وطيار وحدة القيادة والخدمة (كولومبيا) مايكل كولينز، الذي كان دوره في نقل الرجلين من الأرض والعودة مرة أخرى، والقائد نيل أرمسترونغ الذي شاهد ما يُقدَّر بنحو 650 مليون شخص صورته المتلفزة، وسمعوا صوته وهو يخطو على القمر ويقول جملته الشهيرة “هذه خطوة صغيرة لرجل، وقفزة عظيمة للبشرية”.
من بين أولئك الذين كانوا في مهمة التحكم في هيوستن، أكبر مدن ولاية تكساس، كان جين كرانز، أحد مديري رحلات “أبولو 11″، وإلى جانب بقية الطاقم الأرضي انضم عالم مصري يبلغ من العمر 31 عامًا. اسمه فاروق الباز، ومعروف في دوائر “ناسا” باسم “الملك” الذي ساعد البشر على دراسة القمر، لكن قلة من الناس في المنطقة قد يدركون أن مصر لعبت دورًا مهمًا في نجاح “أبولو 11”.
عالم مصري في “ناسا”
لم يكن الباز فقط سكرتير لجنة اختيار مواقع الهبوط لمهام “أبولو” التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” خلال سنوات عمله الأولى بالوكالة من 1967 إلى 1972، ولكن أيضًا محقق رئيسي في الملاحظات المرئية والتصوير الفوتوغرافي ورئيس مجموعة تدريب رواد فضاء فريق “أبولو” على رصد القمر.
كما كان الباز جزءًا من الفريق الذي صادق على ملاءمة موقع جميع عمليات الهبوط البشرية الستة على سطح القمر، ما يعني أنه يتحمل أي خطأ سيؤثر بشكل سيء على المشروع بأكمله، وقد يؤدي إلى إلغاء مهمة “أبولو” بأكملها، لذلك لم يكن بإمكان العالم المصري خلال الهبوط سوى التفكير في نجاح المهمة خلال رؤية رائدي الفضاء.
هذا الشاب المصري الطموح أصبح الآن جزءًا من لحظة تاريخية من المساعي الإنسانية، في الواقع، بعد قفزة أرمسترونغ العظيمة للبشرية، وعودة ألدرين وكولينز الآمنة إلى الأرض، كتب الباز اسمه في كتب التاريخ
وبينما كان يشاهد أرمسترونغ وألدرين في هذا الحدث التاريخي، قبل 50 عامًا، في 20 من يوليو/أيار 1969، تسبب إدراك الباز أن هذين الرجلين سيكونان أول شخصين على الإطلاق يمشيان على سطح سطح القمر، في شعوره بسرعة في خفقان القلب بشكل مفاجئ.
كما يقول الباز في حوار صحفي نشره موقع Gulf News، كانت سلامة موقع الهبوط نفسه مصدر قلق خاص له، حيث كان سطح القمر يستعد لاستقبال هذه الوحدة الفضائية التي صنعها الإنسان، ويواصل قائلاً: “لقد تنفسنا جميعًا الصعداء عندما هبطت المركبة الفضائية مع بقاء 60 ثانية فقط من الوقود في محركها.
ويمكن أن نجد نشاط الباز بتعريف رواد برنامج “أبولو” على جيولوجيا الجرم الأقرب للأرض، وتعليمهم كيف ينتقون العينات المناسبة من أحجار القمر وتربته، لإحضارها إلى الأرض وتحليلها ودراستها، وبالفعل، عاد رواد الفضاء إلى الأرض وأحضروا معهم نحو 21 كيلوغرامًا من صخور القمر وعينات من تربته لدراستها في المعامل على الأرض.
أفراد طاقم أبولو 11 (من اليسار إلى اليمين) أرميسترونغ، كولينز، ألدرين
بعد أشهر من مهمة “أبولو 11” على الأرض، رتّب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون تسليم الولايات والأقاليم الأمريكية و135 دولة أخرى بعض العينات القمرية الصغيرة، مرفقًة بالعلم الأمريكي، كهدايا دبلوماسية، لكن الاتحاد الاتحاد السوفيتي الذي خسر سباق الفضاء بالهبوط بالبشر على سطح القمر أمام الولايات المتحدة، لم يكن على قائمة هذه الدول.
“الملك.. سيد القمر والمريخ“
عام 1969، كان الباز لا يزال بعيدًا بنحو عام عن أن يكون مواطنًا يحمل الجنسية الأمريكية، لكن هذا الشاب المصري الطموح أصبح الآن جزءًا من لحظة تاريخية من المساعي الإنسانية، في الواقع، بعد قفزة أرمسترونغ العظيمة للبشرية، وعودة ألدرين وكولينز الآمنة إلى الأرض، كتب الباز اسمه في كتب التاريخ.
ويتذكر الباز المكانة الفريدة التي شغلها في “ناسا” خلال أيامه الأولى كعالِم جاء من مكان بعيد عن الولايات المتحدة، لا سيما كواحد من الشرق الأوسط في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي عانى من هزيمة كارثية ألحقتها به “إسرائيل” في حرب عام 1967، الأمر الذي دفعه إلى إقامة علاقات مع المنافس الأول عدو الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي، الذي أرسل أول قمر صناعي إلى مدار حول الأرض، وأثار هذا القمر “سبوتنيك 1” الرعب في الولايات المتحدة.
لم يحصل الباز بسهولة على فرصة عمل في وكالة “ناسا” للفضاء إلا بعد رحلة طويلة من البحث عن عمل شهدت عشرات الطلبات للتوظيف في أكثر من مكان وتخللها اضطراره للعمل في مهن بعيدة تمامًا عما تعلمه في فترة دراسته
كان الباز بالنسبة للأمريكيين “أجنبيًا”، لأنه لم يتمكن من التقدم بطلب للحصول على الجنسية إلا بعد 3 سنوات من الإقامة في الولايات المتحدة، كما كان جيولوجيًا في مجال التعدين وليس لديه خلفية في علم الفلك، كما كان عربيًا ومصريًا في وقت كان فيه السوفييت في جميع أنحاء مصر، لهذا كان عليه أن يثبت نفسه ليلقى الاحترام، لا سيما في البداية.
منذ ذلك الحين، قام فاروق الباز برعاية عمل رواد الفضاء من وجهة جيولوجيا القمر، فحين لاحظ قلق رواد رحلة “أبولو 15” إلى القمر عام 1971، نصحهم بأن يأخذوا معهم “سورة الفاتحة” فطبعها لهم على ورقة في بيته، وقام وبناته بتسجيل أسمائهم عليها، ثم أدوا الصلاة يوم انطلاق الرحلة والدعاء للرواد، وبعدها سلم “الفاتحة” إلى قائد البعثة، موضوعة بعلبة بلاستيك، فتركها على القمر.
قائد وحدة القيادة في هذه الرحلة، الرائد ألفريد وردن، صديق وزميل الباز، شهد من مدار حول القمر كان فيه مع رائدين آخرين قبل الهبوط، بأهمية ما تعلمه من الدكتور الباز، المتخصص بالجيولوجيا، ووصف المصري الأمريكي بأنه “رجل استثنائي فريد من نوعه”.
وفي إشارة إلى لقب الباز “الملك” الذي كانوا وما زالوا يطلقونه على الباز إلى الآن، لأنه كمصري ذكرهم دائمًا بالملك فاروق، نُقل عن وردن على نطاق واسع قوله: “لقد كنت مجهزًا تجهيزًا جيدًا للغاية للقيام بما يجب القيام به على متن الطائرة بفضل فاروق، بعد تدريب الملك، أشعر أنني كنت هنا من قبل”.
كان الباز جزءًا من الفريق الذي اختار مواقع الهبوط لمهام “أبولو 11” وتدريب رواد الفضاء على التصوير الفوتوغرافي
وبموجب تعليمات الباز، أصدر وردن، مؤلف كتاب “رحلة إلى القمر.. رائد فضاء يسقط إلى الأرض”، 15 تحية بعدة لغات من الفضاء، بما في ذلك اللغة العربية، وتمكن رائد الفضاء، البالغ من العمر 87 عامًا، من أن يتحدث لغة الباز الأصلية لزميله، وكرر عبارة “مرحبًا أهل الأرض، تحية من إنديفور (مركبة فضائية)”.
بعد انتهاء برنامج “أبولو”، انضم الباز إلى مشروع اختبار “أبولو – سويوز” عام 1973، حيث عمل كرئيس الملاحظة الكونية والتصوير في المشروع التجريبي، الذي قام بأول مهمة مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي للدوران حول الأرض، بعد ذلك، عاد إلى جذوره الصحراوية، حيث كرَّس بقية حياته المهنية لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من صور الفضاء لأشكال الصحراء، وزيارة الأراضي الجافة للأرض في جميع القارات.
رحلة الوصول إلى “ناسا”
خرج العالم المصري الشهير والجيولوجي البارز فاروق الباز من قرية بسيطة تُدعى طوخ الأقلام بمدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، في 2 من يناير/كانون الأول 1938. فقدانه بعض الدرجات في الشهادة الثانوية أضاع منه حلم كلية الطب، ليقوده القدر إلى قسم العلوم، وتحديدًا قسم الجيولوجيا، ويسهم فيما بعد بعمله الرائد في إنجاح هبوط سفينة الفضاء “أبولو 11” على سطح القمر قبل نصف قرن من الآن.
حصل الباز على البكالوريوس عام 1958 من جامعة عين شمس بالقاهرة، ومعها منحة تفوق لاستكمال دراسته في الولايات المتحدة، حيث حصل على شهادة الماجستير في الجيولوجيا من معهد علم المعادن بولاية ميزوري الأمريكية عام 1961، ثم شهادة الدكتوراة في علم التكنولوجيا الاقتصادية عام 1964.
اجتهاده وحماسته الملحوظان ساهما في انتقاله السريع من مجرد موظف شاب إلى سكرتير لجنة اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر بعد 3 أشهر فقط من التحاقة بالوكالة الأمريكية
درس الباز في جامعة ماساشوتس للتكنولوجيا، واستكشف كثيرًا جيولوجيا الأرض، وزار أغلب المناجم في الولايات المتحدة، لتبدأ رحلته الاستكشافية بالعمل في وكالة “ناسا” الأمريكية 1967.
لم يحصل الباز بسهولة على فرصة عمل في وكالة “ناسا” للفضاء إلا بعد رحلة طويلة من البحث عن عمل شهدت عشرات الطلبات للتوظيف في أكثر من مكان وتخللها اضطراره للعمل في مهن بعيدة تمامًا عما تعلمه في فترة دراسته.
وخلال حضوره ندوة نظمتها مكتبة الإسكندرية، في أبريل/نيسان الماضي، استعرض الباز قصة حياته بداية من التحاقه بكلية العلوم، ومن ثم تعيينه أستاذًا في معهد بمحافظة السويس في قسم الكيمياء رغم حصوله على الماجستير والدكتوراة في الجيولوجيا، مشيرًا إلى أنه تقدم بطلب إلى الرئيس السابق جمال عبد الناصر لنقله للتدريس في مجال دراسته، ولكن الموضوع لم يتم سوى بذهابه إلى وزارة القوى العاملة على اعتبار أنه عاطل يبحث عن عمل.
في البداية، عمل في إحدى الشركات العاملة في التنقيب عن البترول في منطقة البحر الأحمر، ونجح خلال هذه الفترة في الحصول على تأشيرة للسفر إلى فرنسا صالحة لمدة أسبوعين فقط، موضحًا أنه حاول السفر إلى الولايات المتحدة في ذلك الوقت ولكن السفير رفض، وحصل على التأشيرة عقب 6 أشهر.
وفور وصوله إلى الولايات المتحدة، بدأ الباز رحلة البحث عن عمل في الجامعات والمعاهد لتوفير احتياجات أسرته، حيث قدم 120 طلبًا، وعندما لم يتمكن من الحصول على عمل فوري عمل في دهان الحوائط بالمنازل لمدة تزيد على 4 أشهر، إلى أن كان طلب الحصول على وظيفة رقم 121 لوكالة “ناسا” الفضائية، التي أجرى فيها مقابلة شخصية معه، وانضم لفريق مكون من 40 جيولوجيًا يعمل منذ 6 سنوات للتحضير لرحلة إلى القمر “أبولو” عام 1967.
صخور مهمة “أبولو 11” في أثناء حملها إلى مختبر استلام العينات القمرية التابع لوكالة ناسا بعد وصولها إلى الأرض
اجتهاده وحماسته الملحوظان ساهما في انتقاله السريع من مجرد موظف شاب إلى سكرتير لجنة اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر بعد 3 أشهر فقط من التحاقة بالوكالة الأمريكية، واستطاع بعد ذلك أن يحجز سريعًا مقعد المقدمة في العديد من المؤسسات العلمية الدولية.
أمَّا عن مشواره الأكاديمي، فقد قام الدكتور الباز بتدريس علم الجيولوجيا بجامعات عديدة داخل مصر وخارجها، حيث عمل في جامعة أسيوط (جنوب مصر) في الفترة من 1958 وحتى عام 1960، ثم جامعة نيوزري بأمريكا من عام 1963 وحتى عام 1964، ثم سافر إلى ألمانيا للتدريس في جامعة هيدلبرج (1964-1965).
وشغل الباز العديد من المناصب العلمية، منها منصب مدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بُعد في جامعة بوسطن الأمريكية، ومن عام 1967 إلى عام 1972، عمل الباز بمعامل “بيل” بواشنطن كمشرف على التخطيط للدراسات القمرية واستكشاف سطح القمر، وخلال هذه السنوات، اشترك في تقديم برنامج الوكالة الوطنية للطيران والفضاء “ناسا” للرحلات المدارية للقمر، بالإضافة إلى عضويته في المجموعات العلمية التدعيمية لإعداد مهمات رحلات “أبولو” إلى سطح القمر.
كما شغل فاروق الباز منصب رئيس لفريق تدريبات رواد الفضاء في العلوم العامة وتصوير القمر خاصة، فضلاً عن منصب رئيس أبحاث التجارب الخاصة بالمراقبات الأرضية من الفضاء في مشروع الرحلة الأرضية المشتركة “أبولو – سويوز”، ورئيس الجمعية العربية لأبحاث الصحراء ومستشار علمي للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات بين عامي 1978 و1981.
عام 1986، انضم إلى جامعة بوسطن في مركز الاستشعار عن بُعد باستخدام تكنولوجيا الفضاء في مجالات الجيولوجيا والجغرافيا، وقد طوَّر نظام استخدام الاستشعار عن بُعد في اكتشاف بعض الآثار المصرية القديمة.
رغم تقاعده من منصب مدير مركز الاستشعار عن بُعد بجامعة بوسطن، وهو مركز معترف به من “وكالة ناسا”، فإنه يسافر بانتظام من منزله في ليسبورغ بولاية فرجينيا إلى الشرق الأوسط للترويج لأبحاث الصحراء
وكتب العالم المصري الشهير ما يقرب من 25 كتابًا منها كتاب “الصحراء والأرض الجافة” و”حرب الخليج والبيئة” و”ممر التعمير في الصحراء الغربية بمصر” و”أبولو فوق سطح القمر”، وهو الكتاب الذي قدَّم نسخة منه إلى ريك بيرمان المنتج التنفيذي لمسلسل المغامرة الأمريكي “ستار تريك: الجيل التالي” فتأثر بيرمان بما قرأ على ما يبدو، وأشاد بدور الباز في برنامج “أبولو” ثم وجد نفسه يطلق اسمه على مكوك فضائي في حلقات الموسم الثاني (1988– 198) من المسلسل، وهو اعتراف مشهود لمجهوده الذي ساعد وكالة الفضاء الأمريكية على استكشاف بيئة القمر الجيولوجية.
أمَّا تاريخه الحافل بالإنجازات فيذخر بما يتخطى 30 تكريمًا ووسامًا مصريًا ودوليًا، بينها جائزة الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس السادات وجائزة الامتياز العلمي والتكنولوجي من “ناسا”، كما اختاره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عضوًا بالمجلس الاستشاري لعلماء مصر، أمَّا الجمعية الجيولوجية الأمريكية فأنشأت جائزة سنوية باسمه اُطلق عليها “جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء.
اليوم، كرجل ثمانيني، وأب لـ3 بنات، لا يزال الباز نشطًا بشدة، ورغم تقاعده من منصب مدير مركز الاستشعار عن بُعد بجامعة بوسطن، وهو مركز معترف به من “وكالة ناسا”، فإنه يسافر بانتظام من منزله في ليسبورغ بولاية فرجينيا إلى الشرق الأوسط للترويج لأبحاث الصحراء مثل جهوده الرائدة في تطبيق صور الفضاء على استكشاف المياه الجوفية في المنطقة.